أيقونة العفة ، متفردة في أسلوبها..محافظة رغم جرأتها في انتقاء الكلمات الرصاصة المميتة رمزيا ..في زمن أخرست فيه الألسن..نطقت تحديا..عزفت على الوتر الصعب الحساس…فألهمها شعرا مغنى ملتهبا تخلد عيوطا رسخت ثقافة الفن الراقي كشكل من أشكال التعبير الأنيق الدقيق في معناه وأثره.حددت حدود تحديها .. " فكانت حادة " صحيح أن ملامحها متغيرة في الحركية الذهنية الشعبية القابلة للتجديد على مر الزمان- لأننا لا نملك غير وشم الرمزية كآلية لرسم ملامحها بحرية اكبر ، لكن الثابت -عن هذه الشخصية الأسطورية المتجذرة في قلب ووجدان كل راغب في النهل من التاريخ البطولي لنساء استثنائيات في أساليب التعبير عن هموم و انشغالات الذات الجماعية بصيغة المفرد المؤنث – أنها أتت المتخيل الأعزل آنذاك المتعطش لقيم الصمود و الدفاع باستماتة عن مبادئ أقبرت في زمن القهر و القمع و السيبة الممارسة من قبل رجل متسلط عرف بوحشيته في التنكيل بكل من سولت له نفسه التمرد على أسلوبه الهمجي في قيادة الأمور …نتحدث عن أواخر القرن التاسع عشر الميلادي و بالضبط بقبيلة ولاد زيد المتاخمة لمدينة الوليدية ، و التي عانت الأمرين في صراعها الموثق بالحقائق التاريخية مع القائد العبدي الثمري عيسى بن عمر …الذي لم يدخر جهدا في إبادة أية مقاومة محتملة و اقتلاعها من جذورها .. في عمق هذه الظروف المجحفة لقبيلة عانت من قساوة الظروف الطبيعية و الجوع و الحرمان ناهيك عن قهرها بالضرائب و تجريدها من الخيل و السلاح ، لإقبار أية محاولة محتملة للتمرد عليه .تفتق صوت نسائي يصدح تحديا ، يجابه سطوة "عويسة" الطاغية ، يزاوج بين الهجاء القاسي ( فينك أعويسة وفين الشان والمرشان ) و التوعد بالاطاحة الرمزية بهيبته ( سير أعيسى بن عمر أوكال الجيفة ويا قتال خوتو ومحلل الحرام ) ، والذي كانت تقام له الدنيا وتقعد لتمكنه من بسط سيطرته ليس فقط على قبائل عبدة ، بل حتى احمر و الشياظمة و دكالة ، التي بات حديث صباحها و مسائها "كلم حويدة " أو حادة الزيدية زروالة العبدية المتأصلة صفات رجالية ( الفحلة كما كانت تلقب) كإشارة لشخصيتها القوية السباقة إلى تحد رجل طاغية تهابه قلوب الرجال لكونه داهية خبر فنون المكر و الانتقام بأشرس الأساليب و أكثرها قساوة. لقب "خربوشة "الذي ألصق بها و المشتق من فعل خربش يقال" خربش" الشيء أفسده. والمعنى المجازي يحيلنا على حالة التيه و التشويه المختلق بفعل النظم المقفى الموزون المخترق لهالة اللاتجاوز المترسخة بفعل هاجس الخوف المؤطر للاوعي الفرد المغبون المغلوب على أمره آنذاك. هي المرأة التي لم تتيم بها قلوب السهارى لجمالها ، لم تتغزل القوافي بعمق نظرتها أو سحر أنوثتها ، لكنها تجذرت قيمة أخلاقية بطولية بفعل رقي الأسلوب الذي لم تختره عن طواعية ، بقدر ما انتقى القدر الظرف الزمكاني الطارئ لتوليد الهام حاد قض