الشعب التونسى ، الذى انتفض رافعاً علم بلاده بعيداً عن أيدولوجيات الساسة والمثقفين ، هو بدمائه الذكية مفجر الثورة وصانعها ، وهو وحده صاحب الحق الأصيل فى جنى ثمارها اليوم أو غدا ، وليس معارضته التى صمتت طويلاً مكتفية بالنضال الميكروفونى من الخارج ، راضية فى الداخل بفتات ما يتفضل به حزبها الجاثم ، بالضبط كما يفعل قرنائهم فى مصر المحروسة ، وخروجها اليوم ، دون دفع الثمن ، لسرقة الفرح وركوب موجة الثورة والتعاون مع المستبد مقابل اندماجها فى منظومته الجديدة وحصولها على نصيب من كعكة الوطن ، إنما يمنحه شرعية البقاء بدلاً عن محاسبته !! أى نفس الخنوع ونفس الانبطاح الذى يصنع الطغاة فى كل مكان ، وأدوار موزعة على عجالة داخل مسرحية هزلية أظنها لن تخفى على الشعب التونسى . أيضاً ليس الرئيس الهارب المسئول وحده عن الفساد والقمع ، بل معه كل نظامه وأدواته ومعارضته أيضا ، أولئك الذين يفتدون أنفسهم اليوم مضحين بأكثرهم كراهية من الشعب فاختاروا وزير الداخلية ومدير الأمن الرئاسى ، متصورين أن ذلك المكر الساذج سينطلى على الشعب فيبرىء ساحة الباقين ويغسل أيديهم من دمائه التى ما زالت تسيل بنفس الوحشية على يدى وزير داخلية ما يسمى بحكومة الانقاذ أو أياً كان اسمها ، وبنفس أدوات الوزير المعتقل وأعوانه !!! فالرجلان ، كبشا الفداء ، تصرفا وفق توجه منظومة الحكم بكاملها لا الرئيس الهارب وحده ، والفساد الذى أشعل الثورة مسئولية النظام بكل عناصره ، لذلك ، فتطهير ثوب الوطن ومحاسبة الجميع فرض ، وقطع رؤوس الأفاعى ، التى ترتقب كامنة فى جحورها تتحين الفرص الى أن تهدأ الأمور أو التى تبدل جلودها لتتأقلم مع الوضع الجديد بحجة الحفاظ على الأمن والاستقرار وملىء الفراغ ، هو الدواء الناجع ليبرأ الوطن من وبائه ، فلا استقرار ولا أمن مع وجود أمثال هؤلاء ، ولا مصلحة للبلاد فى إلصاق كل المصائب فى وجه الرئيس والوزير والمدير وحدهم والابقاء على بقية الأعوان من النظام أوالمعارضة الطفيلية ، فقضية الشعوب لا تنتهى بإسقاط طاغية ، ولكنها فى المقام الأول ، وفى أى منظومة ، تبدأ وتنتهى بإسقاط ومحاسبة صناع الطاغية .. "هامان وجنوده" ، والا فعن أى تغيير كنا نتحدث وأين ذهبت دماء الشهداء ؟ . لذلك ، لن يستقر الوضع فى تونس ، حسب رأيى ، الا اذا تولى الجيش ، وقبل فوات الأوان ، مسئولية السلطة لفترة محددة تنتقل بعدها الى المدنيين عن طريق انتخابات حرة تأتى بالارادة الشعبية على غرار تجربة المشير "عبد الرحمن سوار الذهب" فى السودان ابريل 1985، بشرط عدم عبث دول الجوار أو جوار الجوار ، وعدم تدخل الغرب الذى لا يعنيه فى النهاية الا مصالحه ودعم النظم التى ترعاها ولو الى حين ، سواء مرَّ سكين جلاديها أعلى أو أسفل رقاب الشعوب ، لا فرق . أما المحروسة ونظامها التوأم ، وتصريحات وزير خارجيتها "أحمد أبو الغيط" التى وصف فيها امتداد إنتفاضة تونس الى مصر ب "الكلام الفارغ" ، والثقة الكبيرة التى تحدث بها زميله الوزير "محمد رشيد" مؤكداً ، ومبرراً ، أن ما حدث فى تونس لا يمكنه الحدوث فى مصر .. لأن شعب مصر لديه بطاقات تموين !!! ، فهو مجرد كلام مرسل غير سياسى يبعث على الضحك ! وإذا وقعت الواقعة التى يرونها بعيدا ، فلن يوجد بينهم رجل واحد "رشيد" بإمكانه أن يمنعها ، وليس بوسع الأخ "أبو الغيط" ولا كل "فلاحى النظام وأنفارِه وتَمَلِّيَتِه" الحيلولة دون وقوعها ! صحيح أن طبيعة هذا الشعب وموروثه الأزلى أن "السلطان من لا يعرف السلطان" ، وصحيح أنه ، على كثرة الطغاة ، لم يثُر من نفسه وبنفسه ولنفسه ، منذ أول ثورة اجتماعية يشهدها التاريخ الانسانى فى عصر الفرعون "بيبى الثانى" 2278 ق.