بعد ما يزيد عن خمسين سنة من " التجاهل" التام، وبعد أن عرفت منطقة الريف في العشرة سنوات الاخيرة تطبيعاً نسبياً، تعود هذه المنطقة من جديد لتكون مسرحاً للمناورات السياسية التي تنحت وتصنع في الرباط ثم تصدر إلى مناطق معينة منها الريف. إن القارىء الهادىء لما يجريlمؤخراً في منطقة الحسيمة ، سراً وعلناً، سيلاحظ تقاطعات وتشابهات بين ريف الخمسينيات من القرن الماضي وريف 2011. تجازواً للخطاب البكائي الذي يلح عن حق - وباستمرار على أن المنطقة ظلت مهمشة منذ الاستقلال، سأحاول بإيجاز وباقتضاب شديد وضع المناورات السياسية لمغرب ما بعد الاستقلال جنب المناروات التي يشهدها مغرب الآن، وسنرى معاً أن التاريخ، إما أنه لم يتحرك منذ تلك الفترة وإما أنه يعيد نفسه. ثمة عوامل لم تتغيركثيراً ما بين مغرب الخمسينيات ومغرب الألفية الثالثة: ملكية تسود وتحكم مع احزاب سياسية تزكي او تعارض، غير أن معارضتها في كلا الحالتين تدعو باستمرار للنعي والندب، لأنها معارضة لم تحدد هويتها أبداً امام المؤسسة الملكية. في الخمسينيات كان الحكم في يد محمد الخامس رحمه الله وفي مغرب الآن يحكم الملك محمد السادس. في ظل حكم الملك محمد الخامس حاول أهل فاس من خلال حزبهم (حزب الاستقلال) إيهام الملك أنه بدونهم لن يتمكن من السيطرة على الوضع، خصوصاً وأنه كان قد غاب عن العرش بعض الوقت. هذا في حين انهم كانوا- استرتيجياً- يرغبون في اقتسام السلطة معه ليضعوه فيما بعد ديكوراً سياسياً. في ظل محمد السادس عاد أهل فاس للحكم، ولكن باقل من العنجهية التي حاولو بها في الخمسينيات من القرن الماضي الاستعلاء والتعالي على المجتمع المغربي، بما في ذاك المؤسسة الملكية نفسها كما قلنا. الآن يترأس حزب الاستقال منذ 19 شتمبر 2007 حكومة يهيمن عليها أهل فاس بشكل فظيع جداً، حكومة " تمثل" مناطق النفوذ التقليدية نظراً لما ورثته هذه المناطق، وبشكل غير عادل، من ثروات اقتصادية عقيب رحيل الفرنسيين. ولا عجب أن يكون اهل هذه المناطق أول من اغتبط بالعرض الفرنسي في إيكس ليبان والذي كاد ان يعصف بوحدة المغرب. يعرف المغاربة أن اهل فاس كانوا هم المستفيدون الاوائل من عملية تمرير الاقتصاد من يد الاستعمار الفرنسيين إلى يد الإقطاعيين المغاربة. ليس هذا موضوع هذا المقال ولو انه يشكل العصب الرئيسي لأي عملية تغيير للهياكل السياسية في البلاد. فالملك محمد الخامس كان يعلم في الخمسينيات من القرن الماضي أن حزب الاستقلال كان يمثل جماعة تتحكم في الاقتصاد المغربي، مما يقوي شوكتهم على المستوى السياسي. هناك من الدراسات والأبحاث في هذات الموضوع ما يعفينا من الغوص في التفاصيل. حينما احتدت الصراعات في الرباط بعد الاستقلال، ظهرت الحركة الشعبية تحت زعامة أحرضان والخطيب لتدافع عن الملك ضد جشع حزب الاستقلال. ونقل الصراع آنذاك إلى منطقة الريف لتصفى الحسابات على حساب هذه المنطقة التي أنهكها البارود منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. النزول والإنزال: نزل احرضان