وأنا أتجول بين الصفوف، متفقدا انجازات المتعلمين حول موضوع كلفتهم للقيام به في المنازل، استرعى انتباهي تلميذ تبدو عليه علامات الشحوب، بشعره الأشعث المنفوش، وثيابه الرثة، وميدعته الممزقة بسبب التجاذب والجري داخل الساحة...لم يكن أمامه سوى ما تبقى من قلم رصاص لا يتعدى السنتميترين، وشبه مسطرة وورقة لا تقل رداءة عن وزرته المهترئة. ولما سألته عن واجبه المنزلي، بدأ ينظر إلي محدقا وكأنه لا يعرف ما أعنيه... - إنه في العاشرة ليلا كان لا يزال يلعب في الحي...صرخ لي زميله. علامات الشحوب في ذلك الصباح تبين أنه لم يتناول وجبة فطوره وأنه لم ينم بما فيه الكفاية. - هل تناولت فطورك يا أحمد؟ أجابني بالنفي. ولما سألته عن السبب أخبرني أنه لا يوجد بالبيت من سيقدم له وجبة الفطور. - وأين أمك؟ - ذهبت إلى الديوانة. - هل ستسافر إلى الخارج؟ - لا ولكن لكي تأتي بالسلعة... عرفت أن أمه تمتهن التهريب المعاشي...أشفقت لحال أحمد ذي العشر سنوات، وسألته عن أبيه. - إنه في المارشي ...تصورت أنه تاجر حملة، لكن أخبرني أنه حمال يفرغ حمولة الشاحنات من صناديق الخضر والفواكه... هذا هو أحمد...إنه نموذج لعدد كبير من متعلمينا الذين تزخر بهم جنبات مؤسساتنا التعليمية...أولئك الذين ننعت من خلالهم مستوى تعليمنا بالضعف والتردي...أحمد هو ثمرة تربية الشارع...إنه طفل لا يعيش طفولته، كل وقته ثالث، يمارس اللعب بأصنافه حتى الثمالة، يعرف جميع أنواع المخدرات وطرق استعمالها، إن لم يكن قد جرب بعضها، قاموسه اللغوي زاخر بكل أنواع السب والشتيمة، أما التعلم فإنه بالنسبة إليه عبء جاثم على صدره لا يعني له أي شيء سوى أنه يجد نفسه مضطرا للذهاب إلى المدرسة ربما بسبب ركلات أبيه، أو أنها عادة يقوم بها أقرانه لا أكثر. أحمد له ثمان إخوة من الذكور والإناث، يرابطون في الشارع طوال النهار، لا يلجون البيت إلا من أجل النوم... أحمد نموذج لفئات عريضة من تلامذتنا، ومع ذلك نجد أنفسنا مضطرين لاستهلاك وترويج بل والانخراط في سياسات ومصطلحات مستوردة من قبيل الحكامة والجودة وبيداغوجية الادماج...فهل ستعوض هذه السياسات ما ضاع لأحمد وأمثاله؟ أين هي الاستراتيجيات المسطرة للسياسات التعليمية لخلق مواطن صالح يتمتع بروح المواطنة العالية ومتشبت بثوابته الوطنية والروحية وبهويته وهو يرى هوة سحيقة بين واقعه الأسري والاجتماعي وبين ما يعاينه بمدرسته...التي انقطع عنها جل إخوته وأبناء حيه...هنا مكامن الخلل...وللحديث بقية. محمد الشعايري