" كلما كان هناك ارتباط مباشر وملموس لشعب ما بالبحر زاد الإدراك السلبي لقوته" "اليشا ليندر" نسجت حكايات شعبية متعددة حول هذه المدينة التي يعتقد أنها غارقة على حافة المحيط الأطلسي شمال مدينة أسفي ، ويقال إن موقعها بكاب كانتان ( 24 كلم شمال أسفي ، جماعة البدوزة حاليا ) ، فهل هي بالفعل مدينة قديمة لها أبعاد فيزيقية ومعالم محددة مغمورة تحت المياه مثلها مثل المدن الغارقة المعروفة عالميا مثل أبولونيا ( ليبيا القرن 7 ق م ) وفالاسارنا ( اليونان حوالي 2000 سنة ق م ) وقيسارية ( فلسطين القرن الأول م ) وايلانيك ( فرنسا 3000 ق م ) وكامبي فليجراي( ايطاليا ) … وبالتالي هل يتعلق الأمر بمدينة قرطاجية قديمة أو على الأقل ميناءا قديما بناه القرطاجيون في إطار التنافس البحري القائم آنذاك بين الفينيقيين والقرطاجيين والرومان على اعتبار أن القرطاجيين بقيادة الرحالة البحار حانون القرطاجني الذي قام برحلته في القرن الخامس قبل الميلاد، قد وصلوا للمنطقة ( رأس صوليس كما كانت تسمى قديما ) وبنوا بها معبدا " لبوصيدون " "سيد " البحر والعواصف حسب اعتقادهم الوثني! وقد ذكر المؤرخون أن القرطاجيين بنوا عدة مدن ومراكز بالمغرب منها "ليكسوس " خلال القرن 12 ق م ، ومدينة " تينجي " ( ق 6 ق م )، ومدينة " روسادر " بناحية مليلية الحالية ، و" تيميا طيريون " عند مصب نهر سبو ، و" ثرنكي " التي لا يعرف مكانها ، و "ميليطا " بين ليكسس ونهر سبارطيل ، وسلا و " أكرا " مكان " أكلو " الحالية " و " كاريكون طيكوس " مكان الصويرة ، ولم يتم ذكر " تيغالين " (1)، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون جزءا من منار قديم منهار كان يوجد داخل البحر وتحطم بفعل العواصف وضربات الأمواج العاتية تماما كما انهار منار الإسكندرية القديم وخلف وراءه قصصا غريبة ، خصوصا وان المدينة المحكي عنها لا تبعد إلا بأمتار معدودة عن المنار الحالي للكاب (البدوزة)، وهذه الفرضية تذكرنا بالإشكال الحاصل حول تسمية مدينة أسفي التي يقال أنها مشتقة من " أسفو" التي تعني المنار أو المشعل ؟ و ما علاقة هذه المدينة الأسطورية بالمعنى الامازيغي لكلمة تيغالين التي هي جمع تغالت و تعني أنثى الفرس (2 ) ؟ أم أن الأمر ليس سوى تخيلات أسطورية وسراب لغوي واستيهامات خيالية لا حقيقة لها في الواقع ؟ فحكايات المدن القديمة والجزر الغارقة معروفة جدا لدى الشعوب المجاورة للبحار والمحيطات ، وهنا نذكر أسطورة المدن السبع في مملكة " سيبولا" بأمريكا اللاتينية ، وجزيرة " الإلدورادو " أو "جزيرة الكنز" الأسطورية التي شكلت حلما للمغامرين البرتغاليين والأسبان في القرون الوسطى ، و "قارة الاطلانتيد " التي لا يعرف احد مكانها والتي كتبت حولها مئات الكتب والمقالات دون أن تستطيع أن تحدد حتى مكانها ، فالشعوب التي كانت تخاف من الغزو الأيبيري في القرون الوسطى كانت تنتج قصصا وأساطير وهمية عن المدن الغارقة لتصرف أنظار المغامرين والغزاة وتضلهم في متاهات المحيطات ، كما أن عدم تحديد بناة المنطقة /آسفي بدقة وتعاقب حضارات مختلفة هناك ( أفارقة اقدمون ، قوط ، قرطاجيون ، برتغال ، أمازيغ ،عرب … ) ساهم بدوره في نسج الخيالات والأساطير حول المنطقة ، وقد قام فريق الاستغوار التابع للطاقم المعد لبرنامج " امودو " والذي بثته القناة الأولى يوم 