الإهداء إلى كل حاملي سلاح الكلمات في لحظة صفاء ، حيث يعود المزاج إلى الاعتدال، و تتسع النظرة أكثر، ململمة بعضا من صور الكون العظيم في حافظة العقل ، تتصفحها بتأمل الحكماء ، لترسم منها متاهات الفكر بكل تجلياته . في هذا الصفاء ، أنصب خيمتي المعزولة وحدي على ربوة في الخلاء ، أمارس لعبة الانعتاق من عبودية الجدران أي جدران . أرى من هذا السنام المحدب قرى الطوب المبعثرة و الكهوف المنحوتة في الصخر ، و فاكهة الصبار العالق في السفوح ، أرجأت التسلق لآكل منها ، و أطل على فراخ الطيور الجارحة المعلقة في أعشاش منيعة ، أرجأت التسلق حتى الانتهاء من إشباع الرغبة الملحة في إتمام مشروعي في الخيمة المعزولة .. التأمل. هكذا سولت لي نفسي .. التأمل في لحظة صفاء.. ثم الكتابة. و تساءلت " أهو الجنون ؟ ". أكيد أن الذي يراني على هذا النحو سيقول أنه الجنون . لذلك حاولت ربط علاقة محدودة مع بعض القرويين لأقتل التساؤل و الريبة في نفوسهم . وزعت بعض الحلوى على صغارهم عند عيون الماء الشحيحة ،و ملأت قربتي المصنوعة من جلد ماعز، اشتريتها خصيصا لهذه العطلة ، أضعها فوق حماري مؤنسي في غربتي المحدودة ، كان صغيرا و قصيرا ، لا أدري لماذا اشترطت على تاجر الدواب أن يكون كذلك ، لم أساومه في الثمن ، اشتريته وفق اكتمال الشرطين ، سقته أمامي فطاوعني ، و كان يجد في المسالك الوعرة مع الارتفاع أكثر من الانحدار . لكن مشكلته كثرة النهيق الذي لم أتعود عليه في البداية، و تساءلت " لماذا تنهق الحمير بهذه الأصوات المنكرة ؟ أهي مغازلة للإناث ؟ أم هي محاولة إثبات الذات في محيط مقدس ، تذود عنه بالرفس و العض؟ " و اتسع سؤالي عن نهيق الإنسان ، فهو مكرم و ينهق .. هذا أكيد . قد سمعت نهيقه، إذ أعادتني لحظة الصفاء في جلسة قرب الخيمة على حصير قصير و لحاف من الصوف ، أعادتني خمسة عقود إلى الوراء ، كلها نهيق مؤلف في سيمفونيات تعددت مقاطعها بتعدد السياسات و الثقافات و دروس اللغو على المنابر و الشاشات الصغرى . ندمت على مشاهدتي أولى أبواق النهيق، كانت شاشة فضية بقناتين الأولى وطنية و الثانية أجنبية ، في ذلك الخريف من سنة 1969 بمقهى بحي الطوبة الداخلي بوجدة الوجد ، رافقت جارنا " الوكيلي" سائق " كارو بنعياد". أخرجني من لغو الأفكار هذا وقع أقدام قروي ، يحمل خبزة بيد و كوز لبن بيد أخرى ، حياني بكلمات متلعثمة، و أعطاني الهدية التي سجلت خصاصتي منها لما طلبت خبزا من عجوز في يومي الأول. و تقاطر علي القرويون بالخبز و التين و الزبيب و الجوز ، فأشركت حماري في هذا الخير ، فكثر نهيقه حتى صم آذاني . كانت أعين القرويين تتلصص على الخيمة المكشوفة ، تطرح علي أسئلة صامتة ، كانوا قد طرحوها فيما بينهم و لا شك ، حول الخيمة و صاحبها و حماره . تعمدت بالمكاشفة أن أروي هذا الظمأ. تشجع أحدهم و سألني " هل أنت من يكتب التمائم و الحروز ؟ " قلت " أبدا ، أنا أرسم الكلمات في صور الأفاعي تلدغ بالحروف كل من غرق في المبيقات السبع، والذي أخرس الصخر عن القعقعة في الأودية و الأرباض من تاريخ أول قطرة دم إنسية زكية سقطت حقدا، حسدا لتأسس ثقافة الصراع على كرسي مرصع بالزبرجد ، نخر التسوس قوائمه الخشبية ، و تحولت فتوى بيعة مكره " مالك" إلى حاجز يقفز عليه العداءون، مسجلين أرقاما قياسية في الوصول إلى الخط النهائي عند قدمي الحاكم الملهم و المسكون بالفصول الميكيافلية ، يتوسدها منسوخة بكل الخطوط العربية ، بل يشرب ماءها بعد وضعه سبع ليال تحت النجوم ، بهذا نصح المنجمون و من ورائهم الحريم و العسكر . و تعالت الأوامر في كل الوطن عبر مكبرات الصوت « دقوا رأس الأفعى الخارجة من حروف الكلمات ، فهي العدو ". عاد القروي من حيث أتى ، و لم يفهم شيئا مما قلت أو أنه تظاهر بعدم الفهم . و سهرت مع حماري حتى الهزيع الأخير من الليل ، أرسم الكلمات على ضوء قنديل " عزيزي" أتزلف إلى النوم بهدهدة جسمي على كرسي من القش . و بعد غفوة قصيرة ، قفزت مذعورا من نهيق حماري ، و كان أعنف من ذي قبل ،نهق لما شاهد سيارة " جيب" ينزل منها أربعة دركيين مدججين بالرشاشات ، يرافقهم " شيخ الدواوير " . تلاحقت أنفاسهم باللهاث مع صعود التل . أمروني بالخروج من الخيمة مرفوع اليدين كما في الأفلام . ففعلت . فتشوني ثم قيدوني بالأصفاد ، و حطموا الخيمة بعد تفتيشها ، فلم يعثروا على ما جاؤوا من أجله ، المساكين. حنقوا على الشيخ و بصقوا عليه ، فضحكت ملأ شدقي بعد أن علمت أنه طار بوشاية كاذبة ، مفادها أن غريبا يتدرب على استعمال سلاح ما . فلما سألوني عن أي سلاح أتدرب. قلت باسما " أتدرب على سلاح الكلمات " .