الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جرادة.. حكاية شباب يهربون من الفقر إلى الموت في «الساندريات»
بينهم مجازون وطلبة وتلاميذ ومنقعطون عن الدراسة سقط منهم موتى ومعطوبون
نشر في المساء يوم 01 - 12 - 2009

«الساندريات» آبار يحفرها الشباب المعطل في مدينة جرادة التي تبعد ب06 كلمترا إلى الجنوب الغربي من مدينة وجدة، لجؤوا إليها هربا من البطالة والفقر رغم المخاطر الكثيرة التي تنتظرهم، والتي خلفت قتلى ومعطوبين كثرا.
«آبار الموت هذه باتت لسخرية الظروف مصدر رزقنا، إذ بعد نحو عقدين من الدراسة والتحصيل وآمال طويلة عريضة عن الوظيفة الراقية والمسكن الفاخر والزوجة الجميلة والأولاد الطيبين صرنا شعث الرؤوس ملطخي الوجوه بلون الفحم الأسود، محطمي الإرادة, وكل آمالنا الحصول على وظيفة بسيطة تنقذنا من هذا الجحيم».. بهذه الكلمات لخص مجاز معطل من مدينة جرادة فضل تسمية نفسه ب«المهدي»، أضاف إليه ضاحكا «المنتظر» «بكسر الظاء» في تلميح للوظيفة المنتظرة, مأساة عمال آبار الفحم الحجري التي يطلق عليها محليا اسم «الساندريات». المهدي يحمل إجازة في الدراسات الإسلامية من جامعة محمد الأول بوجدة منذ عام 2001، قضى فترات طويلة من عمره بعد الإجازة وهو يبحث عن عمل لكن دون جدوى. يشرح ذلك بلغة حزينة: «نحن نعيش في مدينة لا يوجد فيها أي نشاط اقتصادي، فمنجم الفحم كان هو محور حياة المدينة وبعد توقفه عام 2001 توقف كل شيء، بحثت عن العمل في كل مكان بالجهة الشرقية, لكن دون جدوى، فالطلب يفوق العرض بكثير والمنطقة أصلا تعاني مشاكل كثيرة على مستوى البنية التحتية في منطقة تسمى أصلا المغرب غير النافع». وبعد طول ترحال بين «الكونكورات» كغيره من أبناء المنطقة، اضطر المهدي إلى فتح دكان صغير لبيع المواد الغذائية, سرعان ما أقدم على إغلاقه بسبب اشتداد المنافسة.. فجرادة كلها دكاكين تتخصص في الترويج للبضاعة نفسها تقريبا. يقول المهدي: «فشلت كل الأفكار، وضاقت علي الأرض بما رحبت فلم أجد سوى «الساندرية» أمامي لتوفير بعض المال لتفادي نظرات الأهل الساخطة، وللحصول على بعض المصروف الخاص، فلا يعقل وأنا في هذه السن أن أقبل على نفسي أخذ المال من أبي المريض». طالب آخر معطل مجاز في الأدب العربي، اعترف من جانبه بأنه فشل في اجتياز «امتحان الساندرية»، حيث حاول النزول مرات متتالية إلى أعماق الأرض لكنه كان يرتجف رعبا في كل مرة، ليقتنع في الأخير بالعمل «فوق» في تكسير وتنقية ما يتم تجميعه من فحم مقابل 50 درهما يوميا، في الوقت الذي يحصل فيه من يعملون «تحت» وسط المخاطر على 100 درهم يوميا إلى حين انتهاء الحفر بتلك البئر. حالة المهدي «المنتظر»، الذي ينتظر الوظيفة والزوجة الجميلة والمسكن الهادئ، لا تكاد تختلف عن حالة كثير من أبناء جرادة من المجازين المعطلين أو حتى الذين لم ينهوا دراستهم، سواء كانت ابتدائية أو ثانوية أو حتى جامعية. الكل وجد في هذه الآبار المنتشرة عبر أنحاء المدينة الحل المؤقت/الدائم لأزمة البطالة التي تعصف بالمدينة القريبة من الحدود الجزائرية. رئيس المجلس البلدي للمدينة، الدكتور افريقش، وهو طبيب وناشط جمعوي يحظى بالاحترام وسط أبناء المدينة لخدمته سابقا لآبائهم المرضى ب«السيلكوز» القاتل الناتج عن الفحم الحجري وخدمته لشباب المدينة ضمن جمعية «إسعاف»، اعترف بأنه رغم المخاطر المحدقة بالعمل داخل الآبار الفحمية، فإن الإقبال عليها من طرف الشباب بشكل خاص كبير جدا لما توفره لهم من دخل هم محرومون منه. ويضيف بأن الفحم الحجري موجود بكثافة في المدينة وما دام الوضع كذلك فالشباب سيسعون وراءه وكأنهم لا يعرفون مهنة غير مهنة الأجداد والآباء التي بدأت عام 1934 وانتهت رسميا على الأقل عام 2001.
