مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جرادة.. حكاية شباب يهربون من الفقر إلى الموت في «الساندريات»
بينهم مجازون وطلبة وتلاميذ ومنقعطون عن الدراسة سقط منهم موتى ومعطوبون
نشر في المساء يوم 01 - 12 - 2009

«الساندريات» آبار يحفرها الشباب المعطل في مدينة جرادة التي تبعد ب06 كلمترا إلى الجنوب الغربي من مدينة وجدة، لجؤوا إليها هربا من البطالة والفقر رغم المخاطر الكثيرة التي تنتظرهم، والتي خلفت قتلى ومعطوبين كثرا.
«آبار الموت هذه باتت لسخرية الظروف مصدر رزقنا، إذ بعد نحو عقدين من الدراسة والتحصيل وآمال طويلة عريضة عن الوظيفة الراقية والمسكن الفاخر والزوجة الجميلة والأولاد الطيبين صرنا شعث الرؤوس ملطخي الوجوه بلون الفحم الأسود، محطمي الإرادة, وكل آمالنا الحصول على وظيفة بسيطة تنقذنا من هذا الجحيم».. بهذه الكلمات لخص مجاز معطل من مدينة جرادة فضل تسمية نفسه ب«المهدي»، أضاف إليه ضاحكا «المنتظر» «بكسر الظاء» في تلميح للوظيفة المنتظرة, مأساة عمال آبار الفحم الحجري التي يطلق عليها محليا اسم «الساندريات». المهدي يحمل إجازة في الدراسات الإسلامية من جامعة محمد الأول بوجدة منذ عام 2001، قضى فترات طويلة من عمره بعد الإجازة وهو يبحث عن عمل لكن دون جدوى. يشرح ذلك بلغة حزينة: «نحن نعيش في مدينة لا يوجد فيها أي نشاط اقتصادي، فمنجم الفحم كان هو محور حياة المدينة وبعد توقفه عام 2001 توقف كل شيء، بحثت عن العمل في كل مكان بالجهة الشرقية, لكن دون جدوى، فالطلب يفوق العرض بكثير والمنطقة أصلا تعاني مشاكل كثيرة على مستوى البنية التحتية في منطقة تسمى أصلا المغرب غير النافع». وبعد طول ترحال بين «الكونكورات» كغيره من أبناء المنطقة، اضطر المهدي إلى فتح دكان صغير لبيع المواد الغذائية, سرعان ما أقدم على إغلاقه بسبب اشتداد المنافسة.. فجرادة كلها دكاكين تتخصص في الترويج للبضاعة نفسها تقريبا. يقول المهدي: «فشلت كل الأفكار، وضاقت علي الأرض بما رحبت فلم أجد سوى «الساندرية» أمامي لتوفير بعض المال لتفادي نظرات الأهل الساخطة، وللحصول على بعض المصروف الخاص، فلا يعقل وأنا في هذه السن أن أقبل على نفسي أخذ المال من أبي المريض». طالب آخر معطل مجاز في الأدب العربي، اعترف من جانبه بأنه فشل في اجتياز «امتحان الساندرية»، حيث حاول النزول مرات متتالية إلى أعماق الأرض لكنه كان يرتجف رعبا في كل مرة، ليقتنع في الأخير بالعمل «فوق» في تكسير وتنقية ما يتم تجميعه من فحم مقابل 50 درهما يوميا، في الوقت الذي يحصل فيه من يعملون «تحت» وسط المخاطر على 100 درهم يوميا إلى حين انتهاء الحفر بتلك البئر. حالة المهدي «المنتظر»، الذي ينتظر الوظيفة والزوجة الجميلة والمسكن الهادئ، لا تكاد تختلف عن حالة كثير من أبناء جرادة من المجازين المعطلين أو حتى الذين لم ينهوا دراستهم، سواء كانت ابتدائية أو ثانوية أو حتى جامعية. الكل وجد في هذه الآبار المنتشرة عبر أنحاء المدينة الحل المؤقت/الدائم لأزمة البطالة التي تعصف بالمدينة القريبة من الحدود الجزائرية. رئيس المجلس البلدي للمدينة، الدكتور افريقش، وهو طبيب وناشط جمعوي يحظى بالاحترام وسط أبناء المدينة لخدمته سابقا لآبائهم المرضى ب«السيلكوز» القاتل الناتج عن الفحم الحجري وخدمته لشباب المدينة ضمن جمعية «إسعاف»، اعترف بأنه رغم المخاطر المحدقة بالعمل داخل الآبار الفحمية، فإن الإقبال عليها من طرف الشباب بشكل خاص كبير جدا لما توفره لهم من دخل هم محرومون منه. ويضيف بأن الفحم الحجري موجود بكثافة في المدينة وما دام الوضع كذلك فالشباب سيسعون وراءه وكأنهم لا يعرفون مهنة غير مهنة الأجداد والآباء التي بدأت عام 1934 وانتهت رسميا على الأقل عام 2001.
