قبل حفل تنصيب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدةالأمريكية بساعات قليلة قامت وكالة الاستخبارات الأمريكية المعروفة اختصارا ب"CIA" بخطوة دالة استفتحت بها الإدارة الأمريكية، على أعلى مستوى، الولاية الثانية للرئيس ترامب وعند النقطة التي غادر فيها منصبه قبل أربع سنوات، وهي القرار التاريخي الأمريكي الذي وقعه ترامب في دجنبر عام 2020، والقاضي بالاعتراف الصريح بمغربية الصحراء وبسيادة المغرب على كامل ترابه الوطني، منهيا بذلك كل الجدل والغموض بشأن الموقف الأمريكي الداعم للقضايا العادلة للمغرب، حيث عمدت هذه الوكالة وبناء على المعطيات القائمة والتوجهات التي تمليها وتنخرط فيها الإدارة الأمريكيةالجديدة، إلى إعادة تحيين وتحديث معطياتها على موقعها الرسمي الإلكتروني حول المغرب، والتي ضمنتها الخريطة الكاملة للمغرب مشمولة بصحرائه المسترجعة وبتسجيل تاريخ الاعتراف الرسمي الأمريكي بمغربية الصحراء عام 2000، وغيرها من المعطيات الداعمة للعلاقات التاريخية والاستراتيجية الأمريكية المغربية. لم تكن وكالة الاستخبارات الأمريكية بحاجة إلى إعادة تأكيد هذا الموقف المحسوم من قبل الدولة الأمريكية، وفي ظرفية استجدت فيها أمام السياسة الخارجية الأمريكية ملفات وقضايا ونزاعات شائكة ومؤثرة وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا وغزة، ولكن إرادة الربط بين لحظة مغادرة ترامب للبيت الأبيض عند انتهاء ولايته الأولى ولحظة رجعته وعودته وإعادة تنصيبه، وجدت في ملف الصحراء المغربية نقطة دالة على إرادة الإدارة الأمريكية في طبعتها الجديدة إطلاق إشارات مضيئة باستئناف ترامب عمله ابتداء من النقطة التي ترك فيها قبل أربع سنوات ملفات وقرارات في طور التنفيذ والتنزيل والتمديد، والمعلوم أن إدارة الرئيس المغادر جو بايدن خلال مدة تدبيرها للسياسة الخارجية الأمريكية ما بعد ترامب قد راجعت كثيرا من قراراته السابقة إما بالتعطيل أو التجميد أو التقييد أو التراجع أو بإعادة التقييم، باستثناء قرار الاعتراف بمغربية الصحراء الذي دخل السجل الفيديرالي الأمريكي، ولم يعد قرارا سريعا في آخر ساعة لترامب، كما سوقت العصابة الحاكمة في الجزائر لذلك، طيلة أربع سنوات، تهكمت فيها على الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، ناعتة إياه تارة بتغريدة ترامب على موقع للتواصل الاجتماعي، وتارة ببيع الوهم للمغرب، وتارة أخرى بأن إدارة بايدن لا تجيزه ولا تقيم له وزنا، أو أنها تراجعت عنه ورمته في سلة المهملات بإنهاء حقبة ترامب والتخلص منه إلى غير رجعة. ولطالما حاولت العصابة الحاكمة في الجزائر عبر ديبلوماسييها وأزلامها، وعبر أبواقها الإعلامية المزورة، وعبر تحركاتها المتخبطة والمرتبكة، أن تحصل من إدارة بايدن على تصريح، أو مجرد جملة تفيد صرف أمريكا النظر عن موضوع الاعتراف بمغربية الصحراء، فلم يتمكن لها ذلك، وكل ما أفادت به هذه الإدارة السائل والمستفسر والمستفز هو أن موقف الإدارة الأمريكية لم يقع فيه أي تغيير، وأن لا جديد في الموضوع، وأن الأمر محسوم ولا تراجع عن أي التزام أو قرار بشأن موضوع الصحراء أو العلاقة مع المغرب. وقد استغلت العصابة الحاكمة في الجزائر عموميات مثل هذه التصريحات والإجابات الإجمالية، لادعاء أن إدارة بايدن لا تنظر بعين الرضى إلى قرار آخر ساعة لترامب بشأن الاعتراف بمغربية الصحراء، وبين الفينة والأخرى تظهر في المشهد بعض الانزلاقات أو الأخطاء في التعبير أو التحركات أو التقاط صور ونشر خرائط، من قبل أمريكيين، تعمد الأبواق الإعلامية