ناس الحدود لا يختلفون في كافة مناطق الأرض من المشرق إلى المغرب. هويتهم مشتركة بمزيج من التداخل والتناسج، حتى وإن كانوا يدركون أن الهوية التي تجمعهم مشروخة بفعل السياسة والتاريخ. لغتهم واحدة هنا وهناك... عاداتهم متشابهة، معيشهم اليومي يقتسم بإصرار. هم سكان الحدود وقاطنو الجزء المبتور من هذا الوطن وذاك... في الغالب يمتهنون التهريب لكسب عيش اليوم، أو في السخرة لمهربين كبار تحملهم الأرباح المادية الخيالية للاستفادة من حاجة الناس، واستغلال رغبتهم في البقاء. أسياد الحدود بلا منازع...يفرضون قانون العرض والطلب ضدا عن أنف الحراس في ضفتي الحدود. ما إن تقترب من الحدود مع الجارة الشرقيةالجزائر، وأنت بعد فوق تراب المملكة المغربية، حتى يشرع هاتفك المحمول في الرنين دون توقف، مشيرا إلى توصله برسائل نصية قصيرة. تفاجأ وأنت تفتح مجال الرسائل الإلكترونية على محمولك بأن النصوص الوافدة عليك، ليست من الأصدقاء أو الأهل أو الحميميين، بل قادمة من القطر الجزائري الشقيق، وتحديدا من الفاعلين في شركات الهواتف المحمولة. رسالة من «دجيزي»... تهنئك بدخول التراب الجزائري وتتمنى لك مقاما طيبا، ثم لا يفوتها قطعا أن تذكرك بخدمات الفاعل الجزائري الذي سيجعلك تنعم بالفاتورة المتدنية الأسعار، وطول مدة المكالمة. غيمة الحيرة التي تستبد بك وأنت القادم من المغرب الآخر، لا يبددها سوى تطمينات ناس المكان، بأن الأمر قد صار من بديهيات الحياة في المنطقة، منذ انتشار استعمال الهواتف المحمولة. يزداد الأمر وضوحا حين يطلعك الشباب في أحفير وبني درار وراس عصفور وسيدي بوبكر وتويست... على البطاقات الذكية القادمة المستعملة في هواتفهم النقالة والقادمة من الجارة الشرقية. فقط تفاصيل تقنية صغيرة يتم إدخالها في محلات متخصصة وهي جاهزة للاستعمال في المغرب. في الجزائر لا يختلف الأمر كثيرا، حسب ما جاء في روايات من ينتقلون بين الدولتين باستمرار. هناك أيضا يشوش الاتصال المغربي على شركات البلاد الشرقية بنفس القدر... ارتباط مشترك حتى في التشويش يذكر الجميع بأن القرب الأبدي هو المصير الموحد بين الجارتين. «راس عصفور»... المنفذ إلى الشرق «راس عصفور» جماعة قروية في إقليم جرادة شاءت الطبيعة أن تمتد رقعتها الجغرافية إلى الأمتار الأخيرة في المحاذاة مع الدولة الشرقية. تاريخيا كان الرعي هو النشاط الفلاحي والاقتصادي الأول. طبيعة المنطقة لا تسمح بالزراعة لأن المجال تؤثثه الصخور الصلبة على الأرض، وتتكفل الغابة بتغطية الباقي. وضع مجالي صعب دفع بالسكان المحليين إلى التخلي تدريجيا عن الرعي والبحث عن عوامل أخرى للحياة. تحكي ذاكرة المكان على لسان السكان المحليين، أن الانتقال إلى الشرق كان أمرا اعتياديا في حياة الآباء والأجداد قبل أن تخترع الحدود، التي اقتلعت وفرقت وقسمت القبائل إلى مغربية وجزائرية. اليوم، وعلى امتداد الطريق بالموازاة مع الحدود الجزائرية في جماعة «راس عصفور» يتبين أن الحدود لم تغير كثيرا من عادات الناس في الانتقال والتبادل على طرفيها. حركة دؤوبة للدراجات النارية في اتجاه تلة مقابلة تدخل في صميم نفوذ التراب