بداية الحكاية..
يحكي «كريم.ت» وهو أحد العمال المشتغلين في «الساندرية» أن القصة بدأت بمجموعة شباب يجتمعون فيما بينهم ويشرعون في حفر «الساندرية» وسط ما تبقى من غابة جرادة مثلما يحفر الفلاحون الآبار بحثا عن الماء. ويوضح أن عرض البئر لا يتجاوز المتر الواحد إلا بالقليل في أغلب الأحيان، في حين يصل العمق إلى 40 أو 50 مترا، وهو ما أكده الدكتور افريقش الذي أضاف أن الخطورة لا تكمن هنا «بل عندما ينتهي الشباب بعد حفر نحو 50 مترا إلى طبقة الفحم ويشرعون في تتبعها في باطن الأرض بشكل أفقي متعرج هذه المرة». ومكمن الخطورة يوضح رئيس المجلس البلدي هو أن البئر تحفر بشكل تقليدي وبسبب ذلك تكون مهددة بالانهيار في أي لحظة، كما أن تتبع خطوط طبقات الفحم الحجري دون أدنى حماية من الانهيار والغازات السامة يشكل خطرا محدقا بالنسبة للشباب العامل». يشرح «كريم.ت» ما يجري بقوله: «عملية الحفر تتم بأدوات تقليدية، منها الفؤوس والمعاول، وننزل إلى قعر البئر بحبل متهالك بالطريقة التي يتم بها إنزال الدلو العادي». مرات عديدة انقطع الحبل فأصيب شباب كثر، كان همهم الهروب من الفقر والبطالة، بكسور وإصابات بالغة أثرت على «مستقبلهم» وزادته ضبابية. وأكد ناشطون جمعويون بالمدينة أنهم فكروا مرات كثيرة في تقديم أدوات حديثة للشباب تساعدهم على الحفر «لكننا كنا نتراجع في آخر المطاف لأننا نرى أننا بذلك نمد في عمر هذه الظاهرة التي آن لها أن تنقرض إلى الأبد». وشرح افريقش أنه يفكر بصفته رئيسا للمجلس البلدي منذ شهر يونيو الأخير في إيجاد خطة لمساعدة نحو 1500 شاب ممن يشتغلون في «الساندريات» على تنظيم أنفسهم للاستفادة على الأقل من الضمان الاجتماعي، وأكد ل «المساء» أن أغلب الشباب يرفضون ترك العمل في «الساندرية» لعدم وجود بدائل توفر لهم أموالا أكثر من تلك التي توفرها «الساندرية».