مضجعها وحملها على خربشة واقع مترد ينغمس في التعتيم و التعتم لنقله بصورة أوضح و أكثر واقعية … في محاولة منها لسبر أغوار الشخصية المحرم الحوم حولها ، تجاوزت إطار المحظور رمزيا ، بحلحلة عقدة القلق و الخوف إلى تحقير و تصغير المارد القابع في الذهن ، بفعل القمع و التعذيب كشكل من أشكال التخويف و الترهيب المفضيين إلى تحلل فكرة الانعتاق (انا عبدة لعبدة ولسي عيسى لا )، لتصيب الهدف بتصويب متقن يلهب حماسة التردد و يوقد نيران العزيمة في شريان أفراد قبيلتها التي كانت تخاطب فيهم الأنا الأعلى بأسلوب الأمر الموجب للتنفيذ…بلا تردد أو هوادة ( نوضا نوضا حتا لبوكشور نوضا نوضا حتى دار السي قدور)… في شكل عيوط أو كلم مغنى كانت تميط اللثام عن المخفي الظاهر..المسكوت عنه قهرا…المحيي لهاجس التحدي داخلها ليحلل جثة الموت إلى حياة…أماتت قلبها و أحيت عزيمتها ..فأقسمت في دواخلها أن لا تتراجع عن فكرة الانتقام منه (حلفت الجمعة مع الثلاث يا عويسة فيك لا بقات) ، ليس بالقوة والبطش و إنما بالكلم سلاحا قاهرا للنفسية و جرعات سامة تنهل من نخاع جبروته وترديه جيفة في المتخيل الجماعي ، ليتحول من البطولية إلى اللاوجود ، فيتم إقباره حيا في مفكرة التاريخ ليتو لد في المقابل إحساس بالانتماء إلى ذاكرة جسدت القيم المبحوث عنها بفعل تحقق الشرط الجزافي القابع أصلا في اللاوعي المثالي ، الباحث عن الحقيقة التاريخية ، و التي من المفترض أن تجسد ولو في العالم اللاحسي بفضل تواجدها واقعا جزئيا تتكفل الذهنية المتعطشة ببناء ما خفي من معالمه.. حقيقة لا يختلف اثنان بشأنها تعذيبها و قتلها كمحاولة لمحو أثرها ، رغم اختلاف الروايات التاريخية حول مسألة صمودها حيث ذكرت بعض المصادر أنها استجدت القائد بروح الأولياء الصالحين : . نسالك بالمعاشي سيدي سعيد مول الزيتونة والرتناني سيدي أحسين جا بين الويدان والغليمي سيدي أحمد العطفة يا ابن عباد والقدميري سيدي عمر مولى حمرية والتجاني سيدي احمد مول الوظيفة. وبأبنائه اغلي ما لديه : هذا وعدي وأنا نصرفو حتى يعفو سيدي ها هو يا سيدي أحمد، ها هو يا حرش لعيون ها هو يا سيدي إدريس، ها هو يا ذهب لكويس ها هو يا سيدي أحمد لهوى يا ذاك الشريف فيما ذهبت أخرى إلى أنها قاومت حتى الرمق الأخير… المهم أنها استطاعت الإطاحة بهيبته و إمالة قلبه إليها ، فحسب ماجاء في الروايات الشفهية ، أنه كان يتماطل في الإجهاز عليها رأفة بها ، إلى أن اعلمه خادمه "الشايب "المكلف بجلد و تعذيب ضحاياه بأمر منه ، أنه عجل بتعذيبها و قتلها ليأمر بالاقتصاص منه . وما ذلك إلا دليل قاطع على تمكنها من مهجته لتعاطفه معها. حدة "حادة" الصارمة و الصادمة رسخت استثنائيتها كذات واعية بواجباتها تجاه قبيلتها…فلم تكن قط مجرد شيخة في تصريحها اللفظي عن كونها مناضلة و صوت الحق الذي انبثق في شكل عيوط ترسخت ثراثا ثقافيا شفهيا تتناقله الاجيال ( خربوشة ماشي قصارة وركزة خربوشة نخوة وعزة تشفي الجراح وقت الحزة) وفنا راقيا يعبر بترفع عن انشغالات الجماعة باسم الفرد.