منذ أكثر من ثلاثين عاما كتبت مقالا في مجلة العربي الواسعة الانتشار من المحيط الي الخليج والتي تصدر عن وزارة الثقافة في الكويت بعنوان تعالوا نتعلم كيف نختلف واستقبل ذلك المقال في وقته استقبالا حسنا وكان له صدي واسع أدركته عندما كنت في مؤتمر لعمداء كليات الحقوق في الوطن العربي, وكان الاجتماع في باريس وجاءني يومها عميد كلية الحقوق في نواكشوط عاصمة موريتانيا سائلا: هل أنت الجمل الذي كتبت مقال تعالوا نتعلم كيف نختلف في العربي الكويتية؟. فلما قلت له نعم أنا, شد علي يدي وحياني, وقال لي ليتك تستمر في هذا الاتجاه التنويري. ومضت أيام وتدافعت أمواج وتوالت حوادث, وكان من نصيبي في الفترة الأخيرة أن ألتقي بكثير من أهل المال والعلم والسياسة والرأي والإعلام من خلال اشتراكي في عدد من اللجان واللقاءات, وكان قدري أن أجري بعض اللقاءات سواء في القنوات التليفزيونية أو مع بعض الاخوة من الأصدقاء الصحفيين والإعلاميين. والملاحظة الواضحة التي لاحظتها من خلال ذلك كله أن الذين يسمعون لغيرهم قليلون- جدا, وأن المتحدثين كثيرون جدا, والذي يبدأ الحديث لا يريد أن يتوقف عنه, وأن الآخرين الذين لا يسمعون يقاطعون المتحدث لأنهم هم الذين يريدون التحدث, وينكرون علي غيرهم أن يعرض رأيه ويستوفيه, وهذا بالضبط هو ما يصدق عليه حوار الطرشان. لقد سادت في مجتمعنا, كما سادت في كل المجتمعات غير المتحضرة أو غير العالمة, ثقافة الاستئثار, الحاكم يريد أن يستأثر بكل السلطة, وأن يحرم غيره من أي سلطة, وصاحب المال كذلك, وصاحب المنصب كذلك, وهكذا سادت ثقافة الاستئثار واختفت ثقافة المشاركة والاعتراف بالآخر, رأيي أن مجتمعا تسود فيه تلك الموبقات لا يمكن أن يحقق تقدما. ولأن الشعب المصري شعب حضاري له جذور حضارية عميقة, وإن تراكمت عليها كثير من الأتربة والنفايات فإنه قد استطاع أخيرا أن يفرز عددا من أفضل أبنائه فجروا مسيرة التغيير والتطوير وصنعوا ما يشبه المعجزة في يوم52 يناير الماضي وما تلاه من أيام استطاعت أن تقلع جذورا كان الكثيرون يظنون أنها راسخة ثابتة لن تنقطع. وقبل هذه الأيام الطيبة العظيمة ولمدة تزيد علي خمسة عشر عاما كانت قنوات التليفزيون المصري موصدة أمامي بتعليمات من السلطات العليا, ولكني رغم ذلك استطعت أن أطل علي الرأي العام من خلال القنوات الخاصة المحلية والأجنبية, ومن خلال الصحف الحرة. حتي الأهرام العزيزة علي والتي كنت أكتب فيها منذ أكثر من ثلاثين عاما الي جوار العمالقة من أساتذتنا زكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم وغيرهما من الأساتذة الكبار حتي الأهرام حيل بيني وبينها سنوات طوالا إلا من مقال عارض بين الحين والحين. ولكن بعد أن هدمت كثير من الحواجز دعيت الي بعض قنوات التليفزيون المصري, ولكن ماحدث مع المحاور اللامع خيري رمضان في برنامج مصر النهاردة عرضني لعدد من القضايا المثيرة. وسمعت بعد الحديث استحسانا من غالبية الناس ولمست ذلك ممن ألقاهم في أي مكان, ولكن مع ذلك فإن البعض لم يرض عن بعض ما قلت تصورا