والخطيب إلى الريف، كما نزل المهدي والفقيه البصري، ثم حاول حزب الشورى الاقتراب (محتشماً خائفاً) من الساحة من خلال دعمه لبعض أعضائه في الريف، وانتعشت آلة الدعاية والدعاية المضادة وأخيراُ كان الإنزال العسكري الذي لا نريد الخوض فيه من جديد. كان حزب الاستقلال آنذاك يندد بعدو لم يجرؤ أبداً على تحديد إسمه فيما أحرضان والخطيب يقنعون اهالي الريف أن الملك محمد الخامس مهدد في عرشه من طرف أهل فاس. ثم انتشرت إشاعات مغرضة عن دور عبد الكريم الخطابي من القاهرة من اجل استرجاع نفوذه في المنطقة من اجل تبرير تصفية من كان يعتقد انهم يمثلون عبد الكريم في صفوف جيش التحرير بالشمال. في كل هذا، كان الصراع واضحاً: الملك يحاول إنقاذ العرش وحزب الاستقلال يحاول إنقاذ نفسه من الطوفان بعد ان أدرك أن المؤسسة الملكية قادرة على حماية نفسها وان حسابات أقطابه كانت خاطئة. أحرضان والخطيب يلعبان على الأرواح الضعيفة في الريف ا لمحاصر بين البحر، الجزائر الملتهبة وبقية المغرب الرافضة. في تلك الأثناء ظهر في المنطقة وفي فترة وجيزة (نصف سنة تقريبا) الاستعداد من جديد وبدون تردد لحمل السلاح من أجل الدفاع عن الملك محمد الخامس وعن زعيم الريف محمد بن عبد الخطابي. وكان الشعار الرئيسي الذي أراد أهل الريف التضحية من اجله هو" الملك ملكنا وعبد الكريم زعيمنا". هذا الشعار، بكل ما يوحي به من وعي سياسي رشيد، لا يمكن ان يكون قد صنع في الريف وإنما هو من نحت فناني الرباط . مع اواخر سنة 1958 بدات تظهر في الريف احداث متفرقة مثل الحرائق في الغابات، الهجوم على مقرات حزب الاستقلال، النهب والسلب، إضرام النيران في المؤسسات العمومية....إلخ. ونظراً لبساطة الوعي السياسي لأهل الريف الذي انهكه التخلف الإسباني وزاده تخلفاً، كان من الصعب عليهم أن يفهموا ما كان يدور حولهم. ففي وقت ما كانت تحدث اضطرابات في الأسواق ولا احد يعرف من يقف ورائها وينساق المواطنون ورائها. بالضبط مثل ما يحدث موخراً في منطقة الحسيمة. وبما أنني لا أحاول إعادة قرائة الهزات السياسية (والعسكرية) لمغرب القرن الماضي، فسأكتفي بالقول ان الأحداث التي بدأت تعرفها منطقة الحسيمة قبل، أثناء وبعد 20 فبراير تبعث على الخوف، خصوصاً وان المقصود منها على ما يبدو هو تصفية الحسابات التي لن تكون إلا على حساب المنطقة. الوضع متشابه جدا: الملك محمد الخامس مات لكن الملكية باقية، حزب الاستقلال كف عن محاولات السطو على الحكم لكنه يريد أن يظل في الحكومة، الدكتور الخطيب مات واحرضان نرجو له دوام الصحة. تغيرت إذن ملامح الخريطة السياسية للخمسينيات ولكن بشكل هزيل جداً، في جوهرها لم تتغير. هناك الآن، عوضاً عن احرضان والخطيب، من يضع نفسه في الجبهة الامامية لمواجهة الزحف المستمر لأهل فاس، والصراع بين الطرفين بائن للعيان. بعض الأسماء من كلا المعسكرين تذكر علانية في وسائل الإعلام كشباط وإلياس العمري. إلى جانب هذين الطرفين نلاحظ ان هناك طرفاً ثالثاً يحاول أن يشارك ويناور، هذا الطرف الثالث