ارتجال واستعجال أو معادلة العبث: كنا كتبنا منذ صدور البرنامج الاستعجالي أن تاريخ التعليم بالمغرب هو تاريخ الفشل بامتياز؛ لاعتبار أساسي هو أن أي إصلاح يصدر إلا ويتبعه آخر ينسخه وينفيه، وذلك لأن كل المخططات المزعومة الارتجال سمتها والاستعجال حاديها رؤية ومنهجية وبرامج وتقويما، مما يدخل المنظومة التربوية المغربية في عبث على كل المستويات، وهاهو القرار الأخير للدولة عبر وزارة تربيتها ،و القاضي بإلغاء العمل ببداغوجيا الإدماج ، يزيد تأكيد استمرارية طوابع العبث في تدبير قطاع هو الحياة أو الموت بالنسبة لأمة تريد الرقي والازدهار في عالم الانفجار العلمي والمعرفي عالم اقتصاد المادة الرمادية. عبث المدخلات: من الحلول التي غدت من استراتيجيات التدبير العام للمخزن المغربي، أنه كلما أراد القضاء على مزعجيه من الفاعلين في كافة ميادين الفعل السياسي والاجتماعي استجابة لمطالبهم في قضايا الشأن العام المختلفة ، قدم لهم رؤية من الرؤى(لا علاقة لها بالمبشرات)، أو أعد لهم لجنة من اللجان، أو معهدا من المعاهد، أو مؤسسة استشارية من المؤسسات التي تعتني بذلك الملف عبر إقباره شيئا فشيئا، أو عبر تدبيره من خلال الرؤية المخزنية ذاتها فيكون كما يقول المثل المغربي (ما قضى حاجة ولا خسر خاطرا) ،ومن ذلك ما فعله مع قضايا حقوق الإنسان والأسرة والتنمية والأمازيغية وغير ذلك. وما كان للتعليم ليفلت من هذا الأمر، وقد كان عبر تاريخه المرير شأنا مخزنيا خالصا ، ولنتذكر السياق التاريخي لنشأة الميثاق الوطني للتربية والتكوين، حيث كان أعلن عن تشكيل اللجنة الملكية المختصة بالتعليم في غشت 1994، والتي ضمت عددا كبيرا من الشخصيات المشهود لها بالوطنية والعلم والكفاية فقدمت نتائجها في 1995 ورفضت نتائجها بسبب ما سمي بعقلية الستينات والتعريب والمجانية ، وتم الالتجاء عوض ذلك إلى طلب استشارة البنك الدولي الذي أصدر تقريره الذي كانت الدعوة إلى مراجعة مبدأ المجانية أهم بنوده ، فأعيد تشكيل لجنة أخرى زارت لحل معضلة التعليم في المغرب كل بلاد الدنيا إلا ذاك الذي يراد حل مشاكله، ووضعت ميثاق مزيان بلفقيه الذي صادق عليه الحسن الثاني رحمه الله في أكتوبر 1995 ،وتأتي سنة 2000 ليعلن العهد الجديد عن التعبئة الوطنية لتجديد المدرسة من خلال إعلان عشرية 2000-2010 عشرية وطنية للتربية والتكوين، وجعل قطاع التربية والتكوين أسبقية وطنية بعد الوحدة الترابية. عبث السيرورة: لم تكد العشرية المخصصة للتعليم تنتصف حتى صدرت تباعا عدة تقارير دولية تكشف عوار الميثاق وواضعي الميثاق، فرغم شعارات التعبئة الجماعية وطول النفس والحزم والرفع من الجودة وتحفيز الموارد البشرية وتعميم التعليم والحكامة والشراكة، كانت الحصيلة المرتبة 126 من أصل 177 دولة في برنامج الأممالمتحدة الإنمائي ، والرتبة ما قبل الأخيرة من تصنيف رائز pirls الخاص بتقويم التعلمات الأساسية من بين 45 دولة ، والرتبة 11 من بين 14 في تقرير البنك الدولي 2008 . لم يعد بالإمكان حجب فضائح الفشل الذريع فانخرط المجلس الأعلى للتعليم في تأكيد النتائج ذاتها في تقريره عام 