حادثة سير مروعة بطنجة تودي بحياة فتاتين وإصابة شابين    الشاذر سعد سرحان يكتب "دفتر الأسماء" لمشاهير الشعراء بمداد الإباء    إصابة عنصر من القوات المساعدة بحروق خطيرة في حريق سوق بني مكادة بطنجة    المغرب ينجح في توقيف فرنسي من أصل جزائري مبحوث عنه دولياً في قضايا خطيرة    المغرب يعود إلى الساعة القانونية    افتتاح أخنوش رفقة ماكرون للمعرض الدولي للفلاحة بباريس يشعل غضب الجزائر    تذكير للمغاربة: العودة إلى الساعة القانونية    التحولات الهيكلية في المغرب.. تأملات في نماذج التنمية والقضايا الاجتماعية الترابية" محور أشغال الندوة الدولية الثانية    الأسير الإسرائيلي الذي قَبّل رأس مقاتلين من "القسام" من أٌصول مغربية (فيديو)    نهضة بركان يحسم لقب البطولة بنسبة كبيرة بعد 10 سنوات من العمل الجاد    فيروس غامض شبيه ب"كورونا" ينتشر في المغرب ويثير مخاوف المواطنين    مقتل شخص وإصابة عناصر شرطة في "عمل إرهابي إسلامي" في فرنسا    تمارة.. حريق بسبب انفجار شاحن هاتف يودي بحياة خمسة أطفال    الجيش والرجاء يستعدان ل"الكلاسيكو"    التعادل يحسم مباراة آسفي والفتح    اختتام رالي "باندا تروفي الصحراء" بعد مغامرة استثنائية في المغرب    منتخب أقل من 17 سنة يهزم زامبيا    توقيف عميد شرطة متلبس بتسلم رشوة بعد ابتزازه لأحد أطراف قضية زجرية    انطلاق مبادرة "الحوت بثمن معقول" لتخفيض أسعار السمك في رمضان    في أول ظهور لها بعد سنة من الغياب.. دنيا بطمة تعانق نجلتيها    الملك محمد السادس يهنئ العاهل السعودي    توقعات أحوال الطقس ليوم الاحد    أخنوش يتباحث بباريس مع الوزير الأول الفرنسي    تجار سوق بني مكادة يواجهون خسائر كبيرة بعد حريق مدمر    المغرب بين تحد التحالفات المعادية و التوازنات الاستراتيجية في إفريقيا    السينما المغربية تتألق في مهرجان دبلن السينمائي الدولي 2025    البطلة المغربية نورلين الطيبي تفوز بمباراتها للكايوان بالعاصمة بروكسيل …    مسؤول أمني بلجيكي: المغرب طور خبرة فريدة ومميزة في مكافحة الإرهاب    الرئيس الفرنسي يعرب عن "بالغ سعادته وفخره" باستضافة المغرب كضيف شرف في معرض الفلاحة بباريس    عجز الميزانية قارب 7 ملايير درهم خلال يناير 2025    "البيجيدي" مستاء من قرار الباشا بمنع لقاء تواصلي للحزب بالرشيدية    التخلص من الذباب بالكافيين يجذب اهتمام باحثين يابانيين    مساءلة رئيس الحكومة أمام البرلمان حول الارتفاع الكبير للأسعار وتدهور الوضع المعيشي    "الصاكات" تقرر وقف بيع منتجات الشركة المغربية للتبغ لمدة 15 يوما    مشروع قرار أمريكي من 65 كلمة فقط في الأمم المتحدة يدعو لإنهاء الحرب في أوكرانيا دون الإشارة لوحدة أراضيها    رئيسة المؤسسة البرازيلية للبحث الزراعي: تعاون المغرب والبرازيل "واعد" لتعزيز الأمن الغذائي    في حضور أخنوش والرئيس الفرنسي.. المغرب ضيف شرف في المعرض الدولي للفلاحة بباريس    رفض استئناف ريال مدريد ضد عقوبة بيلينغهام    بين العربية والأمازيغية: سعيدة شرف تقدم 'الواد الواد' بحلة جديدة    إحباط تهريب مفرقعات وشهب نارية وتوقيف شخص في ميناء طنجة المتوسط    الكوكب المراكشي يبحث عن تعزيز موقعه في الصدارة عبر بوابة خريبكة ورجاء بني ملال يتربص به    متابعة الرابور "حليوة" في حالة سراح    استثمار "بوينغ" يتسع في المغرب    السحب تحبط تعامد أشعة الشمس على وجه رمسيس الثاني    تحقيق في رومانيا بعد اعتداء عنيف على طالب مغربي وصديقته    الصين تطلق أول نموذج كبير للذكاء الاصطناعي مخصص للأمراض النادرة    رمضان 2025.. كم ساعة سيصوم المغاربة هذا العام؟    