مقدمة: يجمع المتتبعون للشأن التربوي أن عوامل كثيرة ومتنوعة تحد من نجاعة وفعالية منظومة التوجيه التربوي، ما يؤدي إلى افتقاد قرارات التوجيه التربوي الصادرة عن مختلف أطراف العملية التربوية للموضوعية، حيث تخضع لعوامل ذاتية متعددة تؤثر سلبا في مختلف الوضعيات، وتجانب الصواب في كثير من الحالات. فإذا كانت تركيبة منظومة التوجيه التربوي تقيد حرية الاختيار واتخاذ القرار هيكلة وتنظيما، وإذا كانت الأطراف المتدخلة في التوجيه، تخطئ الهدف الصواب، فيجد التلميذ أو الطالب نفسه أمام عقبات كأداء تحول دون متابعته دراسته أو تكوينه، ويفشل، ثم يقصى من سجلات الدراسة والتكوين، ويترتب على ذلك هدر للجهود والموارد المادية والبشرية، وتخطئ التنمية الاجتماعية والاقتصادية موعدها، فتهدر أموال وطاقات، فما هو واقع التوجيه التربوي حاليا؟ وما هي العوامل المؤثرة سلبا في اتخاذ قرارات التوجيه، الصادرة سواء عن التلاميذ أو عن أولياء أمورهم أو عن الأساتذة أو عن المستشار في التوجيه التربوي؟ وكيف يمكن توجيه التلاميذ بشكل علمي وموضوعي لتفادي ضياع الجهود وهدر الموارد المادية والبشرية؟ وأي أسلوب للتوجيه يمكن اعتماده لتوجيه التلاميذ والطلبة وفق قدراتهم المعرفية وميولاتهم واستعداداتهم الشخصية الحقيقية، ويضمن تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المنشودة؟ وما هي الأدوات والوسائل القمينة بضمان توجيه فعال للتلاميذ والطلبة؟ سنحاول الإجابة على هذه الأسئلة الفرعية التي تترجم إشكالية عدم فعالية منظومة التوجيه التربوي، وعدم توافق قرارات التوجيه التربوي، حاليا، وخصوصيات التلاميذ والطلبة النفسية والتربوية والمدرسية والمعرفية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وذلك انطلاقا من واقع التوجيه التربوي تنظيما وممارسة، مرورا بواقع وكيفية اتخاذ قرارات التوجيه من طرف مختلف الأطراف وشركاء العملية التربوية، وصولا، حسب تجارب متواضعة، إلى مقترح لأسلوب توجيه، في اعتقادنا، ناجع، يعتمد طرائق وعمليات ناجعة، يفضي إلى قرارات علمية وموضوعية، يجنب الضياع والهدر، ويضمن تنمية اجتماعية واقتصادية شمولية، وذلك من خلال الفقرات التالية: I. اختلالات تطال قرارات التوجيه التربوي: انطلاقا من واقع منظومة التوجيه التربوي، والصعوبات والعراقيل التي تطال مختلف المهام والعمليات والأنشطة، واستنادا إلى تجارب متواضعة وتصريحات وشهادات شركاء وأطراف العملية التربوية، فإن اختلالات كثيرة تسم منظومة التوجيه التربوي، وعلى عدة أصعدة نعرضها في ما يلي: 1. ما يتصل بالتلميذ: تعتبر معرفة التلميذ وتعريفه بذاته من أشد المهام تعقيدا، سواء تعلق الأمر بالجوانب النفسية أو الاجتماعية أو التربوية، لعدم موثوقية المعلومات المتوفرة والمطلوب منه الإدلاء بها من خلال مقابلة فردية أو استمارة أو ملف مدرسي؛ 4. ما يتصل بأمهات وآباء وأولياء التلاميذ: تعتبر اتصالات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ بالإدارة التربوية أو بالمستشار في التوجيه التربوي نادرة ومحدودة جدا، إلا بمناسبات غياب أبنائهم أو خرقهم القانون الداخلي للمؤسسة، أو بمناسبة بعض الاستشارات حول التوجيه وإعادة التوجيه و"الاستعطاف"؛ 5. ما يتصل بالأساتذة: حيث تطال عملية التقييم التربوي عدة اختلالات، سواء على صعيد صياغة الأسئلة الاختبارية أو التمرير أو التصحيح لعدة عوامل، وحيث محدودية مساهمة الأساتذة في مجالس