قفز موضوع الهجرة، خلال الأيام الأخيرة، إلى واجهة الأحداث، فتركزت متابعات وسائل الإعلام على تصريحات وردود الفعل الأوروبية، وعلى رسائلها الموجهة إلى المغرب وغيره من البلدان الإفريقية، كما عكست الصحافة المغربية اهتمام الرأي العام الوطني بعودة شبكات الاتجار بالهجرة السرية والمهاجرين إلى الزيادة في حجم نشاطها، بما في ذلك بعض الحالات المؤلمة التي عرفتها الشواطئ المغربية، وكانت التقارير الأخيرة للأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية من العناصر التي ساهمت في شد الانتباه مجددا لهذا الموضوع. وبطبيعة الحال، فإن المغرب والمغاربة لهم كل الأسباب التي تجعلهم يتتبعون ملف الهجرة ويهتمون بتطوراته، ليس فقط لكون المغرب كان دائما بلد هجرة، أو لكون بعض عائلاته عانت من مخاطر ومغامرات الهجرة السرية، ولكن أيضا لعدة أسباب أخرى (ليست كلها سلبية)، ومنها بالخصوص: * أن المغرب لم يعد بلد عبور، بل أصبح منذ بضع سنوات بلد استقبال لجالية مهمة من البلدان الإفريقية جنوب الصحراء، وتأسيسا على مقاربته الإنسانية لمجال الهجرة، وضع آلياته المؤسساتية والقانونية لاحترام حقوق وكرامة المهاجرين النظاميين. * أن المغرب، وفي إطار موقعه الإقليمي والدولي، يعد طرفا رئيسيا في الجهود الدولية من أجل معالجة إشكاليات وتعقيدات قضايا الهجرة، كما أنه يعد من البلدان الرئيسية التي تتحمل تداعيات أنشطة شبكات التهجير السري. * أن المغرب، وفي شخص جلالة الملك، الذي هو رائد الاتحاد الإفريقي في موضوع الهجرة، يضطلع الآن أساسيا، برسم السياسة الإفريقية للهجرة، وفي العمل من أجل دفع الأطراف الدولية الأخرى إلى وضع تصور جديد لقضية الهجرة. إنها ثلاثة عناصر، وطنية، قارية ودولية، تجعل المغرب في قلب معادلات الهجرة وإشكالياتها، وبالتالي تتطلب منه مواصلة العمل والجهد من أجل التصدي الفعلي والفعال لبعض التطورات والتحولات التي تضع أكثر من علامة استفهام أمام إمكانية المعالجة السليمة والمستدامة لظاهرة الهجرة، لاسيما وأن هذه التطورات فيها من المؤشرات ما يبعث على القلق والتخوف. ومن الأرقام الدالة على هذه المؤشرات، تلك التي تكشف عنها تقارير منظمة الهجرة الدولية، التابعة للأمم المتحدة، والتي تقول بأن المغاربة يأتون في مقدمة المهاجرين السريين الذين وصلوا بحرا إلى الشواطئ الأوروبية بأزيد من 6 آلاف مهاجر سري، متبوعين بالغينيين 4800، والماليين 4150، كما يفيد تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة، عقب اجتماع مجلسها الأسبوع الماضي، أن عدد العمليات التي تم إحباطها ارتفع، خلال سنة، من 39 ألفا إلى 54 ألفا في حدود الشهر الجاري، فيما أن عمليات شبكات التهجير السري تواصل ضغطها وتدفقاتها على المغرب، مما اضطر معه هذا الأخير إلى اتخاذ بعض الإجراءات التي تحدثت عنها الصحافة، وتتعلق بترحيل مجموعات من المهاجرين غير النظاميين (قدرت ب 6500) من المناطق الشمالية إلى مدن وسط البلاد وجنوبها، وهو إجراء يبدو أن الهدف منه هو تخفيف الضغط على مدن وقرى الشمال المغربي، ولا يستبعد أن تستغله بعض الجهات في حملاتها ضد المغرب. ومن ضغط قوافل الجنوب إلى مناشدات آتية من بلدان الشمال، حيث خلصت أشغال المجلس الأوروبي إلى طلب (يد العون) من المجموعة الإفريقية من أجل تجاوز ما اعتبره (أزمة الهجرة)، وتزامنت المناشدة الصادرة عن المجلس الأوروبي مع الدعوة التي أطلقها وزير الداخلية الفرنسي والتي دعا فيها إلى تقديم مساعدات لكل من المغرب والجزائر بالنظر إلى كونهما بلدي عبور، معتبرا أن البلدين مستعدان للتعاون في هذا المجال، غير أن تأمين الحدود مسألة معقدة وتتطلب مساعدتهما. ولا يمكن لهذه الأصوات والتحركات الأوروبية إلا أن تتقاطع مع استحضار دور المغرب على صعيد القارة السمراء، باعتبار أن المغرب لم يتردد