يتخطى حدود المتوقع …من حالة ضعف معهودة إلى قوة جارحة …شرسة تنتقي الكلم سلاحا و الرمزية رصاصا … قبرت "حادة" بفعل "خربشاتها غير المتوانية عن تعميق هوة البشاعة المعكوسة في مرآة العيوط الحافلة بالرموز و الدلالات ، كإحالة على حجم الحقارة و الوحشية التي يتخبط فيها أنا القايد عيسى بن عمر..و المغلفة بقناع الرهبة من ردات فعله غير المسبوقة واللامتوقعة في إبادة قبائل بأكملها …يكفي أن تعلن التمرد ليتم إعطاء الأمر بالتصفية بعد الجلد و التعذيب الحسدي و النفسي. سيان لديها بين الحياة و الموت…وحده وفاؤها لعهد قطعته على نفسها يستعمر كيانها…أن تبدد فكرة الانصياع و الاستسلام للظلم و الاستبداد الممارس آنذاك و المجسد في شكل مجتمع ذكوري متجذرة فيه قيم الحياء و الوقار…و المفترض في رجالاته اليقظة والاستعداد الدائم لدحر محاولات إقبار الهوية الجماعية المتقدة بكلمة الفرد المتحكم في ديناميتها لكونه الجزء من الكل…صوت العدالة و ضمير الحق الحي. خربوشة …ليست مجرد شاعرة …بل ملحمة عاشقة للأرض و للانتماء للأصل..ولاد زيد…استثناء التاريخ العبدي في صراع السلطة و الاستبداد ضد الكينونة و الاستمرارية…التي غدت أسطورة تتخطى الحدود الجغرافية لتوحد القلوب المتعاطفة مع فحولة امرأة بمعناها الرمزي المحيل على الإسقاط اللاواعي لصفات رجالية كالشهامة و الدود عن كرامة الجماعة و روح الصمود على شخصية أبانت عن جاهزيتها كتركيبة نفسية انصهرت في بوثقة الظروف السياسية الاجتماعية و الثقافية لتقطر شهد كلم لاذع مرارة في فيه الظلم و القهر..المجسد في شخص القائد العبدي عيسى بن عمر.. لقد تكفل المتخيل الرمزي بإنهاء أطوار نزال كانت محسوبة نتائجه منذ البداية لصالح الحقيقة التاريخية ، التي لا يشكك اثنان في صحتها ، وهي أن" حويدة" تحدت حدة "عويسة "…فكانت سيفا ذا حدين…أحلاهما مر..أولاهما الاحتراق بالشعر..بالدلالة بالرمزية ، و ثانيها التفحم الكلي للمحروق عن طريق قذف حصن الممنوع المرغوب ،وطمس حاجز المستحيل بالتخطي ، باستخدام الهجاء ، كشكل من أشكل الذم و التحقير و التبغيظ لاستفزاز الهوية المتهاوية و المغلفة باسمنت القوة و العنف ، المشيرة إلى هيكل شخصية "عويسة" الجوفاء الداهية لتصير مهزلة العادي و البادي القاصي و الداني،أضحوكة الزمان على استهثار إنسان…انتزع الإنسانية من قلبه و غدا جيفة صالحة للدفن في مقبرة الذاكرة ، بعد أن تعفن صيته و أخذت هيبته في التحلل. ليعطر عبق أزهار العفة ذلك المكان ، حيث اكتمل قمر الزمان ببزوغ شمس العرفان لصنيع حادة الزيدية ، زروالة العبدية سيف الحرية ،عيوطها مكحلة و قوافيها كمية وخا قتلني و خا حياني ما نفوت بلادي. راني زيدية..