يمكن تشبيه وضعه بوضع جماعة بن بركة والفقيه في القرن الماضي. ومع ان هذا الطرف لا يمكن مقارنته بجماعة بن بركة، إلا ان موقعهما (ليس موقفهما) داخل الخريطة السياسية يتشابه تقريباً. ما بين حزب الاستقلال من جهة، محمد الخامس والحركة الشعبية من جهة ثانية، حاول المهدي بن بركة (لاحقاً وليس حينما كان يجول في القصر) ورفاقه ان يحتلوا مكانة ما في النسيج السياسي الذي كان ما يزال تحت آلة الصنع. لنلاحظ أن حزباً سياسياً يحاول الآن، كما فعل بن بركة والفقيه، التسلل ما بين حزب الاستقلال وحزب البام ليضمن لنفسه القدرة على ممارسة التأثير على الفعل السياسي بالبلاد، وقد شهدنا التراشق بين ممثلي هذا الحزب وبين اعضاء البام من منطقة الريف. بالضبط مثلما تراشق بن بركة والفقيه من جهة وكبار حزب الاستقلال من جهة ثانية في القرن الماضي. ثم نلاحظ كيف يعبئ الطرفان ما يملكانه من وسائل التواصل للترويج لما يريانه صحيحاً.ها نحن الآن نسمع حزب الاستقلال يتهم حزب البام بإشعال فتيلة أعمال الشغب في الحسيمة، كما نسمع حزب البام يصرخ في وجه حزب الاستقلال باعتباره مدبر أعمال الشغب الذي حدث في 20 فبراير، حتى يضعف وزنه في فضاء الريف. علمنا – مصادر غير مؤكدة ان السلطات المحلية في الحسيمة رفضت الاستجابة لطلب أعضاء بارزين في البام من اجل التدل لوضع نهاية للشغب. ذاك الرفض أدى برئيس الجهة واعضاء في المجلس البلدي للحسيمة لتقديم استقالتهم وسحبها بعد يومين او ثلاثة. كأننا فعلاً في نهاية الخمسينات من القرن الماضي. لحزب البام كل المبررات أن يتهم غيره بتحريض بؤر الشغب في الحسيمة، بل وربما الاستيراد المتعمد لرواده إلى المنطقة. فهذا الحزب ليس من صالحه أن يحدث ما حدث وهو لا يرغب في ان يخسر وجهه في الريف الذي يحاول منذ وقت طويل تسييجه وحجزه لنفسه (منطق بيدنا نحن وليس بيد غيرنا). هذه الاتهامات المتبادلة بين المكونات السياسية الحاضرة في الريف تجعل اهل الريف فريسة الغموض: يصدق حزب الاستقلال أحياناً واحياناً أخرى يبدو حزب البام منطقياً أكثر، فينزل الضباب بالأطنان ويتقلص مجال الرؤية كما حدث في القرن الماضي. وكوني من أبناء الحسيمة (مسقط رأس لا أقل ولا أكثر) فإنني أجزم ان الشغب الذي حدث في 20 فبراير ليس من صنيع أبناء المنطقة. باستثناء بعض التوترات السابقة عن 20 فبراير خارج المدينة، توترات وراءها خلافات محلية، لا يملك أبناء المنطقة المبررات الكافية للقيام بما قاموا به، خصوصاً في العشر سنوات الاخيرة حيث يسهر الملك على زيارة المنطقة بشكل منتظم، ما لم تشهده المنطقة على مدى خمسين سنة تقريباً، بل ولقرون ربما. أغلبية ساكنة الحسيمة مرتاحة للتاصلح مع الدولة، فما عساها تكون أسباب تلك الظغينة التي عبر عنها بعض " المتظاهرين"؟ يبدو وكأن "الحرب" قد بدأت تشتعل من جديد بين "الريف" وبين "غير الريف". إن الحالة تستوجب التدخل الفوري من كل الضمائر التي أصابها الإحباط فانسحبت من المجال، كما تستوجب من الدولة تعاملا مغايراً لما هو معهود الآن.