أتى الخطاب الملكي السامي بمناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لعيد العرش المجيد على الحديث المختصر والمجمل عن المنجزات والمكاسب العديدة التي تحققت للمغرب خلال هذه السنوات، ولأنها صارت من باب تحصيل الحاصل الذي تشهد به شواهد الواقع والتاريخ ومكانة المغرب وموقعه الذي تبوأه دوليا وقاريا كفاعل وازن وشريك موثوق، فإن جلالته أبى كعادته إلا أن يترك جانبا امتداح القائم من المنجزات، ليوجه الأنظار إلى مواطن الضعف والخلل التي ينبغي أن تعالج وتسد، وتعطاها الأولوية في إطار الحكامة التدبيرية وعلى رأسها تدبير المخاطر والمساوئ والطوارئ، ورفع التحديات التي تواجهها المبادرات والمشاريع التنموية والنهضوية للبلاد. فبشأن القضايا الوطنية الراهنة ذات الطابع الاستعجالي المُلح التي ينبغي إيلاؤها أهمية قصوى في السياسات العمومية والقطاعية وفي المجالات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، قضية حسن تدبير الثروة المائية الوطنية التي تتعرض للاستنزاف وتراجع مخزونها بفعل توالي سنوات الجفاف والاستهلاك المفرط والإجهاد المائي، رغم كل ما تم بذله من جهود وإنفاقه من أموال لتعبئة الموارد المائية وتوفير موارد جديدة. وفي هذا الصدد ركز الخطاب الملكي على نقطتين بشأن هذه المعضلة المائية التي تتوسع رقعتها يوميا منذرة بوضعية مقلقة وخطيرة ومؤثرة في برامج ومشاريع توفير هذه المادة الحيوية بل عصب الحياة للمواطن أولا وللاقتصاد الوطني خاصة منه المرتبط بالأمن الغذائي للوطن. وفي هذا السياق نبه جلالته إلى مسارين متوازيين ومتكاملين في خطة العمل والإنقاذ؛ المسار الأول يرتبط بالوعي الجماعي وثقافة الاستهلاك المفرط المطبوع بالتبذير والإسراف في استعمال الماء في غير الضروريات، ويتعين في هذا الإطار ترقية وعي المواطنين وتحسيسهم بأهمية الحفاظ على الماء وتحميلهم مسؤوليتهم المجتمعية والأخلاقية في رعاية أمنهم المائي والقطع مع سلوكات تبذيرية ومظاهر لا مبالية لم تعد مناسبة للفترة الحرجة والمقلقة التي تمر منها الوضعية المائية في العالم وفي بلادنا، وحتى تكون هذه التعبئة المجتمعية بواسطة التثقيف والتواصل والتحسيس مجدية فينبغي إرفاقها أيضا بتدابير عملية وإدارية من شأنها الحد من الاستغلال المفرط للماء، عبر تفعيل السلطات المختصة كامل صلاحياتها في حماية الملك العام المائي ، بما في ذلك تفعيل شرطة الماء،من أجل عقلنة وترشيد الماء ومنع تبديده وإتلافه وإهداره. أما المسار الثاني فيرتبط بمساءلة نجاعة السياسة المائية العمومية ،حيث نبه جلالته إلى التأخر في إنجاز بعض المشاريع المبرمجة مما يتعين معه ،بحسب التوجيهات الملكية السامية، العمل بصفة مستعجلة على التنزيل الأمثل لكل مكونات البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020-2027، وعلى التحيين المستمر لآليات السياسة الوطنية للماء، وتحديد هدف استراتيجي يتمثل في ضمان الماء الشروب لجميع المواطنين، وتوفير 80 في المائة ،على الأقل، من احتياجات السقي على مستوى التراب الوطني. هذا مع مواصلة سياسة بناء السدود، وكذا توسيع إنجاز محطات تحلية مياه البحر وزيادة إنتاجها، موازاة مع استكمال حلقات الطرق المائية السيارة الناقلة للمياه من أحواض إلى أخرى تجنبا لتبديدها وصبها في البحر. ولم يفت جلالته أن ينبه إلى ما لهذه المخططات والإجراءات المستعجلة،خصوصا منها ذات الطابع الإبداعي والابتكاري، من أهمية قصوى ليس فحسب في توفير مياه الشرب الضرورية للحياة، بل وأيضا توفير الأمن الغذائي للوطن الذي تعتبر الفلاحة والصناعات المرتبطة بها حصنا حصينا للتنمية الوطنية وشريانها الممد لها بالمنعة والقوة والصمود أمام التقلبات والتحديات التي يشهدها العالم. ومن ثمة فإنه لا مجال لاي تأخر أو تماطل أو تراخ أو تهاون أو سوء تدبير في تسوية الإشكالات والمعضلات المائية التي رفعها الخطاب الملكي إلى مستوى" القضية المصيرية". أما بشأن القضايا القومية والدولية فإن الخطاب الملكي السامي أبى إلا أن يضع كل القضايا الخارجية للبلاد جانبا،ليرفع فوقها وفي مرتبة الأولوية بالنسبة للسياسة الخارجية والدولية للمغرب، قضية الشعب الفلسطيني التي قدم المغرب في سبيلها تضحيات ولا يزال على عهده وثوابته سواء في تقديم المساعدات المتميزة وغير المسبوقة للمتضررين من أبناء الشعب الفلسطيني، أو في الدفاع في المحافل الدولية عن حقوق هذا الشعب في بناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية. وفي هذا الإطار عرض جلالته ما يتعين القيام به بصفة مستعجلة في ظرفية المأساة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، ألا وهو العمل على دعم كل المبادرات والجهود الدولية والعربية البناءة من أجل الوقف الفوري للحرب في غزة، بموازاة مع العمل القوي على تنفيذ الالتزامات الأممية بفتح أفق سياسي لمواصلة مفاوضات حل الدولتين وتنزيل القرارات الأممية ذات الصلة، وقطع الطريق على كل المتاجرين بمآسي الشعوب في المنطقة وكل المتطرفين ودعاة العنف والكراهية والتخريب من أي جهة كانوا. كان الخطاب الملكي ، وبهذا الاختصار والتركيز التفصيلي على قضيتين اثنتين إحداهما في السياسة الداخلية والأخرى في السياسة الخارجية، دالا على حكامة ملكية في غاية الدقة والانتقاء من حيث ترتيب الأولويات وإعادة تشكيل الوعي المرحلي بما ينبغي تقديمه من الشؤون الحيوية والمستعجلة، وما ينبغي دفعه أولا وبصفة مستعجلة من المفاسد والمضار، وتقديم ذلك على ما سواه من جلب المصالح التي يمكن العمل عليها بالموازاة وبصفة عادية ولاحقة. علما أن تدبير المخاطر أو استحضار الأضرار والعثرات والاختلالات ضروري في رعاية المصالح وإحاطتها بقدر كبير من اليقظة واستشراف المستقبل وتأمين المبادرات والمشاريع من عبث العابثين.