مخاطر بالجملة
السقوط من عل يبدو أخف الأضرار التي تلحق بشباب «الساندريات»، لأن المخاطر التي تنتظرهم مع تتبع طبقات الفحم بشكل أفقي بعد الانتهاء إلى قعر البئر، أشد خطورة وأكثر «سوداوية». يبرز «لحسن.أ»، (45 سنة) متزوج وأب لخمسة أبناء وهو عامل آخر ب«ساندرية» بأقصى المدينة في منطقة «حاسي بلال»، أنهم «مهددون بالتسمم بسبب الوجود المكثف للغازات السامة بباطن الأرض، كما نحن مهددون أيضا بنفاد الأوكسجين وانهيار الأرض علينا ونحن على بعد 40 مترا على الأقل عن قاع البئر الذي يوجد على عمق 50 مترا في بعض الأحيان». فلكي ينجو أحدهم من انهيار أرضي مفاجئ عليه أن يقطع مسافة 40 مترا زاحفا على بطنه بأقصى سرعة ليصل إلى قاع البئر فينقذه الزملاء الذين يوجدون فوق برفعه بالحبل المتهالك إلى أعلى! سيناريو مستحيل كما يشرح شباب «الساندريات»، وهو ما جعل الكلفة البشرية للعمل في هذه الآبار القاتلة مرتفعة وباهظة. أما بالنسبة للغازات السامة، فقد «اخترع» الشباب وسيلة لمواجهتها وتتمثل في إشعال شمعة وإذا ما لاحظوا أنها تنطفئ يولون الأدبار بسرعة لأنهم يتأكدون حينها أن الأوكسجين غير موجود. كل ذلك لتجميع فحم حجري يتم بيعه 5 ممن يوصفون بأنهم أباطرة تجارة الفحم بالمدينة، الذين يبقون المستفيدين الوحيدين من عرق الضحايا، حيث يجنون من ورائه الملايين بعد بيع ما يدفع الشباب حياتهم لأجله في صفقات كثيرة مع المؤسسات الإدارية والتعليمية. أما الشباب، فإلى جانب مخاطر الانهيار والغازات السامة، فإن مرض السيليكوز يجد طريقه إلى صدورهم مثلما وجدها من قبل إلى صدور أجدادهم وآبائهم، فتتدهور صحتهم إلى أن تتوقف، وسط غياب أي نوع من أنواع الحماية الاجتماعية. وقبل السيليكوز وبعده، يصاب الشباب وهم في عمر الزهور بأمراض تنفسية خطرة نتيجة استنشاقهم لمختلف أنواع الغازات السامة إلى جانب غبار الفحم وطبقات
الأرض.
ضحايا ومآس
محمد بوجخروط، أب في
ال50 من عمره، كان أحد ضحايا «الساندرية»، إذ قضى نحبه في الأسبوع الأول من فبراير الأخير وهو يبحث عن قوت أبنائه، وما يزال سكان جرادة يتذكرون قصته بتفاصيلها رغم مرور شهور على حدوثها. وقد صرح ولده وقتئذ ل «المساء» بأن أباه كان يعمل رفقة زملائه داخل «الساندرية لاستخراج الفحم حينما فاجأهم انفجار مخيف بسبب غازات منبعثة من باطن الأرض» لتنهار طبقة الفحم عليهم ويلقى والده حتفه على الفور، فيما أصيب اثنان من رفاقه بجروح خطرة كادت تودي بحياتهم.
ولم يكن بوجخروط أول الضحايا أو آخرهم، فقد قضى أحد الشباب المصير نفسه شهر يونيو الأخير، وثالث في شهر سبتمبر الماضي بعد انهيار طبقات الأرض عليه، مما دفع بشباب المدينة, بمشاركة أعضاء فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وممثلي عدد من منظمات المجتمع المدني، التي لا يكاد يسمع لها صوت إلا من مناسبة لأخرى، للخروج في تظاهرة حاشدة تطالب بتوفير مناصب شغل لأبناء المدينة وإغلاق «الساندريات» إلى الأبد. وانتهت المظاهرة الاحتجاجية بسلام، لكن مأساة «الساندريات» وأصحابها ما تزال مستمرة..
