تبدو حركة «النهضة» وكأنها تقبل بنصف هزيمة لها، بدلاً من الهزيمة الكاملة، وخصوصاً إذا كانت على الطريقة المصرية بعد أن أطلقت المعارضة التونسية فعاليات «أسبوع الرحيل» (24/8)، وهو فعالية تضاف إلى الاعتصام الذي تنفذه المعارضة في باردو، والمظاهرات اليومية التي تقوم بها، وذلك بهدف الضغط من أجل استقالة الحكومة وحل المجلس التأسيسي، بادر زعيم حركة «النهضة» الإسلامية الحاكمة في تونس راشد الغنوشي إلى إعلان قبول حركته تشكيل حكومة كفاءات غير حزبية للإشراف على الانتخابات المقبلة، داعياً قوى المعارضة المتمثلة في «جبهة الإنقاذ» إلى طاولة الحوار للنظر في «ترتيبات المرحلة المقبلة والتوافق على الشخصية التي ستتولى رئاسة حكومة الكفاءات وتحديد موعد الانتخابات المقبلة». وشدد الغنوشي على أن حركته ستتنازل عن قانون العزل السياسي القاضي بعزل المسؤولين في النظام السابق من الحياة السياسية، علماً أن قوى المعارضة ومنظمات من المجتمع المدني تعارض هذا القانون وتعتبره «قانوناً اقصائياً» يتنافى مع المواثيق الدولية للحقوق المدنية والسياسية. وقد جاء موقفه هذا استجابة لمبادرة الإتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في البلاد) التي كان قدمها بالإشتراك مع اتحاد الصناعة والتجارة (اتحاد رجال الأعمال) وهيئة المحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والتقى من أجلها مرات عدة مع حسين العباسي الأمين العام للاتحاد، وذلك بهدف إخراج البلاد من المأزق السياسي الذي تمرّ فيه منذ اغتيال المعارض محمد براهمي في أواخر شهر تموز (يوليو) الماضي. وتنص المبادرة على استقالة حكومة علي العريض وتشكيل حكومة كفاءات وطنية غير حزبية، من دون أن تطالب بحل المجلس التأسيسي كما ترغب المعارضة المعتصمة في باردو والمتمثلة في «جبهة الإنقاذ»، بل تدعو إلى الحفاظ عليه ولكن مع تحديد مهامه وسقفه الزمني. وإلى ذلك، فإن الغنوشي لم يستجب في تصريحاته لمطلب المعارضة بضرورة استقالة الحكومة الحالية قبل البدء في أي حوار وطني، حيث تتمسك «النهضة» بعدم استقالة الحكومة قبل التوافق على الحكومة الجديدة. لقاء باريس ورأى مراقبون أن المرونة التي اتسم بها خطاب الغنوشي جاءت تتويجاً أيضاً للقاء الذي عقده أخيراً مع الباجي قايد السبسي، رئيس حركة «نداء تونس» المعارضة في باريس، والتي يعتبرها أنصار الحكومة من فلول النظام السابق. وكان هذا اللقاء بمثابة بداية لتطبيع العلاقة بين خصمي الأمس في الساحة السياسية التونسية. كما رجّح المراقبون أن تكون القوى الدولية، وخصوصاً فرنسا، «مارست ضغوطاً على «النهضة» و«نداء تونس» من اجل إنهاء الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد»، معتبرين أن فرضية تقاسم السلطة بين «النهضة» الإسلامية وحركة «نداء تونس» العلمانية وارد جداً بعد الانتخابات المقبلة. ونقلت مصادر من المعارضة أن لقاء باريس طرح سيناريوهات عدة للمرحلة المقبلة، ومنها إجراء تحويرات على الخارطة السياسية الانتقالية، ربما تشمل منصب رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في