زوجة الفنان الكناوي المعلم رزوق ل " أسفي اليوم " : كانوا يستدعون المعلم لجميع الأنشطة الرسمية وغير الرسمية من مهرجانات وحفلات استقبال للوفود والشخصيات وفي الأعياد الدينية والوطنية..و اليوم تنكر له الجميع بعدما أصبح مقعدا لا يستطيع الوقوف خاص ب أسفي اليوم : أحمد الحضاري محنة أمي زهرة بدأت مع مرض زوجها المعلم رزوق الذي تخرج على يديه عدد من المعلمين في الفن "لكناوي" على ربوع الوطن. وازدادت محنتها بعد أن أصبح منزلها آيلا للسقوط. " ضاق بنا العيش منذ أن أصبح المعلم طريح الفراش يستعمل كرسيا متحركا" تقول هذه المرأة الطويلة القامة البيضاء اللون التي أصبحت تعاني من العزلة والتهميش بعد أن تجاوزت عقدها السابع. التشرد لم يعد صفة لعشرات النائمين بشوارع حاضرة المحيط ممن لا مأوى لهم. أصحاب المنازل الآيلة للسقوط أيضا مشردون لأنهم يغادرونها ليلا رفقة أبنائهم للبحث عن أمكنة آمنة ثم يعودون في النهار حتى لا يفقدوا فرصتهم في الاستفادة من منازل اقتصادية رصدت لها أموال ضخمة من طرف الدولة في إطار ما يسمى "محاربة السكن غير اللائق"، تماما كما تفعل أمي زهرة زاهر التي تقضي معظم نهارها داخل بقايا بيت بدرب الكنيسية بالمدينة العتيقة بأسفي الذي عاشت داخله 50 سنة رفقة زوجها الشيظمي دون أن يرزقهما الله الولد. ولأنه متشوق لابن من صلبه تزوج بإذنها ثلاث مرات ورزق بالأبناء مع الثالثة فقط. على جدران المنزل المتآكل بسبب الرطوبة وضعت صورة للمعلم الكناوي رزوق. تحدثنا أمي زهرة وهي تختلس نظرها إلى تلك الصورة كأنها تنعش ذاكرتها لتستحضره وهو واقف وسط المنزل يستقبل الزوار بلونه الأسود وقامته الطويلة التي تميزه عن باقي المعلمين الآخرين كرئيس لهم، هذه "الخربة لم يبقى بها سوى غرفة واحدة جمعت ما تبقى لي من ملابس وأثاث بعد أن بعت أغلبه لرعاية زوجي المريض". حولت نظرها إلى السقوف والجدران التي ستتسقط لا محالة. أشارت إلى غرفة في الأعلى وضعت لها أدراج غير التي تأخذك إلى سطح المنزل، ربما كان لتلك الغرفة قيمة خاصة عند الزوجين وأضافت "اطلع أوليدي مع الدروج وحضي راسك وشوف أش جرى لينا". ولأن منزل درب الكنيسية الذي كان يمثل "المدرسة الكناوية" بأسفي يفتقد للمرحاض فأمي زهرة آثرت أن يرقد زوجها المقعد الذي أنهكه مرض السكري وارتفاع الضغط الدموي وفقر الدم، عند ضرتها أم أبنائه بمنزل أهدته لها إحدى المحسنات بحي بياضة "إني أزوره مرتين في اليوم رغم طول الطريق التي تفصل المنزلين" تقول مطأطئة رأسها معتبرة ذلك قليل في حق زوج ظل مخلصا لها أكثر من 60 سنة . الداخل إلى هذا المنزل بدرب الكنيسية، ذا الفناء الضيق والمدخل الطويل المظلم كمن ينزل إلى أسفل، وقبل أن تصل إلى باب المنزل عليك أن تنحني برأسك مضطرا حتى لا يشج باصطدامه مع السقف المنحدر للدروب والأقواس التي يتميز بها المعمار البرتغالي. منازل المدينة العتيقة بأسفي التي سبق أن استعمرت من طرف البرتغال متنوعة، صغيرة المساحة ذات طابقين أو أكثر كمنزل أمي زهرة في حين هناك منازل ذات مساحة كبيرة وغرف كثيرة يتسابق اليوم الأجانب من جنسيات غير عربية على اقتنائها وتحويلها إلى رياضات لجلب العملة الصعبة وتنشيط السياحة التي تخشى الساكنة أن تكون جنسية فقط؟؟ تستغل فقرهم وتذمر ما بقي من الكرامة المسفيوية داخل أسوار البرتغال بالمدينة العتيقة التي بنيت على أنقاض أسوار الموحدين بعد هدمها. وبالرغم من كون المنزل صغير المساحة إلى أنه كان مدرسة لتخريج عدد من المعلمين في فن "لكناوي" ممن مثلوا المغرب في التظاهرات الدولية والوطنية. لقد آوى تقول أمي زهرة "معلمين تعلموا وتزوجوا داخله ومكثوا به حتى كيحن الله على الواحد فيهم فيستقل ببيت خاص". تسكت لحظة كأنها تستحضر أمرا ما، يظهر على وجهها علامات الحزن، ثم تضيف "كان المعلم يصرف على الجميع ولكثرة الضيوف من جميع المدن تصبح الأزقة المجاورة مكان للنوم دون أن يتعرض أي أحد منهم لمكروه لأن الكل هنا يحترمنا والمعلم ليس له أعداء وخصوم". الذكريات التي عاشتها أمي زهرة طيلة خمسين سنة ب"مدرسة كناوة" بالمدينة العتيقة بدرب الكنيسية جعلتها لا تستسيغ العزلة التي فرضت عليها بعد اختفاء الزوار والأصدقاء الذين كانوا يتوافدون عليهما عندما كان المعلم في كامل قوته البدنية يطربهم، وينفق عليهم، ويحل مشاكلهم من خلال علاقاته المتشعبة مع وجهاء المدينة. ومع ذلك تقول أمي زهرة "قلة من الأصدقاء لم يتنكروا للعلاقة التي جمعتهم بنا كأحد الموظفين الصغار بالجماعة الحضرية يشتري لي الزيت والدقيق والسكر وكل ما أحتاجه من المواد الغذائية. ومحسن آخر يتكلف بمصاريف دواء المعلم التي تصل إلى 400 درهم في الشهر. وآخر يؤدي لي مصاريف الكراء والضوء، وجيراني مهلبين في، الحمد لله". جميع أسألتنا استقبلتها بهدوء راسمة ابتسامة من غير تصنع على محياها، لقد تعودت الابتسام في وجه الضيوف كما يحكي عنها أبناء حي الكنيسية . لكن سرعان ما افتقدت تلك الابتسامة وتحولت إلى عبوس، وذهب ذلك الهدوء وتحول إلى انفجار داخلي لم تستطع إخفاء آثاره وهي تقف وسط فناء غطت سقفه بقطعة كبيرة من البلاستيك لتمنع بعضا من زخات المطر التي تأبى أن لا تسقط إلا ومعها حجارة صار أكثرها أتربة بفعل رطوبة حاضرة المحيط التي تخيم على ساكنة المدينة العتيقة وتنشط مرض الربو عند أبنائها وتزيد من معاناتهم. حينما تمحورت أسألتنا حول العلاقة التي جمعت وتجمع اليوم عائلة المعلم رزوق مع السلطة المحلية والمجلس البلدي، قالت بعد أن ركزت نظرها إلى السقف الآيل للسقوط لتلفت انتباهنا خوفا أن نشرد في الماضي التليد الذي رسمته وهي تحكي تاريخ حياة أسرة سخرت نفسها لنوع من الفن اعتبر تراثا محليا، قالت " كانوا يستدعون المعلم لجميع الأنشطة الرسمية وغير الرسمية من مهرجانات وحفلات استقبال للوفود والشخصيات وفي الأعياد الدينية والوطنية.. اليوم تنكر له الجميع بعدما أصبح مقعدا لا يستطيع الوقوف. ولولا بعض الأصدقاء لمتنا بالجوع وألقي بحوائجنا إلى الشارع لعدم توفرنا على واجب الكراء". لم نستطع أن نسكت أمي زهرة وهي تحكي آلامها مع الفقر والعزلة ومرض الزوج واختفاء الأصدقاء والمحبين وتهميش من يهمهم أمر التراث والثقافة والفن بالمدينة وتماطل الإدارة. "لم يعد المعلم رزوق قادرا على الخروج من البيت بعد أن قضى 26يوما بمستشفى محمد الخامس بسبب سقوطه مغشيا عليه وهو يشارك في حفل وداع صاحب الجلالة محمد السادس في آخر زيارة له. ولم يستطع التخلف عن هذا الحفل رغم مرضه لأنه وطني يحب ملكه ". تكفلت السلطات المحلية والمجلس البلدي بمصاريف الدواء وبعدها نسوا جميعهم رجل اسمه رزوق كان وجوده بالحفلات له نكهته ورمزيته. تمنت هذه الزوجة العجوز المخلصة لزوجها من العمال والولاة الذين تعاقبوا على مدينة أسفي أن يخرجوا من رفوف أحد أقسام العمالة ملفا سبق أن قدمه المعلم في عهد العامل "ماء العينين" للاستفادة من كريمة لطاكسي صغير يستعين بها على شظف العيش حينما تضعف صحته كما سبقه الاستفادة منها رياضيون وفنانون وسماسرة أصبح لبعضهم أسطولا من سيارات الأجرة بكل أصنافها. ولم تنسى يوم