ولم تكن هذه الوفيات الفردية هي الحدث الأبرز في تاريخ «الساندريات» الأسود سواد الفحم الذي يستخرج منها، بل ما وقع قبل نحو 6 سنوات كان أكثر إيلاما وسوادا. فقد لقي أربعة أشخاص مصرعهم بطريقة بشعة شغلت بال الرأي العام الجرادي.. كان اثنان من الشباب يحفران مثل العادة، في الوقت الذي تكلف زميلهما بإيصال ما يتم حفره من فحم إلى طرف رابع ينقله إلى قاع البئر ويضعه في الدلو ليرفعه الشخص الخامس إلى فوق.. ما حدث لم يكن في الحسبان، حيث استمر الشابان في الحفر وفي لحظة تغير كل شيء، بعدما انفجرت الطبقة الأرضية كلها بمخزون مائي ضخم تحت الأرض فغرق الأربعة كلهم في لحظة واحدة بينهما شقيقان، ولم يعلم زميلهما الخامس، الذي كان وسيلة الإخبار عن المأساة والناجي الوحيد، بما جرى لرفاقه إلا بعد أن امتلأ قعر البئر بالماء وظهرت جثة أحدهم طافية. هرعت السلطات المحلية بأدواتها البسيطة إلى المكان رفقة مصالح الأمن الموجودة، لكنها عجزت عن تطهير البئر من المياه واستخراج الجثث. وانتظر الجميع حتى اليوم الموالي حينما حضرت الآليات من وجدة وتم استخراج الجثث الأربعة وتم دفنها في جنازة تاريخية بمقبرة المدينة. ولم تتوقف المأساة عند هذا الحد، بل أشيع أن سيدة هي شقيقة الأخوين الضحيتين لقيت حتفها بعدما علمت بنبإ وفاة أخويها.
لا بديل..
ورغم كل هذه المآسي لا تلمح في عيون شباب «الساندريات» سوى معالم الإصرار على الاستمرار في هذا العمل الذي لا يوجد بديل عنه في مدينة منحت المليارات من الدراهم طيلة سبعة عقود تقريبا للمستفيدين من خيراتها، في حين بقيت على حالها لا يتغير فيها شيء. فجرادة يسكنها حسب إحصاء 2004 حوالي 43 ألف شخص، ويوجد بها مستشفى متواضع, عوض مستشفى المدينة القديم المتهالك، دشن قبل شهور قليلة من طرف ملك البلاد محمد السادس. وسط المدينة لم يتغير من معالمه شيء منذ عقود، حيث بقي السوق المركزي «المارشي» هو هو، وحدها الوجوه التي تملؤه هي التي تغيرت. غير بعيد عنه تنتشر دواوير «أولاد سيدي علي» و«الزكارة» وأحياء «البلان» و«كارتيي 11» و«ديور النصارى». الحافلات الوحيدة الموجودة والمعدودة على رؤوس الأصابع تنقل غربا في اتجاه «حاسي بلال» وهي منطقة تبعد بنحو 7 كلمترات عن المدينة، وأحياء «إف 1»، وشمالا إلى منطقة لعوينات الفلاحية التي تبعد ب 14 كلمترا، وهذه هي كل مدينة جرادة. وحدهما مقر العمالة والمجلس البلدي تظهر عليهما آثار النعمة والفخامة، بجانب المسجد الرسمي الذي ظل على حاله سنوات طويلة، ولولا الزيارات المتتالية لملك البلاد إلى المدينة لما أنتهي من بنائه أبدا. وبالنسبة للشباب الذين لم يجدوا طريقا إلى الضفة الأخرى مثل مئات آخرين من زملائهم، فقد فتحوا دكاكين لبيع الكتب أو المواد الغذائية أو الحلاقة أو للإبحار في الإنترنت. والقاسم المشترك بين السكان وإن تعددت وظائفهم واختلفت مصادر رزقهم، هو الارتباط المشيمي بمدينة وجدة. فالذي يحتاج إلى «كابلات الحاسوب» عليه السفر إلى وجدة، والذي يريد أن يشتري سروالا أنيقا أو حذاء ذا جودة