"إن العدالة بين الفئات والجهات، تشكل دائما جوهر توجهاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهي الغاية المتوخاة من مختلف المبادرات والأوراش التي أطلقناها؛ هدفنا الأسمى تحسين ظروف المعيش اليومي لمواطنينا، في ظل العدل والإنصاف والكرامة الإنسانية وتكافؤ الفرص. وقد كرس الدستور هذه القيم والمبادئ، من أجل إرساء دعائم مجتمع متضامن يتمتع فيه الجميع بالأمن والحرية والكرامة والمساواة والعدالة الاجتماعية، في نطاق التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة". من الرسالة الملكية السامية الموجهة إلى المشاركين في المنتدى البرلماني الدولي الثالث للعدالة الاجتماعية بتاريخ 19 فبراير 2018 بقلم الأستاذ عبد الله الفردوس تصريحات بعض مسؤولي أحزاب الائتلاف الحكومي، بخصوص اجتماع الأسبوع الماضي لمكونات الأغلبية، كانت كافية لإشعار المتتبعين وعموم المواطنين بأن الأمر يتعلق بلقاء سياسي على درجة كبيرة من الأهمية بكل المقاييس. هذه التصريحات تفيد بأن اجتماع يوم الثلاثاء، قبل الأخير، كان من حيث طبيعته وجدول أعماله يتجاوز مستوى اللقاءات الدورية العادية، حيث إنه فضلا عن العلاقات البينية لأطرافه، والقضايا المسطرة في ميثاق الأغلبية، تداول الشركاء في مواضيع هامة تتعلق بالحالة السياسية، وبمشروع النموذج التنموي الجديد، وبالقضايا الاجتماعية وحماية القدرة الشرائية للمواطنين، وبدعم التماسك الاجتماعي، والذهاب بالحوار الاجتماعي نحو الغايات المرجوة منه. وعلاقة بجدول أعماله ونتائج مداولته، يمكن القول بأن هذا اللقاء، الثاني من نوعه بعد التوقيع على ميثاق الأغلبية، شكل نموذجا خلاقا في الربط بين أسئلة التخطيط والتوجيه وبين ما يجري على الأرض والتطورات التي يعرفها المجتمع. وكان من الطبيعي جدا أن يكون موضوع النموذج التنموي المرتقب ضمن القضايا الرئيسية التي تباحثت قيادات الأغلبية في شأنها، سعيا وراء تهييء وإنضاج صيغته المنتظرة، علما بأن الدعوة الملكية إلى وضع نموذج تنموي جديد كانت بمثابة مبادرة استباقية لتجاوز كل اختلال أو تعثر في مسيرة العمل من أجل ضمان تنمية متوازنة، وخاصة بعد أن تبين بأن النموذج التنموي السابق "أصبح اليوم غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية…"، كما قال جلالة الملك. وحين تؤكد الحكومة على لسان رئيسها وفي تصريحات قادة أحزابها، على أنها منكبة على إعداد الصيغة المتكاملة لمشروع النموذج التنموي الجديد، وبمنهجية التشاور والحوار مع الأطراف المجتمعية الأخرى، فمعناه أن هموم وانتظارات المواطنين حاضرة في انشغالاتها اليومية وفي أجندتها على المديين المنظور والبعيد. وغير خاف أن الظرفية الحالية أفرزت أشكالا جديدة من التعبير والاحتجاج، وصحيح أيضا بأن الساحة الاجتماعية لا تخلو من عرائض التنبيه للأوضاع الصعبة، ومن الأصوات المعبرة عن مطالب اقتصادية واجتماعية مشروعة، سواء تعلق الأمر بمستوى الأسعار وضرورة مراعاة القدرة الشرائية للمواطنين من ذوي الدخل المحدود، أو بانعكاسات إلغاء صندوق الموازنة، أو مصير الحوار الاجتماعي وطنيا وقطاعيا، أو صناديق دعم التماسك الاجتماعي، إلخ… وبالنظر إلى هذه المطالب والتطلعات، يتضح أن الموضوع في عمقه وجوهره يتعلق بالتوازنات الاجتماعية وبترسيخ قواعد العدالة الاجتماعية، وما يتطلبه من مراجعة شاملة للنموذج التنموي… المراجعة التي قال عنها جلالة الملك إن الهدف منها ليس مجرد القيام بإصلاحات قطاعية معزولة، وإعادة ترتيب بعض الأوراش الاقتصادية والبرامج الاجتماعية، بل بلورة رؤية مندمجة للنموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولمنظومة الحكامة المركزية والترابية في كل أبعادها. وإعادة النظر الشاملة في النموذج التنموي الاقتصادي، لا تلغي بأي شكل من الأشكال أهمية التقدم الذي حققه المغرب في المجال التنموي، وفي القطاعات الإنتاجية، وعلى مستوى البنيات التحتية والأوراش الكبرى، وفي قطاع الصناعات الحديثة، إلخ …، على أن أهداف إقرار العدالة الاجتماعية، وتعميم فضائلها ونعمها، هي مسألة صيرورة متواصلة ومتجددة، وبهذا الشأن نستحضر ما جاء في رسالة جلالة الملك إلى المنتدى البرلماني الدولي الثالث للعدالة