دراسة: هذه أفضل 4 أطعمة لأمعائك ودماغك    رفع الستار عن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان روح الثقافات بالصويرة    المؤتمر الوطني للعربية ينتقد "الجائحة اللغوية" ويتشبث ب"اللسانَين الأم"    حوار مع "شات جيبيتي".. هل الأندلس الحقيقية موجودة في أمريكا؟    "ميزانية المواطن".. مبادرة تروم تقريب وتبسيط مالية جهة طنجة للساكنة    الحصبة.. مراقبة أكثر من 9 ملايين دفتر صحي وتخوفات من ارتفاع الحالات    على بعد أيام قليلة عن انتهاء الشوط الثاني من الحملة الاستدراكية للتلقيح تراجع نسبي للحصبة وتسجيل 3365 حالة إصابة و 6 وفيات خلال الأسبوع الفارط    اللجنة الملكية للحج تتخذ هذا القرار بخصوص الموسم الجديد    أزيد من 6 ملاين سنتيم.. وزارة الأوقاف تكشف التكلفة الرسمية للحج    الأمير رحيم الحسيني يتولى الإمامة الإسماعيلية الخمسين بعد وفاة والده: ماذا تعرف عن "طائفة الحشاشين" وجذورها؟    التصوف المغربي.. دلالة الرمز والفعل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



انحيازات ومغالطات إدراك .. المغاربة يخسرون تسطح منحنى الوباء
نشر في هسبريس يوم 02 - 12 - 2020

تسعى هذه الورقة إلى التأمل في بعض المغالطات والانحيازات التي تأثر بها المواطنون المغاربة لتبخيس خطر فيروس كورونا المتحوِّر والاستهتار به، وبالتالي المساهمة في تفاقم انتشار الفيروس وفقدان تسطح المنحنى الوبائي منذ أواخر شهر ماي 2020.
لا ينبغي للقارئ الكريم أن يعتبر هذه المغالطات والانحيازات قدَراً منزّلاً، بل انزلاقات إدراكية قابلة للتصحيح والتهذيب، خاصة بفضل التربية والتعليم الرصينيْن من داخل الأسرة إلى المدرسة إلى الشارع، مع العلم أن وسائل الاتصال والتواصل يجب أن تلعب الدور المنوط بها في هذا المضمار.
ملاحظات تمهيدية
يرى العارفون في حقلي الصحة والاقتصاد أن قدرة المنظومة الصحية لأي بلد محدودة، مع العلم أن قدرات هذه المنظومة في ما يخص استيعاب ورعاية وعلاج المرضى تختلف من قطر إلى آخر حسب الخيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل دولة، ومدى وفرة الموارد الضرورية لتمويل قطاع الصحة وتوفر صانعي القرار على الإرادة السياسية اللازمة لصياغة وتنفيذ إستراتيجيات اجتماعية-صحية تروم رعاية المواطنين والسعي إلى رخائهم ورفاهيتهم (Mansouri, 2020c ; 2020d ; 2020e). ففي البلدان المتقدمة والمحترِمة لمبدأ دولة الحق والقانون، ينحو المسؤولون إلى الاعتناء بصحة المواطن، مع بذل أقصى الجهود من أجل الرفع من أعداد المؤسسات الاستشفائية ووحدات العناية المركزة والأسرة الطبية ومهنيي الصحة من أطباء وممرضين وتقنيين، وأجهزة التنفس وغيرها من المعدات الطبية الضرورية.
