أسدل الستار أول أمس الإثنين، على آخر فصول معاناة الطفل المغربي ريان ذي الخمس سنوات، بعد توديعه إلى مثواه الأخير في محفل رهيب، وقبل ذلك انتشاله من البئر التي علق فيها، فعلقت معه أنظار العالم التي تتبعت بالصوت والصورة جميع مراحل الجهود الجبارة لإنقاذه، لحظة بلحظة ليلا ونهارا، طيلة خمسة أيام متواصلة، وعلقت معه أيضا قلوب الإنسانية جمعاء من مشارق الأرض إلى مغاربها، بفيض من المشاعر النبيلة الغامرة وبسيل من أشكال التضامن والتعاطف المادية والمعنوية، وشد إليه أنفاس الأمم وعبراتها التي أخرجت طاقات من الخير الكامن والقيم الفاضلة والمثلى قل نظيرها، تلك القيم التي لم يطمسها تغول الأنانيات وقسوة الحياة وتبلد الأحاسيس، كما شدت النازلة عقول العالمين من القادة والمدبرين والمسيرين وأهل الحل والعقد لنشر خطط الإنقاذ وإعادة النظر في طرائق العمل الإنساني وتقديم الخدمات ورعاية المصالح وبحث سبل الوقاية من المخاطر وعلاج المصابين وتسريع الأبحاث والمبادرات لتطوير وسائل الإسعاف وسد النقص والخصاص، والعناية أكثر بالمهمشين وذوي الهشاشة والاحتياجات الخاصة، كما فجر الحدث المؤسف عيونا من أعمال الخير والبر والإحسان والتطوع، ليس فحسب في بلد الطفل الفقيد، بل في سائر أرجاء المعمور الذي تناقلت الأخبار نماذج رائعة وعفوية من البرور، ونماذج استباقية من القرارات والتفاعلات مع الحدث بالغة الأهمية في تفعيل قوانين وإجراءات لتفادي تكرار الواقعة في أماكن أخرى من العالم، وما أكثرها، كإغلاق الآبار المكشوفة والمهملة وردمها، وتسوير غيرها وتغطيتها، وإخراج فرق مختصة لتحديد المخاطر ودرئها. لقد كشف الحدث عن جوهر إنساني نبيل في التراحم والتعاطف، وعن مواطنة عالمية لا تقف في وجهها حدود جغرافية ولا هويات قومية ولا نزعات مذهبية ودينية ولا نزاعات سياسية، فمع كل تحريك لفرق الإنقاذ لجبل من التراب والحجر لانتشال الطفل العالق، تحركت جبال رواسي من السواعد، وتحركت برك راكدة من المبادرات الإيجابية ومن المشاعر الجياشة، ليس لأن الطفل ريان وحده في العالم من عانى ظروفا قاسية وقاهرة لخطر هدد حياته وأودى بها وفُجع فيه العالم، بل لأن هذا الطفل هو الوحيد الذي اجتمعت له ظروف وسياقات تمثيل ملايين من الأطفال الذين رمت بهم الأقدار إلى حيث كان لا ينبغي أن يكونوا فيه، فكان رمزا فردا لهذا المجموع، في اسمه الكوني: ريان، وفي طيبوبة أهله وقريته وبلده وأصالة شعبه، وفي تضامن مجتمعه ودولته، وفي الاستثمار الشعبي العفوي الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة في النقل المتواصل لمشاهد العمل المضني والمتكاثف والرائع لإنقاذ ريان، ودعم فرق الإسعاف، ومواساة الأهل واستقبال الوفود وضمان الأمن، وبمقاومة شرسة وحذرة وصراع مرير مع الزمن ومع قساوة الطبيعة لاستخلاص الصغير من بين أنياب الموت، فلم يمنع حذر بشري من قدر إلهي، ولا عصمت آلة من مآل ومصير محتوم. تحول العالم كله في لحظة مؤثرة إلى قرية صغيرة تحتضن عنوانا كبيرا مربوطا على قلب طفل صار رمزا للتضحية والانتصار لقيم الحياة والتضامن والتعبئة وإسكات كل النعرات وركن كل الأحقاد جانبا، وترقب مستقبل آخر ممكن ملؤه الرحمة والتآخي والسلام، ومداواة الكلوم والهموم، لكل الذين يدقون أبواب الجدران المغلقة للخروج من غيابات الجب، أيا كان بئرا أو مطوية نسيان وإهمال واحتجاز. إن من شأن استثمار هذه اللحظة العاصفة التي اختلطت فيها المشاعر والأحاسيس والدموع والدعوات والابتهالات، في بث الطاقة الإيجابية التي رافقت عمليات الإنقاذ، لعموم الناس باختلاف أعراقهم وانتماءاتهم القومية والدينية، أن ينشئ عالما جديدا يعطي أهمية أكثر لما يجمع الناس ويوحدهم على قيم إنسانية نبيلة تخطت في حالة الطفل ريان كل الحدود، إذ شهدنا المؤمنين من كل الأديان في معابدهم ومصلياتهم يدعون للطفل ريان بالنجاة ويترحمون عليه عند إعلان الوفاة، ويشيعونه في جنازته، بكل لغاتهم وأوطانهم وأديانهم وثقافاتهم. لحظة يفترض فيها أن ترفع منسوب الثقة في أن الذي يصنع السلام في الأرض والرحمة للناس هو هذا المعدن النفيس المفطور في قلوب البشر والذي جبلوا عليه وخلقوا له وهو التعاون على البر والتقوى والكف عن الإثم والعدوان. فشكرا لجميع أحرار العالم ونبلائه الذين كشفوا عن هذا المعدن الإنساني النفيس وهم يتابعون حالة ريان ونازلته، وهم يعبرون عن أنبل المشاعر، وشكرا لملك مغربي مواطن وإنساني كبير كان أول المتابعين عن كثب والساهرين الذي جند كل ما يمكن تجنيده من إمكانات في سبيل إنقاذ الطفل ريان، والمداومة على الاتصال بأهله وإحاطتهم برعايته السابغة، إلى أن حل قضاء الله الذي لا راد له، والخزي والعار لكل الذين سقطوا في اختبار الإنسانية، وكشفوا عن معدنهم الخسيس، ودللوا أمام العالم أجمع أنهم لا ينتمون إلى صنف البشرية، بما أشاعوه من كراهيات ومزايدات في هذه اللحظة الجامعة المرحومة، وما بثوه من السموم والتشكيكات والمتاجرات والمزايدات الرخيصة في المأساة، وبما نشروه من الطاقات السلبية والمنحطة، حيث لم يقيموا وزنا لجهد، ولا حرمة لمشاعر أهل الفقيد ولا لذويه ولا للذين التفوا حوله من أرجاء المعمور بكل ما أوتوا من قوة ونية صادقة استجابة لإنسانيتهم وفطرهم السليمة أولا قبل كل شيء، ولا للذين قدموا تضحيات جليلة فاقت التصور، لإحياء نفس واحدة من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعا. وإنما يجزى الناس على قدر نواياهم وأعمالهم. فتحية للجميع على ما بعثوه من أمل جديد في إخراس أصوات الكراهية والفرقة والتنافر، وإطلاق مبادرات التعاون والتضامن والتكافل، وأفضل من ذلك تحرير الروح الإنسانية من أغلال الإقليمية الضيقة والمذهبية الخانقة والحدود المغلقة، التي نتمنى أن تُطمر يوما ما، كما تطمر الآن في أرجاء العالم المطبات والحفر المكشوفة والآبار المهجورة.