منه أن فيه بعض المساس بما يتصور أنه ثوابت دينية يجب عدم الاقتراب منها. ولست أصادر علي حق أي أحد في أن يبدي ما يشاء من رأي, ولكن الذي أرجوه أن نفرق بين الرأي وبين السباب, وألا نبدي رأيا في شيء قبل أن نحاول فهمه بقدر ولو بسيط من الموضوعية. أنا رجل وأعوذ بالله من قولة أنا بدأت حياتي بحفظ القرآن الكريم قبل أن أكمل الثانية عشرة من عمري وكان مقدرا لي أن أدخل الأزهر كما رويت في كتابي قصة حياة عادية الذي صدرت طبعته الأولي من قرابة ثلاثين عاما, وصدرت طبعته الثالثة أخيرا من دار الشروق, ولكن شاءت الأقدار أن يتحول المسار, وأن أسلك التعليم المدني, وأن أتخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة, وأن أدرس في تلك الكلية علوم الشريعة الإسلامية علي يد عدد من كبار الفقهاء الإسلاميين في القرن الماضي. درست أصول الفقه علي يد أستاذنا الفقيه الكبير المستنير الشيخ عبدالوهاب خلاف, وهو أول من سمعت منه عبارة أعوذ بالله من العقول العفنة, في مناسبة قد أرويها فيما بعد, ودرست المعاملات القانون المدني علي يد أستاذنا العالم الجليل الشيخ علي الخفيف الذي قال ذات مرة كل المسلمين يسار يقصد أن كل المسلمين يؤمنون بقضية العدل الاجتماعي, كما درست علي يد الأستاذ الإمام الشيخ أبو زهرة صاحب موسوعة الأئمة. أقول ذلك لكي أعبر عن أن المزايدين الذين يزعمون أنهم أكثر إسلاما من غيرهم أو أكثر فهما من غيرهم أقول لهم بعض التواضع وبعض المراجعة للذات قبل إلقاء الاتهامات. في حوار تليفزيوني منذ أكثر من خمس سنوات مع المذيعة اللامعة مني الشاذلي قلت معقبا علي الانتخابات الرئاسية سواء في مصر أو في سائر بلاد الوطن العربي, إن حكامنا لا يرتضون أن ينجحوا بأقل من تسعين في المائة, وأضفت علي حين أن من يعلن هذه النتيجة سواء كان وزير الداخلية أو غيره يعلم أنه يكذب, وفي حين أن رئيس الجمهورية يعلم أن وزير داخليته يكذب, وعلي حين أن الاثنين يعلمان أن الناس الذين يسمعون يعرفون أن الاثنين يكذبان, ومع ذلك تستمر المسرحية العبثية. قلت ذلك في برنامج العاشرة مساء منذ أكثر من خمس سنوات والشرائط مسجلة وموجودة في وقت كانت أغلب الألسنة خرساء لا تنطق. وأضفت يومها من باب الدعابة إن الحقيقة الإلهية المقدسة لو استفتي عليها أهل الأرض جميعا ما حصلت علي سبعين في المائة. ذلك أن أهل الصين أو غالبيتهم وهم أكثر من بليون وأربعمائة ألف وكثيرين من أهل اليابان والهند وغيرهم من الذين لا يؤمنون بالديانات السماوية الثلاث سيقولون لا في الاستفتاء المتخيل علي الذات الإلهية المقدسة. سبحانه وتعالي عما يصفون. ولم يعلق أحد آنذاك واستحسن الناس ما قلت وإن كتموا تأييدهم له. وفي حديثي الأخير مع خيري رمضان قلت نفس الشيء ولاقي الحديث استحسانا واسعا, ولكن بعضا من ذوي العقول المغلقة أو العفنة علي حد تعبير أستاذنا الشيخ خلاف لم يعجبهم كلامي وهذا حقهم. كل ما أرجوه هو أن نقول رأيا ولا نقول سبابا أو تهديدا أو اتهاما. وسيعهدني كل كما كان بعهد. والله يهدينا جميعا سواء السبيل.