م ، الا مرات قليلة عبر تاريخه كان آخرها ثورة 1919م ، التى خرجت بدوافع غير مفهومة حتى الآن رغم معرفة الهدف ، إلا أن الصحيح أيضاً أنه لا أحد يمكنه توقع ثورته أو الرهان على صمته ، فهو شعب غير خانع كما يظنون ، شعب مسالم صبور الى أقصى حد ، لكنه يتلمس سبل خلاصه أثناء صبره وإن طال عليه الزمن ، حتى اذا امتلكها لم يفلتها ، لا هى ولا رقاب جلاديه ، هكذا علمنا التاريخ . لذلك فالحكمة والحصافة تقتضى حساب نسبة الواحد فى الألف من التوقعات السيئة والاستعداد لها جيداً ، ليس الاستعداد لمواجهتها أمنياً ، فقد أثبت الرجال فى تونس أن الأمن .. المركزى .. ليس أساس الملك وأنه لن يكون يوما ما مهما بلغ من قوة أو بطش ، ولكن الاستعداد يأتى بإزالة أسبابها من البداية ، هذا ما لم يفعله النظام التونسى سواء رئيسه الهارب أو أعوانه الذين لم يفارقوا سدة الحكم حتى الآن ، وهو نفسه ما لا يفهمه أو يفعله أيضا حتى الآن توأمه المصرى بشخوصه الدائمة الخالدة خلود الأهرامات . ورغم ما سبق ، لا زلت أتوقع ، أن يحسن نظام المحروسة الانصات لجرس الانذار التونسى وأن يستوعب درسه جيداً ، وإن صدف توقعى فسيبدأ طفيليوه وفاسدوه ، مصريون أو أجانب ، فى الاستعداد للرحيل قبل أن ينقضَّ عليهم النظام نفسه عودة منه للصواب ، أو ترضية للشعب ونزعاً لفتيل ثورته المحتملة ، وبالتالى أتوقع أن تشهد الفترة المقبلة ، إما التأميم لصالح الوطن ، وإما إنخفاض أسعار الأراضى والقصور والمصانع والشركات والمحاجر وكل ما تم منحه دون وجه حق من مقدرات هذا الشعب ، نظراً لوفرة المعروض للبيع وقتها مما تم الاستيلاء عليه ، الذى هو البلد بكامله تقريباً !!! أيضا أتوقع ارتفاع أسعار المهربات من المنشطات الى المخدرات والخمور والعياذ بالله ولكن نظراً لقلة المعروض منها بعد أن تتوقف أنشطة الكبراء وتقبع أموالهم فى الخارج ، بل ربما يجد أحدهم لوحة "زهرة الخشاش" المفقودة ملقاة على رصيف أحد الشوارع الى جوار بعض التماثيل والأثار الفرعونية التى اختفت من قبل .. بالصدفة !!! قلبى مع وزراء الداخلية العرب ، ولعلهم يتعلمون الحكمة من رأس الذئب التونسى الطائر ، وكل التحية والتقدير الى الاشقاء فى تونس الذين حققوا فرضية شاعرهم أبو القاسم الشابى عن القدر الذى حتماً يستجيب لمن أراد الحياة ، ونرجوهم ، بعد أن فشل نموذج "البوعزيزى" لدينا ، أن يبعثوا بمعلمين منهم الى كافة أرجاء وطننا العربى الذى ترتعش الآن أوصال أنظمته من خليجه الثائر الى محيطه الهادر أو العكس لا أدرى .. أو لا فرق ! ضمير مستتر: ( إن ما تحتاجه مصر أساسا إنما هو ثورة نفسية ، بمعني ثورة علي نفسها أولا ، وعلي نفسيتها ثانيا ، أيْ تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أيِّ تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها .. ثورة في الشخصية المصرية وعلي الشخصية المصرية .. ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر ) . دكتور جمال حمدان علاء الدين حمدى a4hamdy_(at)_yahoo.com