إن العقيدة الوطنية، التي ألهبت حماس الشعب في التمسك بتحرير البلاد، والتشبث بالدفاع عن الوحدة الترابية للوطن، هي عينها المطلوب إذكاؤها من جديد، واتخاذ مرجعيتها، قاعدة صلبة لبناء المغرب الراقي، والمتقدم، والمتحضر، والمتضامن. هكذا تلخصت دعوة جلالة الملك في افتتاح الدورة الخريفية للبرلمان، في الثامن من أكتوبر من سنة 2014، للطبقة السياسية، ومعها الشعب المغربي من خلال موعد مع خطاب ملكي، نوعي في مضامينه وأبعاده، استثنائي في سياقه الزمني والتاريخي. ولعل التأكيد على الاعتزاز بالمغربية بروح و طنية إنما كانت عنوانا بارزا لهذا الخطاب الرامي إلى التأكيد على استعداد المغرب للمضي قدما في انتهاج الطريق الثالث للإصلاح والذي يرتكز على منطق التدرج بشكل يسمح بالتوفيق بين متطلبات التغيير مع الحفاظ على الاستقرار، بل أن نجاح هذا السبيل في الإصلاح جعله جلالة الملك مقرونا بضرورة ارتقاء النخب بالعمل السياسي من حيث التفكير والسلوك كحل ممكن للأحزاب السياسية للاستعداد للاستحقاقات الانتخابية المقبلة بإعداد البرامج وتكوين النخب والابتعاد عن السياسة السياسوية مع ضرورة استحضار المصالح العليا للوطن عوض تغليب منطق الحسابات السياسية الضيقة والانتهازية. وحيث إن جلالة الملك وضع شرطا لنجاح الإصلاح يتعلق بأهمية تعزيز الثقة في المؤسسات، كإطار قوي يعزز مصالحة المواطن مع العمل السياسي، وهو ما جعل جلالته يلح على أهمية التسريع وعدم التماطل بإخراج الترسانة القانونية التي نص عليها الدستور الجديد إلى حيز الوجود. دعوات كثيرة هي التي وجهها ويوجهها جلالة الملك للسلطة التنفيذية قصد الأخذ بتوجيهاته و ولكن لا حياة لمن تنادي، فبدل سلوك طريق الحفاظ على الوطن من خلال الحفاظ على مكتسب الاستقرار و السلم الاجتماعي من خلال ضبط التوازنات المجتمعية فقد اختارت الحكومة حتمية ممارسة الاستبداد في حق المعارضة البرلمانية لنصل إلى حد جني أزمة حقيقية ربما لم تقرأ الأغلبية الحكومية تداعيات ما يجري اليوم على المصلحة العليا للوطن، إما لانعدام البعد الاستراتيجي في التدبير، وإما للغرور غير المفهوم لها؛ ويبقى الشيء المؤكد اليوم هو أن ارتجالا سياسيا حقيقيا قد وصل سقفا له مدخلات من غير مخرجات، قد يكون ذلك مقصودا وقد يكون عبثا، سؤال ستجيب عنه الأيام المقبلة و سيسجله التاريخ. لقد بدا واضحا في مرحلة أن الحكومة حاولت جاهدة إقحام المؤسسة الملكية و لو بصراعات داخلية لكي تستمر في إثارة نظرية المظلومية بعد أن استنفذت من قاموسها السياسي البناء للمجهول من خلال حيواناتها غير الأليفة كالتماسيح و العفاريت وكذا جهات معينة أو الدولة العميقة..إلخ. "الاعتزاز لا يعني الانغلاق على الذات، أو التعالي على الآخر. فالمغاربة معروفون بالانفتاح والتفاعل الإيجابي مع مختلف الشعوب والحضارات... ولمن لا يدرك معنى حب الوطن، ويحمد الله تعالى، على ما أعطاه لهذا البلد، أقول: تابعوا ما يقع في العديد من دول المنطقة، فإن في ذلك عبرة لمن يعتبر. أما المغرب فسيواصل طريقه بثقة للحاق بالدول الصاعدة." واصفا الاعتزاز بالانتماء للمغرب بأنه "شعور وطني صادق ينبغي أن يحس به جميع المغاربة". وإشارات رسائل الخطاب الملكي الأخير أمام البرلمان لم تستوعبها مرة أخرى الحكومة لأن منطق الانفرادية بالقرار هو المسيطر على توجهها و هو ما بات يهدد السلم الاجتماعي بعد رغبتها الدخول في مواجهة مع المركزيات النقابية بقولها إن الإضراب غير مبرر وهي في الحقيقة تريد القول إنه ممنوع لولا أن لهذا البلد دستورا وملكا يسهر على تقويم الاعوجاج؛ فبدل الجلوس إلى طاولة الحوار تشكك اليوم الحكومة في نوايا الجميع بل إن مواقفها قد أخذت فعلا بعد الانغلاق على نفسها ومعاداة كل المطالبين بالحقوق المشروعة، والحقيقة أن اضطهاد الحكومة لأطر الدولة تعكسه المضايقات لرجال الفكر والتوقيفات ومعاداة الاعلام إلا لأنه ينقل الأخبار للمواطن. من منطق الحكومة، فإن النقابات اليوم غير وطنية لأنها تعلن عن إضراب وطني نتيجة إجهاز الحكومة على قدرة المواطنين من جميع الشرائح الاجتماعية، حتى أوصلتنا المهزلة الحكومية إلى مناقشة الزيادة في "الشعرية" بقبة البرلمان.