والله لست أدري بماذا أبدأ الكلمات، ولا كيف أصوغ العبارات، ففي القلب أحزان، وفي الصدر أشجان، والأسى يملأ الوجدان على دولة ضحكت من جهلها الدول وهي تراها تصادر الحق في القراءة والعلم، وهو الحق الذي ضمنه الشرع والعقل والعرف. تبدأ القصة من ساحة البرلمان، حيث حجت جموع القراء من أبناء الشعب المغربي ليحيوا اليوم الوطني للكتاب، سلاحهم في ذلك قول مالك بن نبي: "الأمة التي لا تقرأ تموت قبل أوانها". فهب الجميع عن بكرة أبيهم، ما بين طلبة ومعطلين، صحفيين وموظفين، ذكرانا وإناثا، الكل جاء لينعم بساعة من المطالعة عله يعطي صورة جميلة عن الواقع الجميل الذي ينشده في مخيلته عن مغرب الثقافات الحقيقي، المفعم بالعلم والقراءة المؤديان للرقي الحضاري، بعيدا عن مغرب السخافات الراقصة المحركة لأجمل الخصور، حيث تجري أموالنا دراهم فوق أجساد الغواني القادمات لموازين السخافات. انطلقت المسيرة المزدانة بأنواع الكتب العلمية والفكرية من ساحة الكفاح بباب الأحد في اتجاه البرلمان، وهناك اجتمعت الحشود في تكرار المشهد التركي الذي أخرج للعالم صورة رائعة عن حب المطالعة باجتماع أكثر من خمسين ألف تركي في إحدى الملاعب للقراءة والمطالعة، ومؤخرا بمدينة مراكش حيث المئات من المواطنين الذين قضوا ساعات في إحدى الساحات العمومية حاملين كتبهم في أيديهم، مشهد لم يُكتب له التكرار بمدينة الرباط الإدارية يا حسرة فما إن أوشكت الكتب على تصدير ما بها من حروف إلى عقول حامليها حتى انتفضت الترسانة المخزنية مؤذنة بحالة الطوارئ، ليصيح أحد الكوادر الأمنيين: "هاد الجلسة ديال القراءة ماشي مرخص ليها" قبل أن يردف وهو يلوح بكتابه "الزرواطة": "يالا نوض عليا من هنا وسير لداركم وقرا". وش يفهم الحمار فأسبوع الفرس. كم يؤسفني وأنا أرى بلادي التي أعشقها حد الجنون تمنع أبناءها القراءة في الشارع، فيما حديث الساعة يتوجه بعقاربه إلى الأمام نحو معانقة الحضارة والديمقراطية التي ذبحت من الوريد إلى الوريد أمام البرلمان بهراوات الجبناء، كم هو مؤسف أن تصادَر الكتب من أصحابها وتودع سيارة الأمن كما لو أن الأمر يتعلق بجُنحة كبرى في بلد الرقص والعري الوشيك أوانه مع مهرجان موازين. تدمع العين على منظر الأطر العليا المعطلة وهم يتساقطون تباعا كأوراق الخريف، فتنزف أجسامهم دما طريا متناثرا على أوراق كتبهم التي اصطحبوها علها تشفع لهم يوما واحدا أمام الآلة الحديدية التي لا تراعي في مثقفي المغرب إلا ولا ذمة، يحزن القلب حين نرى دولة تركيا العلمانية تشجع القراءة فيما مغربنا المسلم الذي قرأ مطلع سورة العلق يحارب القراءة والقراء. ندائي إليك يا رئيس الحكومة المغربية، فبكل أسى وامتعاض أقول لك: أفي زمن الثورات على الجهل يقع هذا؟ أفي دولة الحق والقانون يحدث هذا؟ وما دام جهادكم قد انصب على القراءة لإتلافها، فلتُفرغوا المدارس من أطفالها إذن، ولتُخلوا الثانويات من تلاميذها، ولتُغلقوا الجامعات بعد قبول استقالات طلابها، ألهذا الحد وصلنا يا رئيس الحكومة؟ ومن باب الرجاء فقط، لا تخرج علينا لتقول أنك لم تعط الإذن بذلك، فهو وربي عذر أقبح من زلة. ألم تفكروا لوهلة واحدة عن حالكم مستقبلا وأنتم تواجَهون بتهمة قمع الكلمة الحرة التي بُترت يدها باعتقال الصحفي رشيد نيني، وسُملت أعينها الآن بمصادرة الكتب أمام برلمان الشعب؟ فيا أيها القلب العليل بهموم هذا الوطن، كفاك عويلاً على حلم مسكوب منكسر، قد آن لك أن تتقلب على جمر الأسى ونار العنت وأنت تشاهد الحروف تتهاوى من شاهق، لهفي عليكم أيها المثقفون والمؤلفون والحافظون والمتابعون وأنتم تتقاضون ولو رمزيا ثمن مؤلفاتكم الرائعة، لقد كان المنظر جنونيا جدا وأنت ترى المثقفين يهرعون فارين بجلودهم وصفحاتهم خوفا من "زرواطة" قد تحرمهم من التأليف زمنا، وأنت ترى المعطلين يحملون كتبا من مختلف التخصصات ليقولوا للحكومة المتهاوي تفكيرها: لم نأت من سفاح، لأننا ننتسب إلى شجرة عريقة تمتد جذورها لتضرب في أعماق كتب العلم المتخصصة، وأنت ترى الطلبة يحملون كتبهم ومقرراتهم ليقولوا للعالم أجمع: هذا مصير خريجي مدرسة النجاح وجامعة العلم والمعرفة التي يتغنى الوزراء بها ... يا دولة ضحكت من جهلها الدول، ألا تعسا وسحقا ثم بُعدا... وبعد.. فما الذي نسيتُ قوله؟ هل أنظم القوافي لأرثي الحروف الصريعة على مسرح الرباط؟ أم أستدعي أبا البقاء الرُّندي لينسج واحدة من مراثيه على أطلال الحرف الذي سقطت مروءتُه لدى مسؤولينا؟ أم أتعزى بقول أبي العلاء المعري في رائعته: فيا موتُ زر إن الحياة ذميمة **** ويا نفس جدي إن دهرك هازل