بداية الحكاية..
يحكي «كريم.ت» وهو أحد العمال المشتغلين في «الساندرية» أن القصة بدأت بمجموعة شباب يجتمعون فيما بينهم ويشرعون في حفر «الساندرية» وسط ما تبقى من غابة جرادة مثلما يحفر الفلاحون الآبار بحثا عن الماء. ويوضح أن عرض البئر لا يتجاوز المتر الواحد إلا بالقليل في أغلب الأحيان، في حين يصل العمق إلى 40 أو 50 مترا، وهو ما أكده الدكتور افريقش الذي أضاف أن الخطورة لا تكمن هنا «بل عندما ينتهي الشباب بعد حفر نحو 50 مترا إلى طبقة الفحم ويشرعون في تتبعها في باطن الأرض بشكل أفقي متعرج هذه المرة». ومكمن الخطورة يوضح رئيس المجلس البلدي هو أن البئر تحفر بشكل تقليدي وبسبب ذلك تكون مهددة بالانهيار في أي لحظة، كما أن تتبع خطوط طبقات الفحم الحجري دون أدنى حماية من الانهيار والغازات السامة يشكل خطرا محدقا بالنسبة للشباب العامل». يشرح «كريم.ت» ما يجري بقوله: «عملية الحفر تتم بأدوات تقليدية، منها الفؤوس والمعاول، وننزل إلى قعر البئر بحبل متهالك بالطريقة التي يتم بها إنزال الدلو العادي». مرات عديدة انقطع الحبل فأصيب شباب كثر، كان همهم الهروب من الفقر والبطالة، بكسور وإصابات بالغة أثرت على «مستقبلهم» وزادته ضبابية. وأكد ناشطون جمعويون بالمدينة أنهم فكروا مرات كثيرة في تقديم أدوات حديثة للشباب تساعدهم على الحفر «لكننا كنا نتراجع في آخر المطاف لأننا نرى أننا بذلك نمد في عمر هذه الظاهرة التي آن لها أن تنقرض إلى الأبد». وشرح افريقش أنه يفكر بصفته رئيسا للمجلس البلدي منذ شهر يونيو الأخير في إيجاد خطة لمساعدة نحو 1500 شاب ممن يشتغلون في «الساندريات» على تنظيم أنفسهم للاستفادة على الأقل من الضمان الاجتماعي، وأكد ل «المساء» أن أغلب الشباب يرفضون ترك العمل في «الساندرية» لعدم وجود بدائل توفر لهم أموالا أكثر من تلك التي توفرها «الساندرية».