رغم المجهودات التي يبذلها صانعو القرار من أجل تطوير المنظومة الصحية، فإن هذه الأخيرة قد تصبح عاجزة عن تجاوز حدٍّ أعلى من عدد المرضى، خاصة في خضم الأزمات الوبائية المفاجئة، من قبيل أزمة جائحة كورونا التي داهمت العالم على حين غرّة، ما خلق عجزاً في قدرة المؤسسات الصحية على إيواء ورعاية وعلاج المصابين (Mansouri, 2020c ; 2020d ; 2020e).
إن أعتى الفيروسات من أمثال فيروس كورونا المتحوِّر قادرة على إغراق أي منظومة صحية تدعي الكمال تنظيماً وأداءً، ما قد ينجم عنه إهمال المصابين وتركهم عرضة للفتك، خاصة أولئك الذين يعانون من ضعف المضادات الجسمانية والأمراض المزمنة. وفي هذه الحالة فإن معدل الإماتة (Lethality Rate) سوف يرتفع بشكل مهول مع تداعياته على التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي (Mansouri, 2020a ; 2020b ; 2020c ; 2020d ; 2020e).
ونظرا لهذه المحدودية المتعلقة بالنظام الصحي فإن صانعي القرار تخلواْ عمّا تسمى مقاربة مناعة القطيع (Herd Immunity Approach) لصالح إستراتيجية تسطيح المنحنى الوبائي (Flattening the Pandemic Curve)، وذلك بالسعي إلى سنّ تدابير قاسية من حجر صحي (Containment) وحالة طوارئ وتباعد اجتماعي، متوخين بذلك إبطاء سرعة انتشار الفيروس وتقليص معدل تكاثره (R0) إلى مستوى يحوم حول معدل 0,50 المقبول صحياً واقتصاديا واجتماعيا (Mansouri, 2020d).
لقد اتبع صانعو القرار في المغرب هذه المنهجية منذ ظهور أول إصابة بفيروس كورونا يوم 02 مارس الماضي، لينجحواْ في تسطيح مريح للمنحنى الوبائي متمّ شهر مايو-أيار الماضي، ما يؤكد توقعاتنا السابقة في إطار ورقة بحثية منشورة يوم 12 أبريل 2020، أي قرابة شهر و20 يوماً قبل تسطُّح المنحنى (Mansouri, 2020a ; 2020b)، علماً أننا توقعنا أن يتجه عدد الإصابات إلى التصفير متمّ شهر يونيو-حزيران وبداية شهر يوليوز-تموز. إلا أن التسرع في إعادة فتح الاقتصاد والسماح بالاحتفال بعيد الأضحى المبارك وتراخي واستهتار المواطنين بخطورة الوضعية الوبائية وتبخيسهم لها تعتبر في مجملها عوامل مفسرة لارتفاع أعداد الإصابات والوفيات بالفيروس (El Morchid and Mansouri, 2020 ; Mansouri, 2020e).
انطلاقاً من الخطاب الرسمي الذي ألقاه الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى السادسة والسبعين لثورة الملك والشعب، الموافقة للعشرين من شهر أغسطس/آب، والذي أكد فيه أن المواطن المغربي بين من خلال سلوكاته حيال تفشي فيروس كورونا المستجد على قلة وطنيته وضعف تضامنيته، ترمي هذه المقالة إلى فك رموز هذه السلوكات المنحرفة بالاستناد إلى ما يمكن استلهامه من حزمة الانحيازات والمغالطات الإدراكية (Cognitive Biases) التي تؤثر إرادياً أو لا إرادياً على سلوك الأفراد والجماعات، علماً أننا سنورد هذه المغالطات والانحيازات الإدراكية تباعاً أدناه مع التعليق عليها بالارتباط بسيكولوجية الناس تجاه الوضع الوبائي الراهن.