التوجيه لعدم معرفتهم التلاميذ، فإن مبادراتهم في قرارات التوجيه غير فعالة وتتسم بكثير من الارتجال، مبررين ذلك بالحسم المسبق، في نظرهم، في القرار، جراء تشبث التلاميذ وأولياء أمورهم برغباتهم، ونظرا لمحدودية وعاء الاختيار في جميع عتبات التوجيه؛ 6. ما يتصل بالمستشار في التوجيه التربوي: لنفس الأسباب والعوامل، فالمستشار في التوجيه التربوي لا يتوفر على معلومات دقيقة حول التلميذ، يمكن استغلالها في مساعدته (التلميذ) على معرفة خصوصياته الشخصية ومعرفة توجهاته وميولاته وقدراته ومؤهلاته المعرفية والجسمية، وعليه فتدخلات المستشار في التوجيه تبقى محدودة، ولا ترقى إلى اتخاذ قرار التوجيه، خصوصا في ظل محدودية مبادرة الأطر الإدارية والتربوية؛ 7. ما يتصل بعملية الإعلام المدرسي: إن تأخر الدعائم الإعلامية، وتضارب أو تناقض أو نقص معلوماتها من حيث الآفاق الدراسية والمهنية، وسوق الشغل واستشراف المستقبل، يربك التلاميذ إلى درجة اللامبالاة وعدم استغلالها، خصوصا لما تؤثر فيهم عوامل هامشية، ناتجة عن تدخل الأمهات والآباء من جهة، والأقران والزملاء من جهة أخرى، الذين يقدمون تبريرات وشهادات تثبت وجهات نظرهم؛ 8. ما يتصل بالتعبير عن الرغبة: اعتبارا لما أسلف، فإن التلميذ يجد نفسه تتقاذفه أمواج التعارض والتناقض والحيرة والتردد، فيلتجئ إلى قرار، غالبا، مرتجل، متأثرا بعوامل متعددة، وحسب تمثلات خاصة حول كثير من الشعب الدراسية، تحكمه عناصر محيطه وبيئته الاجتماعية والثقافية، يطبعه التهافت على تخصصات مفضلة اجتماعيا، يتباهى بها التلاميذ وأولياء أمورهم إلى درجة تبخيس شعب ونعتها بأحط الأوصاف والانتقاص من قيمتها العلمية ومنافذها المهنية. إن التهافت على التخصص العلمي، والتباهي به، في القسم والمدرسة والشارع، أضحى سلوكا مشاعا ومنتشرا في جميع الأوساط الاجتماعية، ولو أن شروطه ومتطلباته غير متوفرة في التلميذ الراغب فيه، يدفعه التنافس والتأثر وتشبث أولياء أمره الجامح، بالطب والهندسة، دون تقدير العواقب المحتملة، ما يسهم في تضخم وعاء الهدر المدرسي، وهدر الموارد المادية والبشرية، وما يضرب مبادئ التوجيه التربوي في العمق تنظيما وإنجازا، وما يلحق بمنظومة التوجيه التربوي، من حيث المهام والممارسة والأهداف، جل أسباب الفشل التعليمي والتربوي؛ فأي أسلوب للتوجيه التربوي، يمكن إرساؤه واعتماده، تنظيما وممارسة، يضمن قرارات علمية وموضوعية، تمكن التلاميذ من مسايرة دراستهم دون فشل ولا هدر مدرسي؟ II. التوجيه الإستراتيجي: الأسس والمرتكزات: لتفادي هذه الاختلالات التي تطال تدخلات مختلف شركاء العملية التربوية والتوجيه التربوي على صعيد اتخاذ قرارات التوجيه خصوصا، التي أضحت تتأثر بعدة عوامل سلبية وتؤثر في المسار الدراسي للتلاميذ، يمكن، في اعتقادنا، إرساء أسلوب للتوجيه التربوي، يتجلى في " التوجيه الاستراتيجي" الذي يعتبر سيرورة تربوية مواكبة لمنظومة التربية والتكوين، ويعتمد طرقا عملية وتقنية وتربوية لممارسة مهام التوجيه التربوي بكيفية علمية وموضوعية، تتأسس على تخطيط استراتيجي معقلن، يستحضر توقعات وحاجيات المستقبل في جميع القطاعات، ويعتمد وسائل قياس علمية وناجعة تتجلى في روائز مقننة ومتخصصة، يشرف عليها أطر التوجيه التربوي، تمكنهم والأطر التربوية والإدارية من اتخاذ قرارات توجيه التلاميذ والطلبة توجيها يتلاءم وخصوصياتهم الذاتية وقدراتهم ومؤهلاتهم المعرفية، وميولاتهم وتوجهاتهم