إطار إعادة تقاسم للسلطة بين «النهضة» و «نداء تونس» وعدد من الأحزاب الأخرى. وتداولت المصادر إمكانية تولي الباجي قائد السبسي رئاسة البلاد فيما تبقى من الفترة الانتقالية، مقابل حفاظ «النهضة» على منصب رئيس الوزراء، لكن رغبة كل من «النهضة» و «نداء تونس» في الحفاظ على علاقاتهما مع حلفائهما دفعتهما إلى التستر على ما دار في اللقاء. وفيما كان كلام الغنوشي إيجابياً بالنسبة لقوى المعارضة، فإنه لم يكن كذلك بالنسبة لشركاء «النهضة» في الائتلاف الحكومي، وخصوصاً حزب «المؤتمر من اجل الجمهورية» الذي يترأسه رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي. حيث ألمح الغنوشي إلى ضرورة استقالته إذا كان يرغب في الترشح إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة، من منطلق أن «حكومة الكفاءات المقبلة يجب أن لا تترشح للانتخابات، بما في ذلك رئيس الجمهورية». واستغرب أحد قادة حزب المؤتمر « إقحام رئيس الجمهورية في النزاع السياسي الدائر». لكن، وعلى رغم ذلك، فقد رأى المراقبون أن الأزمة السياسية قد تتجه نحو الانفراج بعد التنازلات التي قدمتها حركة «النهضة» واتفاقها مع القوى الرئيسة في المعارضة على تشكيل حكومة كفاءات تشرف على ما تبقى من المرحلة الانتقالية. علماً أن حزب «التكتل»، المكون الثالث في الترويكا الحاكمة، يدعم أيضاً تشكيل حكومة كفاءات ويصرّ رئيسه مصطفى بن جعفر (رئيس المجلس التأسيسي)، الذي سبق وأعلن تعليق أعمال المجلس إلى أجل غير مسمى، على أن أشغال المجلس لن تعود إلا بعد التوافق بين مختلف الأطراف. السيناريو المصري وهكذا تبدو حركة «النهضة» وكأنها تقبل بنصف هزيمة لها، بدلاً من الهزيمة الكاملة، وخصوصاً إذا كانت على الطريقة المصرية. بمعنى السعي إلى تجنب تكرار السيناريو المصري، والإفادة من أخطاء نظرائهم هناك. وقد يساعدهم على ذلك طبيعة التحالف القائم بين مكونات الترويكا الحاكمة، الذي كبح لديهم جموح الاستئثار بالحكم. إضافة إلى تجذر القوى العلمانية والليبرالية في المجتمع التونسي. كما أن دخول أعرق تنظيم نقابي على خط الأزمة والمفاوضات ساهم في تجنيب البلاد دواعي الاستنجاد بالعسكر وإمكان الانزلاق إلى دوائر العنف المفزعة. لكن وعلى العموم، فإن تجربة «الإخوان المسلمين» في الحكم، سواء في مصر أو تونس، لم تتبدّى، في نظر كثير من المراقبين، كفرصة للتطبيع مع العقلانية والاعتدال والتسامح كما كان يؤمل منها، بل برزت على يمينهم تيارات متطرفة، زادت من حجم المخاوف المترتبة على حكم الإخوان. ولولا أن هناك أسباباً وبواعث للغضب والقلق دفعت الشارع للانتفاض في مواجهة الحكومات الإسلامية التي استنفدت رصيدها في زمن قياسي، لما استطاعت قوى المعارضة استثمار حراك الشارع على هذا النحو، وبخاصة بعد أن تحطم جدار الخوف لدى الجمهور العام. والحال، لقد كانت الثورة التونسية سباقة إلى إطاحة الاستبداد، ويأمل كثيرون أن تكون سباقة أيضاً لتأمين انتقال ديمقراطي هادئ، بعيداً من العواصف وإشعال الحرائق. وهذا يقتضي إدراك أن السلطة لا تستحق أن يكون المرء قاتلاً أو مقتولاً من أجلها؟!.