2008، وتم الإعداد لبرنامج استعجالي عرف بدايته في 2007 أكتوبر، ولم تستوي صيغه النهائية حتى أكتوبر 2009 بهدفين استراتيجيين هما: تثمين الإصلاح واستيعاب الدينامية الناتجة عنه، و الرفع من وتيرة استكمال الإصلاح وذلك من خلال أربعة مجالات أساسية تستهدف التحقيق الفعلي لإلزامية التعليم إلى غاية 15 سنة ، وحفز روح المبادرة والتميز ، ومواجهة الإشكالات الأفقية للمنظومة، وتوفير وسائل النجاح. وقد مثل المشروع E1.P8 الذي اهتم بتطوير العدة البيداغوجية أهم مشاريع البرنامج الاستعجال، وصنف ” ضمن المشاريع الإستراتيجية للبرنامج الاستعجالي، ويرمي إلى تحقيق جودة التعلمات مع ضمان اكتساب المعارف والكفايات الأساسية، وذلك من خلال تحسين العدة البيداغوجية. وقد تم الاهتمام، خلال السنتين الأوليين من تنفيذ البرنامج الاستعجالي، بإرساء بيداغوجية الإدماج، باعتبارها الإطار المنهجي للتنفيذ العملي للمقاربة بالكفايات. وهكذا، عرفت بداية شتنبر 2010 في التعليم الابتدائي تعميم بيداغوجية الإدماج في جميع الأكاديميات الجهوية، بعد تجريب موسع في سنة 2009 . وقد تطلب هذا، على الخصوص، إعداد وتوزيع أدوات العمل، على جميع التلاميذ )دفاتر الوضعيات(، وعلى جميع المدرسين )دليل الإدماج(، وكذا تكوين مجموعة من الفاعلين : جميع مدرسي الابتدائي، وجميع المفتشين، وجميع مديري المدارس، وجميع مكوني مراكز تكوين المعلمين. كما تطلب ذلك إرساء جهاز للتتبع والمواكبة. ويتم، حاليا،التجريب الموسع لبيداغوجية الإدماج بالتعليم الثانوي الإعدادي”[1]. والآن والبرنامج الاستعجالي على مشارف الانتهاء تطلع الوزارة بقرار مفاده إلغاء العمل بالمذكرة204 المنظمة لعملية التقويم في إطار بيداغوجية الإدماج بالإعدادي تسهيلا لعملية التقويم ، والاحتفاظ بها في التعليم الابتدائي على أساس إعطاء الصلاحية لمديري المؤسسات و الأساتذة من أجل اعتماد هذه البيداغوجية، وإرجاء العمل بها بالسلك الثانوي الإعدادي إلى حين وضع تقييم لنتائج تطبيقها بالابتدائي،وتوقيف جميع عمليات التكوين المرتبطة بها. عبث المخرجات: نعتقد أن المسار العام الارتجالي الاستعجالي الذين طبعا تاريخ المنظومة التربوية المغربية لا يمكن أن ينتج إلا أمثال هذا العبث الذي يمكن أن نسجل أشكالا متعددة من أنواعه: - تم إقرار الميثاق الوطني للتربية والتكوين بقرار فردي من الدوائر المتنفذة في القرار السياسي ، وتم الانتهاء منه أيضا بقرار فردي من دون إعطاء فاتورة حساب لأي جهة كانت تحدد المسؤولية عن فشله أو تعثره( ومنذ متى كان المخزن يحاسبه أحد؟)؛ - تم اعتماد برنامج استعجالي على الشاكلة ذاتها ،وتم إغراق وإرهاق المنظومة التربوية بسلسلة متتالية من المشاريع المتباينة التي لم تعمل إلا على تطويق الأجهزة المنفذة بسلاسل أخرى من الاجتماعات وملء التقارير وإحصاء الحجر والبشر والنظريات والمفاهيم والمصطلحات التي لم ير لها أثر إيجابي على الواقع، بل عملت فقط على تأزيم منظومة مأزومة أصلا وحالا. - كان على الفاعلين التربويين الانتظار حتى 2009 لتتم أجرأة مدخل الكفايات باعتباره المدخل التربوي المعتمد في