مخاطر بالجملة
السقوط من عل يبدو أخف الأضرار التي تلحق بشباب «الساندريات»، لأن المخاطر التي تنتظرهم مع تتبع طبقات الفحم بشكل أفقي بعد الانتهاء إلى قعر البئر، أشد خطورة وأكثر «سوداوية». يبرز «لحسن.أ»، (45 سنة) متزوج وأب لخمسة أبناء وهو عامل آخر ب«ساندرية» بأقصى المدينة في منطقة «حاسي بلال»، أنهم «مهددون بالتسمم بسبب الوجود المكثف للغازات السامة بباطن الأرض، كما نحن مهددون أيضا بنفاد الأوكسجين وانهيار الأرض علينا ونحن على بعد 40 مترا على الأقل عن قاع البئر الذي يوجد على عمق 50 مترا في بعض الأحيان». فلكي ينجو أحدهم من انهيار أرضي مفاجئ عليه أن يقطع مسافة 40 مترا زاحفا على بطنه بأقصى سرعة ليصل إلى قاع البئر فينقذه الزملاء الذين يوجدون فوق برفعه بالحبل المتهالك إلى أعلى! سيناريو مستحيل كما يشرح شباب «الساندريات»، وهو ما جعل الكلفة البشرية للعمل في هذه الآبار القاتلة مرتفعة وباهظة. أما بالنسبة للغازات السامة، فقد «اخترع» الشباب وسيلة لمواجهتها وتتمثل في إشعال شمعة وإذا ما لاحظوا أنها تنطفئ يولون الأدبار بسرعة لأنهم يتأكدون حينها أن الأوكسجين غير موجود. كل ذلك لتجميع فحم حجري يتم بيعه 5 ممن يوصفون بأنهم أباطرة تجارة الفحم بالمدينة، الذين يبقون المستفيدين الوحيدين من عرق الضحايا، حيث يجنون من ورائه الملايين بعد بيع ما يدفع الشباب حياتهم لأجله في صفقات كثيرة مع المؤسسات الإدارية والتعليمية. أما الشباب، فإلى جانب مخاطر الانهيار والغازات السامة، فإن مرض السيليكوز يجد طريقه إلى صدورهم مثلما وجدها من قبل إلى صدور أجدادهم وآبائهم، فتتدهور صحتهم إلى أن تتوقف، وسط غياب أي نوع من أنواع الحماية الاجتماعية. وقبل السيليكوز وبعده، يصاب الشباب وهم في عمر الزهور بأمراض تنفسية خطرة نتيجة استنشاقهم لمختلف أنواع الغازات السامة إلى جانب غبار الفحم وطبقات
الأرض.
ضحايا ومآس
محمد بوجخروط، أب في
ال50 من عمره، كان أحد ضحايا «الساندرية»، إذ قضى نحبه في الأسبوع الأول من فبراير الأخير وهو يبحث عن قوت أبنائه، وما يزال سكان جرادة يتذكرون قصته بتفاصيلها رغم مرور شهور على حدوثها. وقد صرح ولده وقتئذ ل «المساء» بأن أباه كان يعمل رفقة زملائه داخل «الساندرية لاستخراج الفحم حينما فاجأهم انفجار مخيف بسبب غازات منبعثة من باطن الأرض» لتنهار طبقة الفحم عليهم ويلقى والده حتفه على الفور، فيما أصيب اثنان من رفاقه بجروح خطرة كادت تودي بحياتهم.
ولم يكن بوجخروط أول الضحايا أو آخرهم، فقد قضى أحد الشباب المصير نفسه شهر يونيو الأخير، وثالث في شهر سبتمبر الماضي بعد انهيار طبقات الأرض عليه، مما دفع بشباب المدينة, بمشاركة أعضاء فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وممثلي عدد من منظمات المجتمع المدني، التي لا يكاد يسمع لها صوت إلا من مناسبة لأخرى، للخروج في تظاهرة حاشدة تطالب بتوفير مناصب شغل لأبناء المدينة وإغلاق «الساندريات» إلى الأبد. وانتهت المظاهرة الاحتجاجية بسلام، لكن مأساة «الساندريات» وأصحابها ما تزال مستمرة..