مفعول تعليق كل انزلاقات وأخطاء الأفراد والجماعات على مشجب الدولة
كثيراً ما رأينا في المقاهي والفضاءات العامة أناسا مجتمعين متحدثين متجادلين مستعملين مصطلحات أكبر من عقولهم، وهم يتجاذبون أطراف الحديث حول الأزمة الوبائية-الاقتصادية المزدوجة في المغرب كما خارجه؛ ورغم أنهم أشخاص متعلمون، بل منهم حاملو شهادات جامعية عليا، فإنهم يتكدسون حول الموائد أو يجلسون عن قرب في شتى الفضاءات العمومية، دون كمامات واقية ولا تباعد اجتماعي ولا مطهرات صحية.
يحوم جل كلام أولئك الخلائق المثقفين جداً حول انزلاقات الدولة وأخطائها المتكررة، وهم ساخطون عليها ومحملون إياها كل أخطار الجائحة، مع التركيز على ضرورة مساءلة المؤسسات الحكومية والسعي إلى سن مبدأ حقيقي لدولة الحق والقانون.
قد نتفق على ضرورة مساءلة الدولة في كل مناحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وليس فقط على مدى تحملها للمسؤولية في ما يخص التحكم في الوضعية الجائحية، بل حتى في ما يتعلق بمراقبة سلوك الناس حيال الوباء، إلا أنه من الخطأ الفادح ألا يسائل الفرد نفسه قبل أن يسائل من يحكمه، بل ليس لمن لا يحاسب نفسه أولاً أن يحاسب غيره أفراداً ومؤسسات، حكاماً ومحكومين. إن أمثال هؤلاء الناس اللامسؤولين المتهورين المتعاقسين هم الذين يخرجون "المسؤولين اللامسؤولين" إلى الوجود، لأن الدولة بكل جهازها الإداري-التحكمي لا يجب أن ينظر إليها على أنها كائن خارجي أو آت من الفضاء، بل كنتاجٍ للمخيال الجمْعي للمجتمع ككل، بحيث إن بنية الدولة وآليات اشتغالها تتشكل بالتطابق مع ذلك المخيال.
إنه من الهام حقا أن نحاسب الدولة وننتقد تقاعس المسؤولين وتهورهم، إلا أنه من الأهمية أيضا محاسبة المواطنين الناشرين لفيروس كورونا المتحوِّر طولاً وعرضا، علما أن كل مواطن يجب عليه الالتزام بارتداء الكمامة والتباعد الاجتماعي والنظافة، حتى ولو لم تفرض عليه الدولة ذلك مباشرة، عوض انتظار شرطي أو دركي أو قائد أو أي مسؤول عمومي ليفرض على المواطنين المواطنة الحقيقية.
مفعول "دونينغ-كروغر" ((Dunning-Kruger Effect وأثره في تفشي الفيروس
نعني بمفعول "دونينغ-كروغر" هنا أن المواطن يعتقد في حالات كثيرة أن درجة ذكائه وقدراته المعرفية تفوق المعدل العام داخل المجتمع الذي يعيش فيه، أو حتى داخل مجتمعات أخرى. ويتمثل هذا المفعول مجملاً في كون المواطن قد يرى بأم عينيه أن فيروس كورونا المستجد موجود حقّاً ومعدي وقاتل؛ ورغم ذلك يتمادى في تقديم نفسه على أنه هو الشخص الأعلم بكل شيء، مع الانصياع وراء الإشاعات التي ينشرها أشخاص متعددون، خاصة عبر منصات التواصل الاجتماعي.
وعلى العموم، فإن استفحال تفشي فيروس كورونا المستجد في المغرب، وبالتالي فقدان تسطح المنحنى الوبائي منذ الأيام العشرة الأخيرة من شهر يونيو-حزيران 2020، إنما مردُّه إلى تأثر الناس بمفعول "دونينغ-كروغر"، أي إيمانهم الراسخ بالمعارف الزائفة وتمسكهم بها، معتقدين أنهم أسياد العارفين، ما يدفعهم إلى عدم الحيطة والحذر والتمادي في التهور.