12/10/2005 بمسح أعماق مساحة 400 متر للموقع الذي يعتقد أن فيه المدينة الغارقة فلم يعثر على أي شيء يشير لذلك ، بل مجرد صخور مشققة وكهوف عادية ، في حين أن الخيال الشعبي يعتبر ذلك شوارع وأزقة وبيوت ، إنها أحلام ، والحلم هو المرادف الفيزيولوجي للمدينة حسب " جوزيف ريكورت " ، بل لقد اعتبر الأديب الانكليزي وليام شكسبير أن المدن مصنوعة من المادة نفسها التي تصنع منها الأحلام ، ويتضمن الحلم والمدينة لانهاية علاقات في جميع الاتجاهات ،وربما تكون "تيغالين "إحدى المدن الفاضلة لسكان عبدة التي عجزوا عن بنائها في الواقع . هذه المدينة الغارقة ، حسب الخيال الشعبي ، لم يذكرها مؤرخ أسفي الفقيه الكانوني العبدي (1893 1938 ) في مؤلفاته القيمة حول أسفي وباديتها رغم حديثه عن قصبة ايير ومدينة "قنط " التي حرفت إلى " كونتي " ثم " كانتان " ( الكاب حاليا ) ، يقول الكانوني حول تأسيس الكاب وخرابه " مدينة قنط ( كنتان ) موقعها شمال أسفي … قال الحسن بن الوزان الغرناطي المدعو ليون الإفريقي :" بناها الأفارقة الأقدمون ، ثم حكى قولا بأن بانيها الغوط ، وقال مرمول بناها القوط وقت استيلائهم على منطقة طنجة … لكن خربها العرب أيام طارق لما ذهب لفتح الأندلس ، وما بقي منها أتم البرتغال تخريبه " (3 ) ، كما أن اندثار مجموعة من الآثار والمباني وربما إلقاء بعضها في البحر عملا بقاعدة " لننسفنه في اليم نسفا " ساهم في صنع أسطورة " المدينة الغارقة " ، عن هذه الآثار والتخريب يقول الفقيه الكانوني :"وهي الآن لا اثر لها وفي موقعها الآن المنارة الشهيرة المعروفة ( كاب كنتان ) أسست في الدولة اليوسفية وهي من أهم منائر المغرب " (4) كما أن المؤرخ الحسن الوزان ( 1496م/1548) في كتابه " وصف إفريقيا " الذي كتبه عام 1526 م والذي زار مدينة آسفي عام 1550 م لم يتطرق لذكر هذه " المدينة الغارقة " رغم ذكره الكاب وبناته ، ورغم تطرقه لمدن صغيرة بالمنطقة ك " تيط "و "قنط " و " السبيت " و "تمراكشت " و " تركا " … وجلها مندثر اليوم ، يقول الوزان : " قنط ( كاب كنتان ) مدينة صغيرة على بعد حوالي عشرين ميلا من اسفي ، بناها القوط في العهد الذي كانوا يسيطرون فيه على هذا الساحل ، وهي الآن خراب تخضع أراضيها لبعض أعراب دكالة " (5)، كما أن الفقيه الصبيحي السلاوي ( 1882 1944 ) لم يتطرق لذكر هذه المدينة في كتاباته القيمة عن اسفي ، أما المراقب المدني " أرمان أنطونا " في كتابه " جهة عبدة " فيحاول أن يعطي تفسيرا جغرافيا وجيولوجيا مثل أن الأرض كانت أكثر عمقا في البحر ، والشكل المنبسط للمنطقة … يقول : " هذه الفرضية يمكن الاعتماد عليها لدرجة أن السكان الأصليين في المنطقة يزعمون انه كانت سابقا الأرض أكثر عمقا في البحر من الوقت الراهن ، وفي أقصى الساحل تأسست مدينة " تيغالين " ، هذه المنطقة المتقدمة من الأرض كانت قد تمت تسويتها نتيجة الحركة البركانية ، الشيء الذي يعطي مصداقية لهذه المعتقدات المحلية هو انه في مقدمة الساحل الحالي نجد شكل بطحاء على عمق ثلاث أو أربع أمتار، ومباشرة في الجانب نجد عمق يصل إلى ما يزيد على مائة متر ، إذا كانت فعلا هذه الظاهرة قد تمت وإذا كان المعبد المهدى إلى " بوصيدون " قد تم بناؤه على أقصى نقطة من المنطقة ، فانه من البديهي أننا لا نجد أي اثر لذلك " (6)، واستعمال أنطونا لعبارات من قبيل ( الفرضية ، يزعمون ، المعتقدات المحلية …. ) يدل على عدم يقينية وجود هذه "المدينة الغارقة " ، كما أن هذه المدينة لم نجد لها ذكرا عند المستكشفين والمؤرخين البحريين المعاصرين الذين يهتمون بدراسة واستكشاف المدن والآثار الغارقة ، وقد ذكر صاحب كتاب "البحر والتاريخ " أ.