واستعداداتهم الشخصية، ويستجيب لمقومات التنمية الاجتماعية والاقتصادية باعتماد مخططات إستراتيجية تحدد حاجيات المجتمع من اليد العاملة والموارد البشرية الحرفية والمهنية منذ نهاية سلك التعليم الابتدائي إلى غاية مختلف الوظائف، ارتباطا بمختلف المستويات الدراسية والتكوينية؛ وينهض التوجيه الاستراتيجي على أساس المهام والتدابير التالية: 1. التشخيص والتوقعات: تقوم الجهات المختصة بدراسات إحصائية توقعية وإسقاطية، انطلاقا من تشخيص الوضعية الحالية التربوية والتكوينية، وتحديد الحاجيات المستقبلية، من حيث الموارد البشرية، عددا وتخصصا، حرفيا ومهنيا، وذلك في بعدي الزمان والمكان، على امتداد مدة زمنية والتوزيع الجغرافي، في جميع القطاعات الخدماتية منها والصناعية والفلاحية، منذ القسم السادس الابتدائي إلى أعلى المستويات الدراسية والتكوينية؛ 2. مهام أطر التوجيه التربوي: انسجاما مع التصور أعلاه لأسلوب التوجيه الاستراتيجي، بنية ومساطر وإجراءات، يشرف المستشار في التوجيه التربوي على المهام التالية: معرفة التلميذ من حيث ميولاته وقدراته المعرفية والجسمية واستعداداته الشخصية، من خلال سجل خاص بالتتبع والمواكبة والتوجيه؛ تتبع ومواكبة التلاميذ من حيث الجوانب النفسية والتربوية؛ المساهمة، بتنسيق مع الأطر التربوية والأخصائيين النفسي والاجتماعي، في معالجة المشاكل التي تعترض التلاميذ؛ الإشراف على تمرير روائز متخصصة في المجالات النفسية والمعرفية واستثمار نتائجها؛ المشاركة في أشغال مجالس الأقسام والتوجيه؛ القيام ببحوث ودراسات في المجال التربوي، عموما، ومجال التوجيه التربوي، خصوصا؛ 3. دور الأطر الإدارية والتربوية: معرفة التلميذ من حيث ميولاته وقدراته المعرفية والجسمية واستعداداته الشخصية، من خلال سجل خاص بالتتبع والمواكبة والتوجيه، ينجز لكل تلميذ موازاة مع ملفه المدرسي؛ 4. الأدوات والوسائل المستعملة: يتبن مما أسلف، أن التوجيه الاستراتيجي يندرج ضمن جميع التيارات المؤطرة للتوجيه التربوي، البسيكومتري منها والسلوكي والإنسانوي، للسير، وفق خطوات وممارسات وتدابير وإجراءات ناجعة، نحو مزاوجة خصوصيات التلاميذ ومتطلبات التخصصات الدراسية المناسبة، وذلك اعتمادا على: رغبات التلاميذ التي يعبرون عنها بتوافق وموافقة أساتذتهم، وبتشاور مع المستشار في التوجيه التربوي؛ روائز متخصصة، التي تعتبر أدوات قياس نفسية ومعرفية تمكن من معرفة موضوعية وشاملة لقدرات التلميذ، واتجاهاته واستعداداته وميولاته وجوانب شخصيته، وتكوين صورة متكافئة وصادقة عنه، فتمكن بالتالي، المستشار في التوجيه التربوي وكذا الأطر الإدارية والتربوية، من اتخاذ قرارات علمية وموضوعية، تتجلى في تخويل التلاميذ تخصصات دراسية تتطابق وخصوصياتهم الشخصية والنفسية ومؤهلاتهم المعرفية والجسمية. 5. التدابير والإجراءات: إدراج أنشطة الإعلام المدرسي والمهني ومقاربات التوجيه التربوي بالمقررات الدراسية، لتشملها المراقبة والاستثمار؛ إدراج جميع الأنشطة الموازية، المتجلية في مختلف البرامج والمشاريع، في المقررات الدراسية، من قبيل مشروع التلميذ، برنامج تنمية الحس المقاولاتي، مشروع المثقف النظير….