كاد المعلم أن يطير من الفرحة حين استدعي من طرف السلطات التي سجلت معه بحثا معمقا حول أصله وفصله بسبب ذلك الملف. لقد حلم المعلم وزوجته أحلاما جميلة وبدءا يخططان للمستقبل، مستقبل الأسرتين والأبناء. لكن خاب ظنهم بعد تناسل الكرايم بالمدينة و"غيروا وبدلوا في الوراق، غيرو ليه الملف ديالو وقدموا ملفات آخرين" تقول أمي زهرة، قبل أن تضيف " كون الملف ديالو عطاوه لصاحب الجلالة كون اهتم به لأنه كيبقاو فيه الفنانين المرضى والفقراء". ومع أن بعض أسئلتنا أغضبتها إلا أنها انفجرت ضحكا وكأننا قمنا بتسليتها حينما سألناها عن تكريم المعلم والاحتفاء به فقالت " من حلفش أولدي على مرة واحدة فقط استدعي رفقة تلميذه المعلم محمد، الذي توفى مؤخرا إلى القاعة المغطاة يجلسان على كرسيين متحركين حيث منحت لكل منهما 500 درهم نقدا". تم توالت الأسئلة من في أمي زهرة كأنها موسيقى حزينة عمت البيت أو الخربة كما تسميها صاحبته القادمة من سبت جزولة الذي يحكم أبناؤه أسفي جهويا إقليميا ومحليا، هل هذا النسيان هو جزاء فنان كبير من طراز المعلم رزوق؟ هل هذا ثمن التعب الذي لحق بالمعلم طيلة سنوات خدمته للفن لكناوي ؟ لماذا نعطي بسخاء للأجانب ونهمش أبناء الوطن؟ وتعلق بين كل سؤال وآخر "الحمد لله على كل حال هذا الشي لعطا الله". أمي زهرة التي ارتبطت بهذا الشيظمي القادم من سيدي علي لكراثي، وسمحت له المكوث عند ضرتها رحمة به، في حين اختارت الصبر تحت أنقاض البيت الخرب تنتظر أن تعوض بسكن اقتصادي خصصته الدولة لساكني المنازل الآيلة للسقوط بالمدينة... وتلك قصة أخرى لا تمل من حكيها. تتذكر التفاصيل، الكلمات والحروف، كيف أحصيت من طرف السلطات المحلية، زياراتها المتكررة لهذه السلطة، وللمجلس البلدي. لا تمل أمي زهرة من إعطائك صورة عن معاناتها مع من وكل لهم تنفيذ قرارات صاحب الجلالة في إعادة إيواء قاطني "الخرب" والاستفادة من إعادة هيكلة المدينة العتيقة التي رصدت لها أموال ضخمة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لإعادة الاعتبار لها. تتساءل كيف تم إعادة إسكان عائلات بدروب مجاورة لدرب الكنيسية، الكواورة والمعصرة، وبرج موكة، والبيبة فيما هي أعيتها تطمينات السلطات المحلية ورئيس مكتب مراقبة البناء السيد "سعيد،ك" الذي كلما زارته لمعرفة مصير ملفها قال لها بغير لطف حسب إفادتها " سيري ارتاحي أنت مسجلة عندنا حين يصل وقت استفادتك سنرسل في طلبك". لكن تتساءل" متى حتى أجلس أنا أيضا على كرسي متحرك مثل المعلم رزوق؟ هل حكم علي المبيت عند الجيران في ما تبقى من عمري أنا التي كان بيتي مأوى للضيوف؟". وكي لا تذهب بعيدا في أسئلتها التي تثير الشفقة وتكشف عن نفسية التلذذ -لدى من تشتكي منهم- في خلق التعب للمستضعفين في الأرض، أخذ منها الكلمة مرافقي الصديق الربيعي العلمي الكاتب العام لجمعية "أسفي للمدينة العتيقة" وقال "كان المعلم رزوق يترأس جمعية اعتنت بالمحافظة على التراث، وشارك في جميع التظاهرات الوطنية، وسبق أن مثل المغرب في الفن الكناوي بتظاهرة نظمت بفرنسا، لقد تجاوز إشعاعه الوطن. فالمعلم رزوق يعتبر أحد أهم رواد هذا الفن بالمغرب وممن تخرج على أيديهم معلمين كبار على المستوى الوطني". وختم العلمي مرافعته عن معلم الفن الكناوي بأسفي بكونه واحد من " عدد كبير من الرجال البسطاء القنوعين الذين لم تكن لهم طموحات حينما كان أقل منهم شأنا يبحثون عن الإشعاع. كانوا يعيشون للفن وبالفن الذي يؤمنون به، وحينما يقعدهم المرض يتم نسيانهم ليأكلهم الفقر".