مفعول النعامة وأثره على عدم احترام بروتوكولات الحيطة والحذر من خطورة فيروس كورونا المتحوِّر:
يعني "مفعول النعامة" (Ostrich Effect) أن المتأثرين به من المغاربة وغيرهم يتهربون من خطر فيروس كورونا المستجد إلى مزيد من الخطر، كما تفعل النعامة التي تدفن رأسها في الرمال هربا من الأخطار المحدقة بها ملء الطبيعة.
من الجدير بالذكر هنا أن النعامة، عكس ما نعتقده نحن الآدميون، لا تدس رأسها في الرمال لقلّة في ذكائها الغرائزي، وإنما لأن ذلك يمكنها من التصنت للذبذبات التي تنذر بأخطار قادمة من بعيد، أما تعاقس المواطن في احترام قواعد التباعد الاجتماعي والنظافة الضرورية للاحتراز والوقاية من الفيروس الجديد فينمُّ عن غباء الإنسان الذي يحسب نفسه سيد العارفين ويلوم النعامة، بحيث يصبح من الأصح أن تحلل النعامة نفسُها سلوكَنا البشري لتخرج بفكرة علمية مفادها أن هناك مفعولاً واضحا للعيان، واسمه بكل بساطة "مفعول الأدمي" (The Human Effect)، لا مفعول النعامة غير الصحيح بتاتاً.
الانحياز التأكيدي
يعني الانحياز التأكيدي (Confirmation Bias) أن الإنسان غالباً ما لا ينصاع إلا للأفكار التي تؤكد ما يؤمن به، حتى ولو كانت تلك الأفكار حزمةً من المغالطات والخزعبلات التي لا يستسيغها أي عاقل حقيقي. على سبيل المثال لا الحصر، يعتقد الكثيرون من المغاربة اعتقاداً راسخاً أن فيروس كورونا المتحوِّر غير موجود إطلاقاً، وحتى إن وُجِد فإما أنه وهميّ ولا يعدو أن يكون إلا فيروساً حميداً منتجاً لإنفلوانزا عادية أو أنه مصَنّعٌ في مختبرات الكفّار لإماتة الناس وبالتالي التقليص من الانفجار الديمغرافي، أو السعي وراء المال عن طريق بيع الأمصال والأدوية الضارّة بالبشر والهادفة أساساً إلى تغيير جينات الشعوب أو تعقيم نسائها.
إلا أن الأغرب في الأمر يتمثل بالأساس في أن كل هذه الأفكار غير المؤكدة والأخبار الخزعبلاتية يستقيها عموم الناس مما ينشر على منصات التواصل الاجتماعي من كتابات وفيديوهات ومسموعات لا علاقة لها بالعِلْم إلا الخير والإحسان، ما يضخم لديهم الانحياز التأكيدي ويدفعهم إلى الهروب إلى الأمام، غير مبالين بما يقوله الخبراء الحقيقيون.
الانحياز التفاؤلي
دعُونا نُعبِّر عن الانحياز التفاؤلي (Optimism Bias) بشيء من الاستملاح: يعتقد المتأثرون بهذا الانحياز أنهم في مأمن من "التَّكوْفُد" من دون الآخرين، أي أن "الإمبراطور كوفيد التاسع عشر" المِجْهري لا يصيب إلا غيرهم، وكأن المنحازين إلى التفاؤل الزائد يقولون باللسان المغربي الدارج "ما عنْد كوفيد-19 مايْدِيرْ بِيَا!"، أي "لا شأن لكوفيد-19 بِي !"؛ وهذه مغالطة كبيرة بطبيعة الحال، لأن الفيروس لا يستثني أحداً مهما كان.
الانحياز الخَرُوفِي
يطلق أيضاً على "الانحياز الخَرُوفي" (Mutton Bias) أو "الانحياز القطيعي" (Sheep Bias) اسم "مفعول العربة" (Banwagon Effect)، بمعنى أن الناس ينحون في أغلب الأحيان إلى تقليد الآخرين في التراخي والاستهتار كموضة متخلفة، وكأنهم يتبعون مسار قطيع الخرفان أينما اتجه وارتحل، حتى وإن كان المسار خاطئاً ومنذراً بأخطار لا تحمد عقباها (Goidel and Todd, 1994; Morwitz and Carol, 1996).