المقاربة المنهاجية، بمعنى أن المنظومة التربوية عاشت منذ الميثاق دون بوصلة موجهة على المستوى البيداغوجي حيث كان يتم الحديث عن الكفايات المتعددة من دون أن تجد لها سبيلا إلى الأجرأة العلمية ،واستمر الحال إلى أن أنقذنا مكتب خبرة أجنبي فصدّر لنا بيداغوجيا الإدماج وتلقفناها نحن التابعين دوما بالتمجيد والتحميد، وألقينا في بحر لججها المتلاطمة ولما نحسن السباحة فيها بعد. - بجرة قلم يتم الإعلان وبلغة ماكرة عن التراجع عن هذه البيداغوجيا، وترك العمل بها للمديرين والأساتذة ،و كأن هؤلاء أصلا قد ابدوا حماسا لها وهي التي أغرقتهم في كومة من الأوراق والشبكات التي كان الكل يفرمنها. تم الإلغاء إذن، بعد أن أهدرت أموال الأمة في تكوينات ارتجالية هي الأخرى كانت فرصة للبعض للتنزه ،وللبعض للأكل والشرب، ولآخرين مصدر رزق ساقه السيد “كزافيي” ،وليعقد أحدنا عملية حسابية ليعرف كم كلف تكوين 131751 من الأساتذة و2196 مفتشا، إذا علمنا أن دفتر التحملات يحدد تكلفة التكوين في 300 درهم عن كل يوم بمعدل 1500 درهم لكل فرد عن 5أيام، أي ما مقداره 200مليون و920 ألفا و500 درهما، و لينظر آخر كم كلف إصدار ركام هائل من الدلائل البيداغوجية والوثائق المصاحبة، وليبحث غيره في كم كلف التعاقد مع مكتب “كزايفيي” وخبرائه، وما خفي كان أدهى وأمر.ناهيك طبعا عن الطامة العظمى المتمثلة في إدخال المنظومة التربوية في سلسلة لا متناهية من الاختبارات والتجارب التي يضيع معها معنى التعليم والتعلم ، وتضيع معها المدرسة والمتعلمون. دولة العبث: إن تاريخ التعليم هو الوجه البشع المصغر من العبث الكبير الذي يسيطر على تدبير المخزن لمختلف مناحي الشأن العام، ذلكم العبث الذي جعل من تاريخ المغرب الحديث والمعاصر تاريخ الفشل بامتياز، ذلك أن العابثين المبذرين المتحكمين في زمام الأمر تجبرا و استبدادا ما تركوا مجالا إلا و بصموه بعبثيتهم ، فتراهم في السياسة ينتجون دساتير ممنوحة تتلوها انتخابات مزيفة تنتج عنها حكومات تصريف تعليمات، وتراهم في الاقتصاد يدشنون مشاريع قارونية لا يتحصل منها الشعب إلا على لظى الأسعار وهوان البطالة وذل التسول ، وتجدهم في الفن يصرفون الملايير على المهرجانات والأفلام الناشرة للميوعة والرذيلة ، وملايير أخرى تدر في جيب المدرب الأشقر لرياضة لا ننال منها سوى الهزائم تترى، وغير ذلك مما أصبح معلوما معيشا للقاصي والداني. إن المخرج من هذا العبث- لا نمل من تكراره تذكيرا لأولي الألباب- هو التداعي إلى نقاش مجتمعي واسع لا يقصى منه أحد يجعل من قضية التعليم قضية أمة لا قضية حكم ،حيث إنه لا مفر من فك الارتباط بين التعليم والاستبداد السياسي، و من تخليص مصير الأمة من الارتهان لإملاءات المؤسسات المالية الدولية التي لا تخدم في آخر المطاف إلا مصالحها ومصالح محمييها.وإنه ما عاد السكوت يجدي على هذه الجرائم النكراء التي تمارس ضد ناشئتنا، وضد مستقبل أمتنا،وضد أغلى ما تملكه الأمم فلذات أكبادنا يلهو بمصيرهم ثلة من العابثين الذين لا يرعون فيهم إلا ولا ذمة، و”الله غالب على أمره “،و “إن الله لا يصلح عمل المفسدين.”