مرة أخرى تضطرنا مستجدات الأحداث في المشهد السياسي الحكومي، وعند الأزمات المتواصلة ذات الصلة بتدبير السياسات العمومية، والتي تظهر خافتة أو تنفجر بعنف بين الفينة والأخرى، إلى التطرق للمعضلة الانتخابية والمسألة الدستورية اللتين أفرزتا هذا المشهد السياسي غير الطبيعي، وهذه الأغلبية الحكومية المصطنعة لاستكمال نصابها، ولو على حساب الفعالية والجدوى والانسجام والنجاعة والقوة المفترضة أساسا في تشكيل الحكومات في أزمنة الإصلاح والمشاريع الهيكلية الكبرى. مِن المستجدات، مستجد أول يتمثل في توسع قاعدة المطالبين من الهيئات والفعاليات السياسية، بإجراء تعديلات على الفصل 47 من الدستور، وإدخال إصلاحات على المنظومة الانتخابية بما يضمن الخروج من نفق إعادة سيناريو الانسداد والتعثر(البلوكاج) في تشكيل الحكومة الذي عرفته البلاد لمدة تناهز الخمسة أشهر، عند تعيين بن كيران من الحزب الحاصل على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية الأخيرة، رئيسا للحكومة، وفشله في المفاوضات التي قادها مع الأحزاب السياسية لتشكيل حكومته، مما اقتضى تدخل جلالة الملك لنزع فتيل هذه الأزمة بتعيين العثماني من الحزب نفسه المتصدر لقائمة الفائزين في الانتخابات، لقيادة مفاوضات جديدة بهدف الإسراع بإخراج تشكيلة الحكومة من عنق الزجاجة. ومع أن الرجل وفق في مهمته واستطاع في وقت قياسي أن يبدد جميع العراقيل والتعثرات والمنازعات التي اكتنفت تدبير بن كيران لمهمته، إلا أنه ظل قرابة سنتين ونصف يدبر الخلافات والصراعات المندلعة في صفوف حزبه وفي صفوف أغلبيته، بما تحقق معه انسداد و”بلوكاج” ثان، خيم على معظم مشاريع القوانين الحيوية التي لم تعرف طريقها إلى توافق الأغلبية، وإلى المصادقة البرلمانية عليها، وإلى حيز الوجود، الأمر الذي يعيده عدد من المحللين السياسيين إلى نتائج منظومة انتخابية غير قادرة على إفراز أغلبية واضحة المعالم وقادرة على صوغ تحالفات حقيقية وقائمة على برنامج تتقاطع داخله ملامح مشاريع الإصلاحات المشتركة والمرجعيات المتقاسمة. المستجد الثاني يتمثل في اتساع رقعة المناوشات والصراعات والتراشقات بين أحزاب من تشكيلة الأغلبية الحكومية، والتي تفرغت كلية في منتصف ولايتها، وفي منتصف الطريق إلى الانتخابات التشريعية المقبلة، لكيل الاتهامات لبعضها البعض، والزيادة في سرعة الذهاب إلى “بلوكاج” أو انسداد جديد، عاصف بكل المكتسبات الهشة للتوافق والتحالف الحكومي المصطنعين، إذ لا تخلو الأخبار يوميا من تصريحات وتصريحات مضادة واتهامات متبادلة بين وزراء وقيادات من حزب رئيس الحكومة وعدد من وزراء وقيادات أحزاب أخرى من الأغلبية الحكومية، يتصدى لها رئيس الحكومة تارة بتأجيجها والاصطفاف مع حزبه، وتارة أخرى بالتهوين منها والتقليل من أهميتها وشأنها، وتارة بالصمت عنها والانحناء لعاصفتها. لكن من شأن تزايد التطاحن أن يفقد المسؤولية الحكومية مصداقيتها، وأن يجعل الجسم الحكومي عرضة للتهاوي البنيوي من داخله، حيث لم يعد مستغربا أن نسمع أشد أصوات المعارضة والاعتراض تصدر من قلب الأغلبية الحكومية نفسها التي يقف بعضها لبعض بالمرصاد. ولعل خطورة هذا “البلوكاج” في مسار التدبير الحكومي وسيرورته لا يقل عن خطورة “البلوكاج” في تشكيلها. المستجد الثالث يتمثل في الضيق الشديد الذي بدأت تعبر عنه جهات عديدة من ركون إلى تكريس الجمود والتجميد لعدد من المشاريع الحيوية بسبب من أعطاب التوافق الحكومي حولها، أي بسبب التوسع الحكومي في “البلوكاج” نفسه الذي جاءت الحكومة في بداياتها لفك عقدته. ولعل قمة هذا الضجر ونفاذ الصبر، ما عبر عنه مؤخرا رئيس مؤسسة دستورية هي المجلس الأعلى للتربية والتكوين، من امتعاضه الشديد من طريقة تدبير الفاعل السياسي لمشروع القانون الإطار المتعلق بالتربية والتكوين، الذي تعرض لأبشع أنواع التنكر والتسفيه والعرقلة، دون أن يمر إلى التصويت والمصادقة البرلمانية، وذلك حين قال متأسفا ما معناه: أن تجميد قوانين الرقي بمنظومة التربية والتكوين وإصلاحها لا يعكس دعوى كون هذا الإصلاح اختيارا متقاسما بين الجميع. وكان كافيا لهذه الإشارة أن تنبه مرة أخرى إلى ديمومة “البلوكاج” والعرقلة والانسداد، وأن يسرع المعرقلون إلى قبة البرلمان لإبراء ذمتهم في شبه اتفاق وتوافق كان بالإمكان إحداثه منذ شهور، بغير المناطحات التي أهدرت زمنا سياسيا ثمينا واستنزفت طاقات البلاد في تشنجات ومزايدات منكرة، حيث تمت أمس المصادقة على مشروع القانون الإطار المذكور بلجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب. خلاصة هذه المستجدات القديمة الجديدة في آن، أن “البلوكاج” بنيوي وجذري في تشكيلة حكومية من نوع هذه الحكومات التي أفرزتها المنظومة الانتخابية في ظل الدستور الجديد، ولا يمكن فك عقدته نهائيا بالاستمرار في إنتاج الأسباب نفسها التي تقود إليه. ومن ثمة، فإن نقاش إصلاح المنظومة الانتخابية ونقاش تعديلات بنود دستورية تهم تعيين رئيس الحكومة وتشكيل الحكومة، هما وليدا سياق سياسي كشف عن عيوب كبيرة للآلية الانتخابية المعمول بها، تهدد القاعدة الناخبة بالعودة إلى العزوف عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، كما تهدد على الدوام بخلق تركيبات حكومية هجينة وغير قوية وغير منسجمة وبدون فعالية أو جدوى في تحقيق انتظارات المواطنين ومواكبة استحقاقات الوطن.