وبالارتباط بهذا الانحياز القاتل في إطار تفاقم تفشي فيروس كورونا المستجدّ في المغرب كما لدى شعوب أخرى مغيِّبةٍ للعقل، فإن الاستهتار بالفيروس من لدُن شريحة واسعة من الشعب المغربي يشبه إلى حدٍّ بعيد سلوك أفراد يرتمون في آخر عربة تمرّ عليهم ما دام آخرون يفعلون بالمثل، دون التفكير قيد أنملة في الغرض من الارتماء في تلك العربة ولا في معرفة اتجاهها ولا إلى أين ستحط بهم الرحال ولا في الأخطار التي سيواجهونها بعد الانضمام إلى ركّابِها.
مفعول المقاربة العمودية لآفات المجتمع
يعني مفعول المقاربة العمودية (Vertical Approach Effect) لآفات المجتمع أن المواطن يعتقد اعتقاداً راسخاً أن كل من تعلم في المدرسة يجب عليه أن يتبنى مقاربة عمودية لكل آفات المجتمع، بمعنى أن مستوى حقوق الإنسان كلها تتحمله مؤسسات الدولة التي تتعالى عمودياً على كل فرد من أفراد المجتمع. ولذلك، فإن المواطنين يلومون الدولة على كل ما أصابهم من ظلم، بما في ذلك انتشار الوباء بينهم، معتقدين أن الدولة هي المسؤولة عن تردي أحوال حقوق الإنسان بكل أنواعها، مع العلم أنهم يرددون كل هذا الكلام وهم مجتمعون متكدسون ويتجاذبون أطراف الحديث حول الموضوع، بل ولا يحترمون حتى أمكنتهم في الطوابير كلما أرادواْ الحصول على خدمات عمومية.
إنهم يلومون الدولة على عدم حفاظها على حقوق المواطنين، وفي الوقت نفسه ليس لديهم أي حس وطني لحقوق الإنسان، بحيث إنهم يتبنون مقاربة عمودية خالصة لحقوق الإنسان، ضاربين بعرض الحائط كل مقاربة أفقية (Horizontal Approach)، متناسين بذلك أن المقاربتين مرتبطتان ارتباطاً واثيقاً، بحيث إن مبدأ دولة الحق والقانون لن يترسخ إلا باحترام حقوقنا الأفقية أولاً قبل أن نلعن الدولة ونسخط عليها بدعوى أنها تتعمد هدر حقوقنا عمودياً.
قد يلومنا بعض قراء هذه المقالة وقد يقولون إننا نعلق كل همومنا وآفاتنا على مشجب المواطن المغلوب على أمره، ونرد على هؤلاء لنقول لهم إننا لا نذهب إلى أن كل ما نعاني منه راجع إلينا نحن كمواطنين وأن الدولة بريئة من كل شيء كما بُرِّئ الذئب من دم يوسف؛ ولكن الواقع المعاش كما قد يلاحظه أي كان وبالعين المجردة يوضح بما لا يدع مجالاً للشك أننا مسؤولون عما نكابده في مجالات شتى، بل نحن مسؤولون حتى على تقاعس بعض المسؤولين الحكوميين وانزلاقاتهم البيّنة وعدم احترامهم لبعض حقوق المواطن العادي، لأن الدولة منا وإلينا، ونحن نستحق حكامنا؛ هذا هو الواقع وبكل بساطة!.
خواتم: خلاصات وماذا بعد؟
تناولنا في هذه الورقة موضوع استفحال تفشي فيروس كورونا المتحور في المغرب، وعلاقته بمجموعة من الانحيازات والمغالطات التي تؤثر على سلوك المواطنين في ما يخص الاحتراز والوقاية من خطر مرض كوفيد-19 الناجم عن الفيروس. إن هذه الانحيازات والمغالطات هي التي كلفت المغرب فقدان تسطح المنحنى الوبائي منذ الأيام العشرة الأخيرة من شهر يونيو-حزيران 2020، بعد أن كان يُضْرَب المثل بالمملكة كبلد استطاع التحكم في الجائحة، مع أعداد ضعيفة لحالات الإصابة والوفاة.