؛ تشكيل خلية وطنية متخصصة في بلورة وبناء الروائز بمختلف مجالاتها وتخصصاتها؛ إعداد روائز واستمارات مقننة ومتخصصة ومكيفة اجتماعيا وثقافيا، أخذا بالاعتبار المستوى الدراسي والتخصصات المدرسية المتاحة؛ إحداث بنك لحفظ هذه الروائز؛ توزيع هذه الروائز في فترة محددة من السنة الدراسية على المستشارين في التوجيه التربوي؛ تمرير الروائز لتلاميذ مستويات التوجيه التربوي، تحت إشراف المستشار في التوجيه التربوي؛ قيام المستشار في التوجيه التربوي باستثمار نتائج الروائز؛ قيام المستشار في التوجيه التربوي بتصنيف التلاميذ حسب نتائجهم ومجالات تفوقهم وميولاتهم وخصوصياتهم الشخصية؛ تعبير التلاميذ عن رغباتهم تحت إشراف أساتذتهم وباتفاق معهم وبتشاور مع المستشار في التوجيه التربوي؛ 6. قرارات التوجيه: عرض نتائج الروائز المحددة للمقومات النفسية والمعرفية للتلاميذ على مجالس الأقسام والتوجيه؛ اتخاذ قرارات التوجيه بتزكية حالات التوافق التام بين خصوصيات التلاميذ ومتطلبات التخصصات الدراسية المرغوب فيها؛ مناقشة الحالات غير المتوافقة واتخاذ بشأنها القرارات المناسبة؛ III. شروط إرساء التوجيه الإستراتيجي: 1. تكوين مستشارين في التوجيه التربوي ذوي تخصصات علم النفس وعلم الاجتماع؛ 2. تعيين مستشار في التوجيه التربوي واحد بكل مؤسسة ثانوية، وكذا تعيين مساعد(ة) له؛ 3. تعميم فضاءات الإعلام والمساعدة على التوجيه بجميع المؤسسات الثانوية وتجهيزها بالأدوات والوسائل الضرورية، وربطها بشبكة الأنترنيت؛ 4. تشكيل فريق سيكوبيداغوجي متكامل يضم، إضافة إلى المستشار في التوجيه التربوي، أطرا تربوية وإدارية، وأخصائيين في الصحة المدرسية وعلم النفس وعلم الاجتماع؛ 5. إحداث البوابة الوطنية للإعلام والمساعدة على التوجيه وتطوير مهامها وأدوارها؛ 6. الاحتفاظ بنفس البنيات الإدارية والخدماتية والتأطيرية، مع تطوير مهامها وأساليب تدخلاتها؛ 7. استمرار بناء الروائز وتطويرها والارتقاء بفعاليتها موازاة مع منظومة التربية والتكوين؛ 8. إرساء منظومة للتقييم التربوي فعالة وناجعة، مع العمل على التصدي لكل الخروقات والاختلالات، خصوصا على مستوى المراقبة المستمرة؛ 9. تحقيق مبدأ المدرسة الوطنية الموحدة، فلسفة ومرتكزات وثوابت وبرامج ومناهج ومقررات دراسية وكتبا مدرسية؛ 10. ضمان وتحقيق مبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص التعليمية والمهنية، تعليما عموميا وخصوصيا، حضريا وقرويا؛ 11. إصلاح حال المجتمع بالتصدي لظواهر الأمية والبطالة وكل مظاهر التخلف؛ خاتمة: يندرج التوجيه الإستراتيجي ضمن منظور توقعي واستشرافي لحاجيات المجتمع في جميع القطاعات، ومتطلبات التنمية الاجتماعية والاقتصادية، ويهدف إلى عقلنة قرارات التوجيه الصادرة عن التلاميذ، وخصوصا عن مجالس الأقسام والتوجيه، تتجلى في تطابق خصوصيات التلاميذ ومتطلبات التخصصات الدراسية، بناء على دراسات توقعية إسقاطية في الزمان والمكان، وبناء على نتائج وسائل القياس النفسي والمعرفي، من أجل الحفاظ على توازنات التشغيل والإدماج بين التخصصات الدراسية والمهنية والتكوينية ترشيدا للموارد البشرية في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإرساء أسباب التنمية البشرية المستدامة. المراجع: الميثاق الوطني للتربية والتكوين، 2000، الرباط، المغرب؛ البرنامج الاستعجالي، 2009-2012، الرباط، المغرب؛ المذكرات الوزارية التنظيمية، – 17 و18 و19- 2010، الرباط، المغرب؛ حامد عبد السلام زهران، التوجيه والإرشاد النفسي، الطبعة الثانية، عالم الكتاب، 1982، القاهرة، مصر؛ بقلم: نهاري امبارك، مفتش التوجيه التربوي، مكناس، المغرب التوجيه الإستراتيجي أو ترشيد قرارات التوجيه التربوي