الاجتماعية (نظمه مجلس المستشارين فبراير الماضي)، حيث جاء في خطاب جلالته : "أن تحقيق العدالة الاجتماعية يقتضي استحضار مجموعة من الرهانات، التي يتعين التعاطي معها بكل جدية وموضوعية، وبروح الابتكار"، ومن بينها على الخصوص: * إشكالية الفوارق الاجتماعية والمجالية، وعلاقاتها بالإكراهات المطروحة على تدبير المنظومات الضريبية وأنظمة الحماية الاجتماعية. * مسألة تعميم الولوج للخدمات والمرافق الأساسية، باعتبارها ركنا أساسيا من أركان العدالة الاجتماعية. * ضرورة إيجاد مؤسسات متشبعة بقيم التضامن والعدالة الاجتماعية، تساهم في حل المشاكل الحقيقية للمواطنين، والاستجابة لانشغالاتهم ومطالبهم الملحة. وفي ضوء هذه الرهانات، وما تتطلبه من اجتهاد وجهد، تبرز أهمية وضرورة أن تكون للنموذج التنموي المنتظر، نتائجه ووقعه القوي في معالجة مجموعة الإشكالات التي طبعت تدبير الشأن العام، ولاسيما في كل ما يهم توضيح وتدقيق الرؤية تجاه هذه الإشكالات وإحكام التنسيق والانسجام بين مختلف الاستراتيجيات القطاعية. ومن الواضح أن الأمر لا يتعلق بمراجعة أسس النظام الاقتصادي الذي اختاره المغرب، والقائم على الخيار الحر واقتصاد السوق والمقاولة ودورها الحيوي في بناء اقتصاد أكثر تنوعا، ولكن المطلوب هو تمكين المغرب من استثمار وتوظيف ما يتوفر عليه من إمكانيات وفرص متاحة لبناء اقتصاد قوي، ومواصلة الإصلاحات المفتوحة، والتحكم في التوازنات الماكرو اقتصادية، ومن ثمة ضمان شروط التنمية المتوازنة والمنصفة، وتحقيق العدالة والإنصاف والنهوض الاجتماعي. وبحسب ما يستشف من النقاش الدائر حاليا، في مختلف الأوساط والمنتديات، هناك أيضا مجموعة من الاختلالات والممارسات التي ساهمت في الحد من فعالية النموذج الاقتصادي والتنموي، والتي ينبغي القطع معها، ومن ذلك بالخصوص ضعف الحكامة وعدم الانفتاح على المسألة الاجتماعية، ووضعها ضمن الأولويات وفي إطار المقاربة الاستباقية. هذا، ورغم صعوبة وتشعب مقاربة موضوع هذا النموذج في مفاهيمه وشموليته، فإن تصريحات قيادات الأغلبية الحكومية، المشار إليها في البداية، وكذا اليوم الدراسي المبرمج في الموضوع، من العلامات الدالة على أن وتيرة العمل تتقدم، وهذا مؤشر جيد لأن المغرب والمغاربة، علاوة على الحاجة لمواكبة التطورات وتحيين المخططات، هم في حاجة أيضا للحرص على النجاعة وحسن التدبير في إنجاز البرامج والمشاريع الاجتماعية والاقتصادية، وكما جاء في الخطاب الملكي بشأن ضرورة وضع نموذج تنموي جديد "حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن الطرق المعتادة أو إحداث زلزال سياسي"، فإن المطلوب "هو التنفيذ الجيد للمشاريع التنموية المبرمجة، ثم إيجاد حلول عملية وقابلة للتطبيق، للمشاكل الحقيقية، وللمطالب المعقولة، والتطلعات المشروعة للمواطنين، في التنمية والتعليم والصحة والشغل وغيرها". ومن الواضح كذلك، أن المناخ العام والتطورات الجارية، على الساحة الاجتماعية بالخصوص، يستدعيان بطبيعة الحال من الحكومة، التفاعل والتجاوب مع الانتظارات والمطالب المشروعة للمواطنين، ويبدو أنها واعية بذلك، كما يظهر في بلاغها الأخير الذي شدد "على حرص الحكومة على القيام بمبادرات تهدف إلى تحسين القدرة الشرائية للمواطنين وحزمها في مراقبة السوق وجودة المنتوجات، والتصدي للمضاربين والمحتكرين". وفي أفق ذلك، يبقى أن تطوير الأداء ومعالجة الملفات المطلبية ليس بمنعزل عن القضايا الأخرى، السياسية منها والتدبيرية والتشريعية، وهي قضايا تهم مختلف أطراف العملية السياسية والانشغالات الاجتماعية، ومنها: * تخليق وعقلنة حقل مؤسسات الوساطة وتحسين أجواء ومناخ العمل السياسي، بما يجعل كل أطرافه تضطلع بدورها بوضوح ومسؤولية، وبما يتيح المشاركة الواسعة والواعية للمواطنين من مختلف شرائح المجتمع. * تفعيل مؤسسات الحكامة، ودعم عمل وأداء المؤسسة التشريعية المفروض أن تنكب طوال الأيام القادمة على تدارس ومناقشة مجموعة من المواضيع ذات الصلة بالراهن السياسي والاقتصادي والاجتماعي. * ضرورة تحريك ورش الجهوية وتسريع وتيرته، باعتبار أن الجهوية المتقدمة بإمكانها أن تساهم في بلورة الحلول والمعالجة العملية للعديد من الملفات والإشكاليات.