ولم تكن هذه الوفيات الفردية هي الحدث الأبرز في تاريخ «الساندريات» الأسود سواد الفحم الذي يستخرج منها، بل ما وقع قبل نحو 6 سنوات كان أكثر إيلاما وسوادا. فقد لقي أربعة أشخاص مصرعهم بطريقة بشعة شغلت بال الرأي العام الجرادي.. كان اثنان من الشباب يحفران مثل العادة، في الوقت الذي تكلف زميلهما بإيصال ما يتم حفره من فحم إلى طرف رابع ينقله إلى قاع البئر ويضعه في الدلو ليرفعه الشخص الخامس إلى فوق.. ما حدث لم يكن في الحسبان، حيث استمر الشابان في الحفر وفي لحظة تغير كل شيء، بعدما انفجرت الطبقة الأرضية كلها بمخزون مائي ضخم تحت الأرض فغرق الأربعة كلهم في لحظة واحدة بينهما شقيقان، ولم يعلم زميلهما الخامس، الذي كان وسيلة الإخبار عن المأساة والناجي الوحيد، بما جرى لرفاقه إلا بعد أن امتلأ قعر البئر بالماء وظهرت جثة أحدهم طافية. هرعت السلطات المحلية بأدواتها البسيطة إلى المكان رفقة مصالح الأمن الموجودة، لكنها عجزت عن تطهير البئر من المياه واستخراج الجثث. وانتظر الجميع حتى اليوم الموالي حينما حضرت الآليات من وجدة وتم استخراج الجثث الأربعة وتم دفنها في جنازة تاريخية بمقبرة المدينة. ولم تتوقف المأساة عند هذا الحد، بل أشيع أن سيدة هي شقيقة الأخوين الضحيتين لقيت حتفها بعدما علمت بنبإ وفاة أخويها.
لا بديل..
ورغم كل هذه المآسي لا تلمح في عيون شباب «الساندريات» سوى معالم الإصرار على الاستمرار في هذا العمل الذي لا يوجد بديل عنه في مدينة منحت المليارات من الدراهم طيلة سبعة عقود تقريبا للمستفيدين من خيراتها، في حين بقيت على حالها لا يتغير فيها شيء. فجرادة يسكنها حسب إحصاء 2004 حوالي 43 ألف شخص، ويوجد بها مستشفى متواضع, عوض مستشفى المدينة القديم المتهالك، دشن قبل شهور قليلة من طرف ملك البلاد محمد السادس. وسط المدينة لم يتغير من معالمه شيء منذ عقود، حيث بقي السوق المركزي «المارشي» هو هو، وحدها الوجوه التي تملؤه هي التي تغيرت. غير بعيد عنه تنتشر دواوير «أولاد سيدي علي» و«الزكارة» وأحياء «البلان» و«كارتيي 11» و«ديور النصارى». الحافلات الوحيدة الموجودة والمعدودة على رؤوس الأصابع تنقل غربا في اتجاه «حاسي بلال» وهي منطقة تبعد بنحو 7 كلمترات عن المدينة، وأحياء «إف 1»، وشمالا إلى منطقة لعوينات الفلاحية التي تبعد ب 14 كلمترا، وهذه هي كل مدينة جرادة. وحدهما مقر العمالة والمجلس البلدي تظهر عليهما آثار النعمة والفخامة، بجانب المسجد الرسمي الذي ظل على حاله سنوات طويلة، ولولا الزيارات المتتالية لملك البلاد إلى المدينة لما أنتهي من بنائه أبدا. وبالنسبة للشباب الذين لم يجدوا طريقا إلى الضفة الأخرى مثل مئات آخرين من زملائهم، فقد فتحوا دكاكين لبيع الكتب أو المواد الغذائية أو الحلاقة أو للإبحار في الإنترنت. والقاسم المشترك بين السكان وإن تعددت وظائفهم واختلفت مصادر رزقهم، هو الارتباط المشيمي بمدينة وجدة. فالذي يحتاج إلى «كابلات الحاسوب» عليه السفر إلى وجدة، والذي يريد أن يشتري سروالا أنيقا أو حذاء ذا جودة عالية عليه