أ رايس عددا من المدن الغارقة عبر العالم من فلسطين وليبيا وفرنساوايطاليا واليونان واليابان والمكسيك … لكن لم نجد " لتيغالين " ولو إشارة واحدة رغم انه تطرق للرحلة العلمية (رع 1 ورع 2 ) للباحث النرويجي " ثور هيردال " ( 1914 2002 ) وأشاد بها ، وهي الرحلة التي انطلقت من ميناء اسفي . ولنا أن نتساءل : إذا كانت هذه المدينة موجودة فإلى أي عصر تعود ؟ ومن هم بناتها الحقيقيون ؟ وأين الأدوات التي كانوا يستعملونها ، إذ من غير المعقول أن تذوب كلها في البحر ؟ أين الامتداد البري لهذه المدينة ما دامت لا تبعد عن البر/ الشاطئ إلا بأمتار معدودة ؟ وفي أية فترة تاريخية بالضبط بدأ الترويج لأسطورة المدينة الغارقة ؟ ما هو رأي علماء الفيزيولوجيا البحرية في الأمر ؟ هل هناك عالم واحد معتبر أكد حقيقة وجود هذه المدينة ؟ ألا يمكن لعمليات المد والجزر الطبيعية أن تخلق أشكالا هندسية مختلفة ( تجاويف ، ممرات ..) يحسبها غير الخبير مباني إنسانية ؟ أو بمعنى آخر هل كل شكل هندسي منحوث في الماء هو بالضرورة من صنع الإنسان ؟ وهل يمكن لمدينة ، مهما يكن صغرها أن تختفي فجأة ومرة واحدة دون مقدمات ؟ وإذا اعتبرنا أن اختفاء المدينة راجع لارتفاع منسوب مياه المحيط ( تسونامي مثلا ) فهل يعقل أن تغرق هذه المدينة لوحدها دون أن تغرق مدن ومناطق أخرى مجاورة ( اسفي ، أجوز ، الصويرة ، الجديدة/مازكان … ) رغم قرب المسافة ؟؟ هل كان لسكان المنطقة الأقدمين الوثنيين تقليد ديني في نحث الصخور البحرية أو البرية كتقرب من البحر أو اعترافا بجبروته ؟؟ وإذا كانت هذه المدينة البحرية لها ماضي فعلا فلا بد أن تكون لها علاقات تجارية مع مدن أخرى قريبة أو بعيدة ، فلماذا تسكت كل المصادر التاريخية البحرية والتجارية القديمة عن ذكر هذه المدينة ؟ وهل يمكن لمدينة أن تختفي كليا دون أن يخلق ساكنوها آثارا كبيرة أو صغيرة مهما يكونوا بدائيين ؟؟ ؟ إن الدراسات العلمية و الاستغوارية في أعماق المنطقة ، و الأبحاث المسحية المتأنية مع أخذ عينات اركيولوجية وصور فوتوغرافية للموقع ، ووضع جميع الفرضيات تحث مجهر ومنهج الاختبار العلمي الصارم هو وحده الكفيل بالإجابة عن وجود " تيغالين " من عدمه ، كما أن استعراض النصوص التاريخية التي كتبت حول المنطقة لا تسعفنا بالقول بوجود مدينة غارقة عند أقدام المحيط ، فهل ذابت المدينة فجأة كما تذوب مدن الملح على تعبير الأديب عبد الرحمان منيف ؟ إن للخيال الشعبي تحليقات وشطحات لها ما يبررها في ظل التعتيم الذي ضرب على تاريخ المنطقة لعقود طويلة ، وان خيالا جامحا رأى السلطان واقفا في القمر لا يبعد أن يرى مدينة غارقة في البحر ، تماما كما كانت أسفي ومنطقتها غارقة في الإهمال والتهميش الذي نتمنى أن يرتفع يوما . هوامش 1 إبراهيم حركات : المغرب عبر التاريخ ج 1 صفحة 40 2 معلمة المغرب ج 8 صفحة2755 3 أسفي وما إليه صفحة 33 4 نفسه صفحة 40 5 الحسن الوزان : وصف إفريقيا ج 1 صفحة 119 6 أرمان أنطونا : جهة عبدة صفحة 24