أستاذ باحث في علوم التربية في السنوات الأخيرة، لم يعد الأمر مستغربًا حين نجد أحدهم، دون خلفية أكاديمية أو علمية، يتحدث عن الأمراض النفسية، ويقترح علاجات للسرطان، ويقدّم نصائح في التربية والعلاقات، بل وربما يحلل الظواهر السياسية والاقتصادية على نحو أقرب إلى اليقين منه إلى الاجتهاد. يكفي أن يتسلح بحساب نشط على تيك توك أو إنستغرام، وكاميرا أمامية وهالة من الثقة، حتى يتحول إلى "خبير"، بل "مرجع" بالنسبة للآلاف. هذه الظاهرة التي يمكن وصفها ب"التخصص الوهمي" باتت تنتشر على نحو لافت في الفضاء الرقمي، حيث يُساوي عدد المتابعين بين الطبيب الحقيقي و"خبير التغذية الذاتية"، ويذوب الفارق بين الأكاديمي المتخصص، وصاحب المحتوى السطحي المُنمّق. لكن، لماذا يشعر البعض أن بإمكانهم الحديث بثقة عن مجالات معقدة دون دراسة ولا تدريب؟ الجواب قد نجده في ما يُعرف بتأثير دانينغ-كروجر (Dunning-Kruger Effect)، وهو انحياز معرفي يُفضي إلى أن الأشخاص قليلي الكفاءة غالبًا ما يبالغون في تقدير مهاراتهم ومعارفهم. بحسب الدراسة الأصلية لِKruger وDunning (1999)، فإن الجهل أحيانًا لا يكون فقط نقصًا في المعرفة، بل يترافق مع غياب القدرة على إدراك ذلك النقص. في السياق ذاته، تتغذى هذه الظاهرة على خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، التي لا تهمها مصداقية المعلومة بقدر ما تهمها قابليتها للانتشار. فحسب دراسة Cinelli et al. (2020)، تميل الخوارزميات إلى دفع المحتويات العاطفية والمثيرة، حتى ولو كانت غير دقيقة أو مُضلّلة، لأنها ببساطة تحقّق تفاعلًا أعلى. وهكذا، يحصل منشور عن "تطهير الكبد بشرب الليمون مع الفلفل الأسود" على مشاهدات أكثر من منشور لطبيب مختص يشرح وظيفة الكبد بواقعية علمية. ولا يمكن إغفال العامل النفسي في الظاهرة. فكما تشير Twenge وCampbell (2009)، فإن الأجيال الرقمية تعيش في بيئة مشبعة بثقافة "الذات"، ما يولّد ميلًا نرجسيًا للظهور والتمركز حول الشخصية الرقمية. يصبح الاعتراف المجتمعي الافتراضي بديلاً عن الإنجاز الفعلي، ويُغني التفاعل الرقمي عن التأهيل العلمي. لكن الأخطر من كل ذلك هو التأثير الواقعي لهذه الادعاءات. ففي خضم جائحة كوفيد-19، انتشرت معلومات طبية خاطئة على الإنترنت بشكل كبير، وهو ما ساهم، بحسب دراسة Loomba et al. (2021)، في تقليل نوايا الناس لتلقي اللقاح، بل وشجع بعضهم على استخدام "علاجات بديلة" قد تكون ضارة. الأسوأ أن الخطورة لا تتوقف عند الصحة. عندما يتحول الحديث عن علم النفس إلى عبارات مبسطة مفعمة بالتعميم، أو حين تُختزل التربية في جمل تحفيزية فارغة، فإن النتيجة تكون تشويهًا للمفاهيم وتعزيزًا لفهم مشوه للحياة، يصعب تفكيكه لاحقًا. فما الحل؟ لا يمكن إغلاق المجال العام أو فرض رقابة شاملة، فهذا يتعارض مع مبادئ التعبير وحرية المشاركة. لكن المطلوب هو تربية إعلامية ونقدية حقيقية، تبدأ من المدرسة وتستمر في الجامعة، بحيث يتعلم الأفراد كيف يميزون بين "المعلومة" و"الرأي"، وبين "الخبير الحقيقي" و"الخبير المزعوم". كذلك، يجب على المتخصصين أنفسهم الانخراط أكثر في الفضاء الرقمي، بلغة أقل نخبوية وأكثر قربًا من الناس. لأن الغياب أو الترفع عن هذه الساحات، هو ما يترك الفرصة للادعاء بأن يتصدر. لقد أصبح من الضروري، أكثر من أي وقت مضى، أن نعيد الاعتبار للعلم، وللصوت المتخصص، بعيدًا عن التبسيط المُضلل، والبريق الزائف.