السفر إلى المدينة نفسها. أما العلاج فتلك حكاية أخرى، ووجه ثان للمأساة، فبسبب ضعف الإمكانيات في المستشفى الوحيد في المدينة، وبسبب غياب تجهيز حديث داخل العيادات المحدودة، ما يزال سكان جرادة من المرضى مضطرين إلى السفر إلى وجدة طلبا للعلاج في مستشفى الفارابي الإقليمي أو عيادات الأطباء الاختصاصيين. وترى المرأة الحامل التي تعاني ولادة مستعسرة أو الشيخ الذي يكافح داء السيلكوز الذي يخنق أنفاسه أو الشخص الذي أصيب في حادثة خطرة، مضطرين إلى مقاومة الخطر لمسافة 60 كلمترا، وهي المسافة الفاصلة بين جرادة ووجدة، حتى نقطة الوصول إلى المستشفى أو العيادة. وهو وضع مستمر منذ ميلاد المدينة مع ظهور الفحم بها عام 1927 والشروع في استغلاله من طرف الاحتلال الفرنسي عام 1934، حتى يومنا هذا. وحتى المصنع الحراري الوحيد الموجود بالمدينة، والذي يستقبل أفواجا من العمال الموسميين، بات السكان أول من يطالب بإغلاقه للأضرار الصحية الخطيرة التي يسببها لهم، حيث يشكون بأنه وراء ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان وسط السكان.
ماذا بعد إغلاق منجم جرادة
يحظى إدريس بنهيمة، مدير الخطوط الجوية الملكية الحالي، الذي كان وزير للطاقة والمعادن عام 1997، بنصيب وافر من انتقادات ساكنة جرادة، التي تحمله، رفقة وزراء ومسؤولين آخرين، المصير البائس الذي انتهى إليه مستقبل المدينة بعدما اتخذ قرار إغلاق منجمها رسميا دون التفكير في اتخاذ أي خطوة لإعداد بدائل اقتصادية لمساعدة المدينة وأبنائها على مواجهة مصيرهم، حيث كادت تختفي من على الخريطة بعد 2001 قبل أن تصمد بعد أن تدبر السكان أمرهم بعيدا عن الحكومة، من خلال الهجرة إلى إسبانيا أو إلى المدن المغربية الأخرى، أو إلى «الساندريات» التي تبقي أفواهها مفتوحة في انتظار سقوط ضحايا جدد. وتوجد أهازيج شعبية كثيرة تردد خلال الحفلات العائلية، توجه انتقادات لاذعة لبنهيمة وشبعة والإدريسي وغيرهم ممن تعاقبوا على تحمل المسؤولية في إهمال المدينة وتجهيزها لما بعد إغلاق المنجم.
وحتى لحظة الإغلاق اتفق مسؤولو وزارة الطاقة مع الهيئات النقابية وممثلي العمل بحضور مسؤولي منجم جرادة، بالإضافة إلى تعويض العمال، على وضع مخطط للنهوض الاقتصادي بالمدينة لتوفير بدائل لأبنائها عن المنجم الذي كان محور حياتها. صرفت التعويضات للعمال التي ضاع أغلبها في لاشيء، وأغلق المنجم وعاد الوزراء والمسؤولون إلى مكاتبهم، وأغلقت النقابات أفواهها، وبقي أبناء المدينة ينتظرون «المخطط الاقتصادي» الذي لم يجد بعد طريقه إلى الواقع، وظل مجرد حبر على ورق. في انتظاره دائما، يتوجه «المهدي» و«كريم.ت» و«لحسن.أ» ورفاقهم إلى «الساندريات» فجرا، ليغادروها مع غروب الشمس، إن قدر لهم النجاة من المخاطر التي تنتظرهم بباطن الأرض، وترافقهم في مغامراتهم اليومية تلك عيون الأمهات اللواتي يقفن على الأبواب يودعن فلذات أكبادهن وألسنتهن تلهج بالأدعية، وقلوبهن ترتجف ولا تقر إلا مع عودة الأبناء مساء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.