عالية عليه السفر إلى المدينة نفسها. أما العلاج فتلك حكاية أخرى، ووجه ثان للمأساة، فبسبب ضعف الإمكانيات في المستشفى الوحيد في المدينة، وبسبب غياب تجهيز حديث داخل العيادات المحدودة، ما يزال سكان جرادة من المرضى مضطرين إلى السفر إلى وجدة طلبا للعلاج في مستشفى الفارابي الإقليمي أو عيادات الأطباء الاختصاصيين. وترى المرأة الحامل التي تعاني ولادة مستعسرة أو الشيخ الذي يكافح داء السيلكوز الذي يخنق أنفاسه أو الشخص الذي أصيب في حادثة خطرة، مضطرين إلى مقاومة الخطر لمسافة 60 كلمترا، وهي المسافة الفاصلة بين جرادة ووجدة، حتى نقطة الوصول إلى المستشفى أو العيادة. وهو وضع مستمر منذ ميلاد المدينة مع ظهور الفحم بها عام 1927 والشروع في استغلاله من طرف الاحتلال الفرنسي عام 1934، حتى يومنا هذا. وحتى المصنع الحراري الوحيد الموجود بالمدينة، والذي يستقبل أفواجا من العمال الموسميين، بات السكان أول من يطالب بإغلاقه للأضرار الصحية الخطيرة التي يسببها لهم، حيث يشكون بأنه وراء ارتفاع نسبة الإصابة بالسرطان وسط السكان.
ماذا بعد إغلاق منجم جرادة
يحظى إدريس بنهيمة، مدير الخطوط الجوية الملكية الحالي، الذي كان وزير للطاقة والمعادن عام 1997، بنصيب وافر من انتقادات ساكنة جرادة، التي تحمله، رفقة وزراء ومسؤولين آخرين، المصير البائس الذي انتهى إليه مستقبل المدينة بعدما اتخذ قرار إغلاق منجمها رسميا دون التفكير في اتخاذ أي خطوة لإعداد بدائل اقتصادية لمساعدة المدينة وأبنائها على مواجهة مصيرهم، حيث كادت تختفي من على الخريطة بعد 2001 قبل أن تصمد بعد أن تدبر السكان أمرهم بعيدا عن الحكومة، من خلال الهجرة إلى إسبانيا أو إلى المدن المغربية الأخرى، أو إلى «الساندريات» التي تبقي أفواهها مفتوحة في انتظار سقوط ضحايا جدد. وتوجد أهازيج شعبية كثيرة تردد خلال الحفلات العائلية، توجه انتقادات لاذعة لبنهيمة وشبعة والإدريسي وغيرهم ممن تعاقبوا على تحمل المسؤولية في إهمال المدينة وتجهيزها لما بعد إغلاق المنجم.
وحتى لحظة الإغلاق اتفق مسؤولو وزارة الطاقة مع الهيئات النقابية وممثلي العمل بحضور مسؤولي منجم جرادة، بالإضافة إلى تعويض العمال، على وضع مخطط للنهوض الاقتصادي بالمدينة لتوفير بدائل لأبنائها عن المنجم الذي كان محور حياتها. صرفت التعويضات للعمال التي ضاع أغلبها في لاشيء، وأغلق المنجم وعاد الوزراء والمسؤولون إلى مكاتبهم، وأغلقت النقابات أفواهها، وبقي أبناء المدينة ينتظرون «المخطط الاقتصادي» الذي لم يجد بعد طريقه إلى الواقع، وظل مجرد حبر على ورق. في انتظاره دائما، يتوجه «المهدي» و«كريم.ت» و«لحسن.أ» ورفاقهم إلى «الساندريات» فجرا، ليغادروها مع غروب الشمس، إن قدر لهم النجاة من المخاطر التي تنتظرهم بباطن الأرض، وترافقهم في مغامراتهم اليومية تلك عيون الأمهات اللواتي يقفن على الأبواب يودعن فلذات أكبادهن وألسنتهن تلهج بالأدعية، وقلوبهن ترتجف ولا تقر إلا مع عودة الأبناء مساء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.