ارتأينا في ورقتنا التركيز على انحيازات ومغالطات رئيسة اختزلناها في ما يلي:
مفعول تعليق انزلاقات وأخطاء الأفراد والجماعات على مشجب الدولة.
مفعول "دونينغ-كروغر" المرتبط بادعاء المعرفة رغم زيفها البيِّن.
مفعول النعامة الذي ينجم عنه ما يشبه هروب المواطن إلى الأمام وتعريض حياته وحياة الآخرين للخطر.
الانحياز التأكيدي الذي يدفع بالمواطن إلى الاكتفاء باجترار الأفكار التي تؤكد ما يؤمن به ويعتقده، دون السعي إلى إعمال العقل وغربلة الأفكار.
الانحياز التفاؤلي الذي يحث المواطن على الاعتقاد الكاذب بأنه في مأمن من خطر الفيروس، معتقداً خطأً أن الجائحة، إن وُجدت حقاً، لن تصيب إلا الآخرين.
الانحياز الخروفي أو القطيعي أو "مفعول العربة" الذي يدفع بالمواطن المغلوب على أمره إلى مسايرة سلوك الأغلبية، حتى وإن كان في ذلك السلوك خطر عظيم.
مفعول المقاربة العمودية لآفات المجتمع، بمعنى أن المواطن العادي ينحاز إلى ربط كل هموم المجتمع وآفاته بسوء سلوك المسؤولين الحكوميين، بحيث يُغلِّب كفّة التفكير العمودي على كفة التحليل الأفقي، خاصة في ما يتعلق بهدر حقوق الإنسان بكل أصنافها، ما يحث هرجاً ومرجاً وسوء تنظيم، ويؤدي بالتالي إلى تفاقم انتشار الفيروس في كل ربوع المملكة، بكل آثاره على المنظومة الصحية الهشة أصلا، وإتخامها بشكل أفظع من ذي قبل، مع زيادة مضطردة في أعداد الوفيات.
تجدر الإشارة في الأخير إلى أن كل المغالطات والانحيازات التي تناولناها في هذه الورقة لا يجب اعتبارها قدَراً منزلاً بقدر ما يجب النظر إليها كظواهر بشرية قابلة للتصحيح والتهذيب، خاصة بفضل التربية والتعليم الرصينين داخل الأسرة كما في المدرسة والشارع، وبدعم واعِ ومنظم من وسائل الاتصال والتواصل الحكومية وشبه الحكومية وغير الحكومية.
إن الشعوب التي استطاعت قطع أشواط بعيدة في درب التنمية الشاملة المتكاملة هي التي استطاعت بفضل الجهود المضنية التي بذلها الأفراد والجماعات حُكّاماً ومحكومين الكفاح المستميت عبر التاريخ ضد المغالطات والانحيازات، التي لن تزيدنا في المغرب كما في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا على العموم إلا تنمية فظيعة للتخلف (Development of Underdevelopment).
لقد انخرط المغرب مؤخراً في بلورة وتجسيد نموذج جديد للتنمية تحت قيادة الملك محمد السادس وبأمر منه، إلا أن هذا النموذج سيبقى حبراً على ورق إذا لم تتكاثف جهود الأفراد والجماعات حُكّاماً ومحكومين من أجل مواجهة حقيقية لمجموعة من المغالطات والانحيازات الإدراكية التي ذكرنا أهمها في هذه الورقة، بالارتباط باستفحال تفشي فيروس كورونا المستجدّ، مع العلم أن هناك مغالطات وانحيازات أخرى مرتبطة بمسلسل التنمية الاقتصادية والاجتماعية كظاهرة كيفية (Qualitative Phenomenon)، وقد نعود إليها بالتحليل والتمحيص في إطار أوراق بحثية مستفيضة متعلقة بمستقبل النموذج التنموي الجديد في المغرب.
*أستاذ العلوم الاقتصادية، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة القاضي عياض، مراكش/المغرب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.