من اليقين الجازم أن غياب المرجعيات الفكرية التفاعلية ،قد أدى و بسرعة البرق إلى بزوغ مؤسسات استغلت الفراغ المجتمعي لتلقي بظلالها على ساحة بكر لا تتسع لكم هائل ببرامج غائبة و أحيانا عشوائية ، مما خلق فوضى أدت إلى زعزعة المشهد .إنها ليست أزمة تسيير و عقلنة بقدر ما هي أزمة أسس و منطلقات، بقيت لفترة ليست باليسيرة عاجزة عن إعطاء قيم مضافة للحياة السياسية والفكرية و الثقافية، بل يتوهم أصحابها القدرة على خلق الدينامية التي يحتاجها الفرد و المجتمع على السواء، و ينتصر الوهم و السراب ليحدث انفصاما بين الهوة و الذات، مما يتطلب إعادة الهيكلة، و الرجوع إلى نقطة البداية . إن غياب الرؤى والاختيارات المؤسسة، قد تخلق جسما غريبا يتعارض والثوابت والأعراف التي تقاوم الفوضى و حالة النشاز التي يسببها صراع التناقضات الذي لم و لن يستطيع بناء هوية فكرية ثقافية سياسية واضحة لها أسسها المرجعية المنبثقة عن الالتزام و التعاقد الضمني قبل الصريح بسبب الخلط و العشوائية بين الأنا و الواقع . إنها أزمة أسس تفقد كل عمل سمته الفاعلة و الوظيفية و تفرغه من مدلوله، فيضحي مجرد هرطقات تشغل المتتبع عن القضايا المصيرية الكبرى الناجمة أساسا عن غياب تصور شمولي واضح للهوية متطلباتها و أفاقها، فيصبح الجميع أمام قضية تاريخية من قبيل منظومة القيم التي تعد إشكالية لها مبرراتها و دواعيها المرتبطة بالأساس بتكوين الوعي بمختلف شعبه، و التي تلعب دورا جوهريا و مركزيا في تكوين شخصية المجتمعات . إن أزمة القيم التي نعيشها ما هي إلا ترجمة فعلية و تجليا حقيقيا لحالة التخبط والعبث التي تعرفه مجتمعاتنا مما يملي علينا إعادة التفكير في الوضع المعرفي الذي يفرض المراجعة والانخراط في القضايا الحقيقية. وفي هذا الصدد فإن ما نعيشه من حالة تبعث على القلق مرده بالأساس انهيار المرجعيات و المبادئ، لكن تشخيص الداء من شأنه أن يسلط الضوء على الوضعية الحالية ، وبخاصة صعوبة أن يعيش مجتمع ما بدون فكر و لا ثقافة تعكس الانسجام مع الذات. لقد انتصر العبث. وهو من دون شك من الأسباب المباشرة لغياب الارتباط بالهوية، وبالتالي التناقض بين متطلبات الواقع و الجرعة الزائدة للممارسات البراغماتية النفعية التي تدفعنا إلى الجزم بالقول بوجود أزمة حقيقية،و هي أزمة أسس، فيختلط القلق بالضيق، والنقص بالحاجة.