فتح في الأونة الأخيرة على المصراعين ملف مكافحة الرشوة ببلادنا و بات موضوعا ذو شجون كون المدير العام للأمن الوطني شدد شخصيا على العمل من أجل محاربتها بكل صرامة و شحذ سيوفه لأجل قطع دابرها .. في وقت يرى كثيرون بأن اجتثاث هذه الظاهرة بالمغرب أصبح من الصعوبة بما كان كونها جريمة يصعب إثباتها و حتى التحري فيها أو متابعتها لأنها تتطلب خبرة عالية لدى المتحرين و بآليات للإثبات أقوى مما هو معتمد في مجال جرائم عادية بحيث أن هذه الآفة التي تنخر كياننا كانت موجودة على الدوام و يذكر أحد القانونيين بأنه "لو لم يكن هناك من يخفي المسروق ما وجد لصوص " ما جعل استفحال الآفة تتفاقم أكثر فأكثر و التعايش معها أصبح لدى كثيرين أمر لا مفر منه في ظل الفوارق الاجتماعية .. و يرى مهتمون بأنه حينما يكون في بلد نمو اقتصادي كما هو الشأن ببلادنا ، فإن ظاهرة الرشوة تأخذ بالضرورة بعدا أوسع بدليل أنها عنصرا شائعا في التركيبة البشرية ، لا يمكن محاربتها إلا بطريقتين اثنتين لا ثالثة لهما التربية بيد أن مفكرون انتفوا نجاعة ذلك ، أما سن قانون خاص لمواجهتها يمكن أن تنضاف إليه المراقبة بعين المكان لضبط الأمورعلى حقيقتها و بالتالي المعالجة بزجر المتورطين ، لا يتعين وضع خط أحمر بشأنهم بخصوص اقتراف جرم الارتشاء ، بل يمكن وضع الكل كأسنان المشط حيال القانون و ألا يفلت أحد من الحد أو الإصلاح بفرض استيراتيجية واضحة و بالرغم من ذلك فالرشوة متغلغلة حتى النخاع في المجتمع و ترسخت تقاليدها و قد بات الإغراء المادي العدو الأول لكل من يمارس السلطة في وقت أن كثيرا من الموظفين لديهم رواتب محدودة متمكنين من كل شيء المسكن الراقي ، السيارة الفارهة علاوة على مشاريع أخرى .. و في سياق ذي صلة يبدو أنه لا يمكن لاقتصاد ينمو و يزدهر و يقف على أساس التنافسية و الجودة بالرغم من أننا كباقي الدول نعيش في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية و يعيش فقراءنا ككافة فقراء العالم و تسري بين ثناياه الرشوة ما يؤدي إلى عرقلة التنمية خاصة ببلد كالمغرب يفتقر لهبة كالنفط بل يقتصرعلى الفلاحة المعتمدة على أحوال الطقس و بحران يستحوذ عليهما أباطرة الصيد في الأعالي وبضعة ثروات معدنية .. و يرى البعض أن الأسلوب الأمثل لمحاربة ظاهرة الرشوة المتفشية بشكل فضيع بين أوساطنا اعتماد الشفافية ونهج الديمقراطية فيما يرى البعض الآخر أن هذه الأساليب لايمكن أن تتماشى و الإثراء اللامشروع ، لا يجوز بأي حال من الأحوال تفسير عوائق الرشوة لدينا بانعدام الديمقراطية ، بل أن الرشوة تجري في عروق الكثير منا مجرى الدم .. و في المقابل فإن الهيئة المركزية لمكافحة الرشوة لا نقول بأنها عاجزة عن القيام بدورها ، بل صرح المشرف عليها بأن ليس هناك خطوط حمراء في زجر المتورطين إلا أن الرشوة متجذرة في مجتمعنا و تحتاج إلى وقاية و تغيير العقليات و لذلك يجب أن يتحصن المواطنون و المجتمع من الانعكاسات السلبية لسوء التدبير المالي للأحزاب لأنه يمكن أن يستعمل في شراء الذمم و توزيع التزكيات و في بلوغ أشخاص مراكز النفوذ و سلطة ليست بغاية خدمة الصالح العام ، بل المصالح الذاتية ، فالرشوة هي استعمال موقع السلطة لأغراض أخرى..فإن الرشوة برأي كثيرين لم تعد ظاهرة أو آفة كما كان يخال البعض ، بل هي عادت نسق اقتصادي قائم بذاته يتحصن بمناعته و توازنه بإمكانه مقاومة كل شيء يأتي أمامه.. عديدون هم من يروا على سبيل المثال إلى أن الموظف أيا كان مكانه ببلادنا في الاعتقاد السائد عند البعض من هؤلاء لا يكفيه راتبه لمواجهة أعباء الحياة التي تثقل على كاهله ، فهل ينتظرون منه أن تبقى يده نظيفة ، بل يرى أيضا هؤلاء أن هكذا موظف يتمم البون الشاسع كفاصل بين مردود وظيفته و ما يتطلبه من مصروف عن طريق الرشا لأن تكلفة العيش في ظل الأسعار الملتهبة للمواد الغذائية علاوة على السكن ، و تكاليف الصحة ، التعليم و النقل و فوترة الكهرباء و الماء باتت بعيدة المنال.. خاصة و أن العصر يتطلب الكثير لأن الاستهلاك أصبح مضاعفا عما كانت عليه العادات سابقا ، فإذا نظرت إلى المغاربة ، تجد أن الكل يلبس نمطا واحدا و كأن ليست هناك فوارق طبقية ، الجميع يسعى إلى لبس من النوع الرفيع و امتطاء السيارة و غيرها من متطلبات الحياة في وقتنا الراهن .. و المدخول بالنسبة للموظف كما سبق و أن ذكرت في سياق الموضوع لا يكفي للحضوة بكافة الضروريات فلا مندوحة منه إلى البحث عن منبع آخر .. و في أعقاب اعتماد نظام المساعدة الطبية ، غدت آليات المستشفيات ببلادنا معطلة و أغلقت مراكز تحاقن الدم في وجه الفقراء و طفق أطباء االمصحات العمومية يوجهون المرضى للمختبرات و الصيدليات و العيادات التي يمكن التعامل معها فضلا عن أن المواطن المحتاج لمآربه اليومية في كافة القطاعات العمومية الأخرى بما فيها حواجز الأمن تكون أثناءها الرشوة سيدة الموقف بالرغم من الوصلات الإشهارية التي تحرم الرشوة على واجهات المرافق العمومية.. و قد أبانت فاجعة بلقصيري أن هذا الأمر البشع هو من كان وراء تلك الأرواح البريئة بحسب ما ذكرته مصادر مطلعة ..و في خضم تواطؤ الراشي و المرتشي و كذا الرائش في هذه الأفة الخطيرة التي تنخر مجتمعنا و تقلب الأمور رأسا على عقب استفحل ترسخها في ذهنية المواطن المغربي الذي يسعى لقضاء حوائجه في ظرف وجيز رغما عن أنف القانون .. إن الرشوة لا يمكن التغلب عليها بين عشية و ضحاها ، فهي طاعون لا زال لم ينفع معه أي علاج حتى الآن ، لكن بالتربية خاصة الأجيال الصاعدة علاوة على رافد مكمل يتمثل في الزجر ، و العمل على تعبئة المواطنين عبر التوعية من خلال ندوات متواصلة و الأهم إحقاق دولة الحق و القانون و الديمقراطية و التنمية يمكن أن تعطي نتائج..