في مكاشفة الشركاء الأوروبيين بخصوص كل ما يهم مشاكل الهجرة، وما تتطلبه من حوار رصين وهادئ، والبحث عن تصور جديد مشترك للمعالجة الممكنة، ولعل كل الجهات المعنية تتذكر جيدا ما جاء في خطاب جلالة الملك إلى القمة الخامسة للاتحاد الإفريقي الاتحاد الأوروبي بأبيدجان (نهاية دجنبر 2017)، حيث أوضح أن “التضامن بين أوروبا وإفريقيا ليس مفهوما فارغا، ولا يعني وجود علاقة ترتكز على العمل الخيري الإنساني من جانب واحد، فالتضامن المقصود هنا يقوم على المسؤولية المشتركة، وترابط المصالح بين الطرفين على حد سواء”. على مفهوم المسؤولية المشتركة هذا، أظهر المغرب، بمجرد عودته إلى مؤسسات الاتحاد الإفريقي، قدرته على الدفاع عن المصالح الإفريقية وحماية حقوق وكرامة المهاجرين الأفارقة، وذلك من خلال مبادرات خلاقة وحلول عملية مشتركة تعطي للتعاون بين المجموعتين، الإفريقية والأوروبية، في مجال الهجرة وغيره، مدلوله الحيوي. وفي هذا الاتجاه، ومن هذا المنطلق، كان الخطاب الملكي صريحا لما أضاف قائلا : “من هذا المنطلق، فالشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإفريقيا مطالبة بالتطور، والارتقاء بها إلى مستوى ميثاق مشترك. إن الأمر يتطلب من القارتين الإفريقية والأوروبية العمل سويا، على مواجهة التحديات المطروحة، وذلك من خلال تطوير تنافسية مشتركة، وتوطين المقاولات المنتجة بكلا القارتين وضمان حركية منظمة، لتنقل الأشخاص، وتعزيز التبادل الثقافي المثمر”. وبمثل هذه الاقتراحات وهذه الأفكار العملية والجدية، يعطي المغرب بذلك كل التفسيرات المقنعة لموقفه الرافض للتصورات الجامدة والمعالجات الجزئية، كما هو الشأن لما تقترحه بعض دول الاتحاد الأوروبي من إقامة (مراكز الاستقبال) في بلدان العبور، أو ما ذهب إليه الرئيس الأمريكي ترامب الذي اقترح على إسبانيا، الأسبوع الماضي، بناء جدار في الصحراء جنوب الدول المغاربية ( للحيلولة دون تدفق الهجرة من بلدن جنوب الصحراء)، زيادة على أن الموقف الصارم والجريء الذي عبر عنه المغرب في أكثر من محطة ومحفل، هو برهان واضح عن ميل بلادنا إلى احترام حقوق الإنسان، والى اتباع المقاربة الإنسانية التي تضمن حقوق وكرامة المهاجر. وبطبيعة الحال، فإن التزاماته وانشغالاته بالموضوع على المستوى الإفريقي، ومع الشركاء في الاتحاد الأوروبي، لا ينبغي أن ينسى المغرب الاهتمام بالموضوع على المستوى الداخلي، إذ أن الأجواء المسجلة خلال الأيام الأخيرة، وخاصة في بعض مناطق الشمال، تعيد التأكيد على أن ظاهرة الهجرة السرية ماتزال تشكل معضلة اجتماعية، وهنا كذلك لا مجال للحلول الطوباوية أو المعالجات الوهمية، لاسيما وأن الواقع ينطق بأرقام وحالات ومعطيات تضع قضية الهجرة وتكوين وتشغيل الشباب ضمن أولوية الأولويات. لقد لا حظ الجميع كيف كانت شجاعة القراءة النقدية لمجموعة من أوراشه وبرامجه التنموية والاجتماعية، وتبلورت هذه الشجاعة بكل تجلياته في الخطب الملكية الأخيرة التي دعت إلى المراجعة الشاملة لبعض البرامج، وسطرت في الوقت نفسه المهام اللازمة للتغلب على الصعاب وتجاوز الاختلالات. هذه المراجعات أسفرت عن تحديد خارطة الطريق لتصحيح وتعزيز المسار الإصلاحي، وتقوية البناء الديمقراطي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتركزت بالخصوص على ما يهم منظومة التربية والتكوين، وإدماج الشباب وفتح أبواب الشغل أمامهم، وإطلاق المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وإصدار ميثاق اللاتمركز الإداري، الخ … وتحديد هذه المهام وانطلاق الأشغال بها هو بداية الطريق لبلورة تأثيرها الإيجابي على مجمل القضايا والمشاكل الاجتماعية، بما فيها بطالة الشباب ومعضلة الهجرة، والتحدي الكبير الآن يتمثل في تسريع الخطوات على هذا الطريق بنفس القوى وبالدقة والحكامة الجيدة.