الجزائري. في بعض نقاط «راس عصفور» تقترب الطريق الثانوية من الحدود الجزائرية إلى ما يقل عن الكيلومترين. على رأس كل مائة متر أو أقل يلوح تاجر في المحروقات المهربة من الشقيقة الشرقية للعابرين مشيرا إلى سلعته المعروضة في الطريق في حرية تامة. إذا وصلت إلى المكان، ستلاحظ أيضا وجود عدد من الأطفال الذين يعوضون الكبار في عرض البنزين على المارين. المدرسة لا تعني هناك أكثر من مكان قد يحرم الأسر من مدخول إضافي. على امتداد سنوات طويلة، تمكن ناس المنطقة، سواء من الجانب المغربي أو الجزائري، من فتح أكثر من 100 منفذ بين الجبال على مساحة يقدرها «الحسين» أحد العابرين الدائمين بين طرفي الحدود، ب 400 كيلومتر. وسط المنافذ غير المعبدة لا يمكن لأي آلية أن تتحمل صعوبة المسير. وحدها الدراجات النارية تتمكن من السفر بسلاسة في المسافات المحدودة بين الحدود، التي لا تتعدى ال 6 كيلومترات في أبعدها. «ليس مطلوبا من تلك الدراجات عبور الحدود نحو الجزائر»، يشير الحسين «فهناك من يتكفل بإيصال السلع الجزائرية إلى الحدود، ليتم تمريرها عبر أنفاق تحت الأرض إلى المغرب. هنا فقط يصبح دور الدراجة حيويا». صحيح أن الهاجس المادي والأرباح الخيالية هي المحرك الأساسي لحركة التهريب بين المغرب والجزائر «لكن المقايضة مازالت، كما كانت منذ فجر التاريخ، البعد الاجتماعي الآخر للتبادل بين شعبي المنطقة» يستطرد الحسين وهو يحيي بعض العابرين عندما كان يصحب «الأحداث المغربية» في جولة بالمكان «هنا نقايض «الدجينز» بالبنزين... والحليب «غبرا» بالطماطم أو البطاطس... أو قطع غيار السيارات بالألبسة الجاهزة... أو الأحذية النسائية والرجالية بالعجلات المطاطية. كل شيء قد يقايض حتى القرقوبي مع الشيرا.. المهم أن تستمر هنا وهناك حياة». اقتصاد مواز كامل لا يحتاج إلى اعتراف رسمي، قائم بذاته ورجاله. «فعلى كلا الجانبين من الحدود هناك من يمسك بخيوط اللعبة» يضيف الحسين «هؤلاء يمتلكون الطريق والناس والحراس». الثابت والمتحول مخطىء من يظن أن سوق التهريب بين المغرب والجزائر عشوائي ولا تتفاعل مع قوانين العرض والطلب وما يرتبط بهما من عوامل سوسيو اقتصادية. وإذا كان البنزين هو السلعة الثابتة في التهريب بين الجارين فإن النشاط المتعلق بباقي المواد المهربة تتأثر بما يجري على الجهتين من الحدود، بنفس قدر تأثرها بالتدخل الحكومي والأحوال الجوية. خلال العامين الماضيين، عرف نشاط المهربين تحولا ارتباطا بالسوق الجزائري الداخلي. إذ أنه مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية سجل عزوف المهربين عن تهريبها، فيما ظل البنزين نظرا لثبات أسعاره السلعة المفضلة في هذا النشاط. باستثناء المواد الغذائية، أبقى المهربون المغاربة على نفس المواد الموجهة نحو الجزائر حسب تقرير المرصد الوطني للتهريب بجهة وجدة، كالسجائر والمخدرات والزيوت وقطع السيارات ورؤوس الأغنام والملابس ومواد التجميل والمواد الحافظة والأجهزة الإلكترونية. العقاقير المهلوسة القادمة من الجزائر ثابت آخر في معادلة مافيات التهريب بين البلدين، لا تتأثر بالمحيط الاقتصادي لأسواق