للعصابة الجزائرية إلى تضخيمها والاستدلال بها على نسخ اعتراف ترامب والتراجع عنه والعودة إلى حياد الولاياتالمتحدةالأمريكية في الموضوع… لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة والسطحية لدى أصحاب القرار وصناعه في الدولة الأمريكية، فسحب الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء لم يطرح بتاتا في أي تصريح أو قرار أو جواب عن سؤال أو مبادرة، في عهد بايدن، رغم كل المحاولات اليائسة والاستمالات البائسة التي قامت بها العصابة الحاكمة في الجزائر وأحلافها من الأطراف المعادية للوحدة الترابية للمملكة المغربية، ولوبيات مدفوعة الثمن للتشويش على القرار الأمريكي وإدخال ملف الصحراء المغربية في صراع موازين القوى بين الديموقراطيين والجمهوريين في الولاياتالمتحدةالأمريكية… فالعصابة فشلت فشلا ذريعا في ثني هذه الدولة الصديقة والحليفة عن قرارها التاريخي، مهما تغيرت الإدارة السياسية، وكيفما كانت الحكومات والحاكمين في واشنطن. كل ما وقع خلال السنوات الأربع من إدارة الرئيس الأمريكي المغادر جو بايدن، هو انتقال سلس لملف الصحراء المغربية من كونه قرارا إداريا وسياسيا أمريكيا إلى إدراجه ضمن الثوابت الأمريكية في سياستها الخارجية في المنطقة المغاربية، وكانت الصحراء المغربية بالفعل طيلة هذه المدة هي النظارة التي تنظر بها الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى علاقاتها مع المغرب ومع جيرانه في المنطقة. ما سيميز، في موضوع الصحراء المغربية، عودة ترامب وإدارته الجديدة إلى تدبير هذا الملف، هو زيادة الجرعة الناقصة أو السرعة القصوى المهملة في تفعيل بنوده من قبل بايدن ومعاونيه، واستئناف تنزيل باقي الالتزامات الأمريكية والاتفاقيات مع المغرب والمرتبطة كلها بنظارة الصحراء المغربية. ويبدو أن جرأة ترامب وما اكتسبته إدارته ومساعدوه من خبرة بملف النزاع المفتعل حول الصحراء، وما انتهى إليه في أروقة الأممالمتحدة وفي المجتمع الدولي من حسم بدعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية، لن تتوقف عند حدود الاعتراف المفروغ منه، بل ستتعداه إلى تنزيل كل عناصره على مستوى الواقع وحيث تركها ترامب قبل أربع سنوات، وهي تفعيل قرار فتح قنصلية أمريكية بمدينة الداخلة وشروعها في أداء مهامها وأعمالها، والانخراط في مسلسل من الشراكات التنموية الواعدة والرائدة في الأقاليم الصحراوية المغربية، وتفعيل مطلب العديد من السياسيين الأمريكيين وأعضاء الكونغريس الأمريكي بتصنيف جماعة البوليساريو كمنظمة إرهابية، الأمر الذي سينهي إلى غير رجعة هذه اللعبة الجزائرية الذي دامت نصف قرن من الزمن، لم تجن منها لا إفريقيا ولا دول المنطقة المغاربية إلا مزيدا من التشرذم والتوترات والانقسامات وإذكاء الخلافات والفتن، وتصدير الإرهاب والأزمات إلى العالم، وعرقلة الوحدة ومسارات التنمية لصالح الشعوب والدول. ومع كل هذه الوقائع والتطورات والتحولات والمكتسبات لصالح قضية الوحدة الترابية للمغرب، وكل الآمال المعقودة على الإدارة الأمريكيةالجديدة لاستئناف واستكمال ما بدأته في طبعتها الأولى من تكريس الاعتراف بمغربية الصحراء عبر قرارات موثوقة ومبادرات جريئة وحاسمة، فإن ثمة عالما آخر تسكنه العصابة الحاكمة في الجزائر يغط في أحلامه وأوهامه التي تخيل له أن ساكن البيت الأبيض سيلتفت يوما وبكل غباء إلى الوراء ويشطب تاريخا مشتركا ومصيرا مستقبليا وحاضرا وواقعا لا يرتفع، بتغريدة على منصة "إكس" تسحب الاعتراف التاريخي للولايات المتحدةالأمريكية بمغربية الصحراء.