البلدين. وبالرغم من المجهودات المبذولة في الجانب المغربي من الحدود للحد من تدفق الكميات الكبيرة من القرقوبي الجزائري، إلا أن الزخم أكبر من كل عمليات الكبح أو الردع، يشير مصدر مسؤول من أمن وجدة، تحدث إلى الجريدة عن الرقم المهول المحجوز خلال السنة الماضية، والذي تجاوز 67 ألف قرص. حسب المسؤول نفسه، لا يمكن لهذا النوع من التهريب أن يكون ناتجا عن نشاط عصابات صغيرة تعتمد على إمكانيات بسيطة : «الأمر أكبر من ذلك بكثير والكميات المصادرة وغير المصادرة التي تدخل التراب المغربي توحي بتواطؤ أكبر من المسؤولين في الجارة الشرقية» يؤكد المسؤول الأمني «حيث لا يستبعد أن يكون تهريب الأقراص عملا موجها من جهات عليا في الجزائر». من «الفرماج»... إلى «الدوا» أسواق الشرق المغربي «مزدهرة» بأنواع مختلفة من السلع الجزائرية، التي تغطي كافة الاحتياجات بدء بمسحوق الحليب الشهير ب«لحظة» وجبنة «السفير» إلى الأدوية. بني درار التي لا يوجد بها أي نشاط اقتصادي كائنا ما كان، تعتاش من سوقها الكبير المتنوع. شهرة سوق بني درار تعود إلى تخصصه في نوعين محددين من السلع: البطانيات و الطناجر. «سعر البطانية ينخفض هنا إلى أقل من 50 في المائة عن ثمنه في أسواق الدارالبيضاء». تأكيد بليغ من أحد باعة الأغطية الصوفية جاء كرد منه على سؤال حول السر في الإقبال الذي يعرفه السوق، ليس فقط من أبناء الجهة الشرقية، لكن من كافة أنحاء المغرب أيضا. مايسري على البطانية ينطبق كذلك على الطنجرة الجزائرية، التي تكتسح المنطقة. «العثامنة» ... «أحفير»... «راس عصفور» جماعات يرتكز النشاط الاقتصادي فيها على ما يأتي من الجزائر. في أسواقها قد تصادف من يبحث عن محرك كامل للسيارة يسير بمحاذاة امرأة تنقب عن مواد حافظة لاستعمالها في المرحاض. في أحفير سوق متخصص أيضا في بطاقات الهاتف الجزائري، وهي «السوق الرائجة»، حسب ماجاء في شهادة شاب من المنطقة ل«الأحداث المغربية»، بالنظر لتدني سعرها وقدرتها على القيام بنفس الدور التواصلي حتى على التراب المغربي، بفضل قوة شبكات «الريزو» الجزائرية. حتى الأدوية لها أسواقها على امتداد الجماعات المغربية المحاذية للجزائر. أدوية لكل الأمراض توصف شفويا للباحثين عن حلول لمشاكلهم الصحية، من نزلة البرد الموسمية العادية إلى الأمراض الباطنية أو المزمنة. سوق الفلاح في وجدة المثال الصارخ لرواج هذا النوع من التجارة. عند ولوج باب السوق، ينتصب أمامك عدد من الشباب الذين يهمسون في أذنك وأنت تمر بمحاذاتهم: «الدوا... الدوا». هؤلاء «الأطباء» المتجولون يصفون لك أنواع الأدوية التي تلائم الإصابة التي تشكو منها، فقط يتوجب عليم الإشارة إلى مكان الداء أو الألم من جسدك، لتعرض عليك العشرات من العناوين للأدوية المناسبة. لاخوف على مستعملي هذه الأدوية من الأعراض الجانبية أو خطر التقادم، يؤكد أحد الشباب ل«الأحداث المغربية» في سوق الفلاح بوجدة، ف«خبرتهم» تكفي للالتفاف حول هذه المشاكل واحتوائها. «سوق الدوا المهرب من الجزائر سوق أخرى رائجة في شرق المغرب» يؤكد نفس الشاب... ولمعرفة الجواب استنكر في استهزاء واضح «اسألوا ياسمينة بادو»!!.