لقد كانت ساحة الغرسة الكبيرة من أجمل ساحات مدينة تطوان العتيقة وأكبرها. وما زالت الصور الفوتوغرافية التي أخذت لها خلال النصف الأول من القرن الماضي تؤكد ذلك. وما يزال جمال هذه الساحة كما كان حيا في هذه الصور، وكذلك في بعض اللوحات التشكيلية بريشة الرسامين المتميزين أمثال ماريانو برطوشي وأحمد بن يسف وغيرهما. ومما يفسر هذا الجمال في الماضي التجارة التقليدية النظيفة التي كانت منتشرة بهذه الساحة، كبيع الثياب الصوفية التقليدية. ومما يفسر الجمال الذي عرفته ساحة الغرسة الكبيرة في عهد الحماية، التنظيم المحكم لهذه التجارة، مع توظيف فضائها بشكل محكم انسجاما مع خصوصية هذه الساحة عمرانيا ومعماريا. وما زالت الغرسة الكبيرة حية في ذاكرة بعض التطوانيين الذين عرفوها قبل تدهورها، في إطار التدهور الذي عرفته مدينة تطوان العتيقة عموما، في غياب برنامج جدي لإنقاذ هذا التراث المصنف ضمن التراث العالمي من طرف منظمة اليونسكو. أما اليوم، فلقد تحولت ساحة الغرسة الكبيرة إلى نقطة سوداء في قلب المدينة العتيقة باعتراف أغلبية العقلاء، ومع ذلك فهناك من يدافع عن بقاء هذه الساحة على حالتها المزرية. ففي مقال نشره السيد محمد طارق حيون بعنوان: تجار تطوان يرفضون إخلاء ساحة الغرسة الكبيرة قال: "خلاصة القول إن ساحة الغرسة الكبيرة تراث عالمي بفضائها ورواجها التجاري وبباعتها كما هو الحال بالنسبة لساحة جامع الفنا بمراكش…". إن واقع ساحة الغرسة الكبيرة بعيد كل البعد عن جمال ساحة جامع الفنا، والفوضى التي توجد عليها الآن ساحة الغرسة الكبيرة، لا يمكن مقارنتها مع التنظيم المحكم لتجار جامع الفنا، و لكن نتمنى أن تتحول ساحة الغرسة الكبيرة من أبشع ساحة في المدينة ساحة العتيقة إلى أجملها. إن وضعية ساحة الغرسة الكبيرة الآن تتلخص في النقط التالية: أولا، هناك التجار الذين يمارسون تجارتهم في المتاجر المطلة على الساحة بجميع اتجاهاتها. إن أصحاب هذه المتاجر يمارسون تجارتهم بطريقة شرعية وعادية، ويرحبون بالتغييرات التي تقترحها جمعية تطاون أسمير وكذلك مندوبية وزارة الثقافة بتطوان، من خلال دراسة لتهييئ الساحة أنجزت تحت إشراف السيد المندوب السابق، والتي طورها المندوب الحالي الدكتور المهدي الزواق. ومما لا شك فيه أن هذا الصنف من تجار الغرسة الكبيرة سوف يرحبون بأي مشروع لتهيئة هذه الساحة إذا سمحت الجماعة الحضرية بانطلاقها، كمشروع الحكومة الأندلسية المجمد حاليا، لأن هذا المشروع يضم ترميم واجهات المتاجر المطلة على ساحة الغرسة الكبيرة، وتوحيد مظهرها الخارجي، على غرار متاجر بعض الشوارع التي تم التدخل فيها بنجاح، كمتاجر زنقة المقدم التي أشرفت الحكومة الأندلسية على تهيئتها وتمويلها وترميم واجهات متاجرها. إن هذا الصنف من تجار ساحة الغرسة، يؤدون ضرائبهم ويتوفرون على رخص قانونية لممارسة تجارتهم، ويساهمون فعلا في جعل المدينة العتيقة مدينة حية ومتحركة. ولا يوجد أي داع لإخلاء هذا الصنف من التجار من ساحة الغرسة الكبيرة، لأن متاجرهم لا توجد في الفضاء العمومي لهذه الساحة، بل إن وجودهم بهذه الساحة مرغوب فيه، لأن هذه المتاجر تعتبر جزءا من الساحة. أما الصنف الثاني من تجار ساحة الغرسة الكبيرة، فتختلف وضعيتهم عن الصنف الأول، حسب الموصفات التالية: 1. لقد حولوا الغرسة الكبيرة إلى "جوطية"، وبدأت هذه الظاهرة تنتشر في أحياء أخرى من الشارع الرئيسي بحي العيون. وللسلطات المحلية يد طويلة في ذلك، فمن العبث الادعاء بأن هذا الصنف من تجار الغرسة الكبيرة يشكل جزءا من التراث العالمي، وإلا فيجب إعادة تحديد مدلول هذا المصطلح. 2. إن هذا الصنف من تجار الغرسة الكبيرة له وضعية قانونية غامضة، يجب أولا توضيحها، ثم البحث عن حل مناسب لها يرضي جميع الأطراف المعنية. إن وضعية هؤلاء التجار تختلف عن وضعية التجار الذين يمارسون تجارتهم بطريقة قانونية ويتوفرون على رخصة لممارسة تجارتهم من الجماعة الحضرية، لأن التجار من الصنف الثاني يمارسون تجارتهم وسط ساحة عمومية، كما تختلف وضعيتهم عن وضعية الباعة المتجولين، لأن هؤلاء التجار لا يتجولون، ويمارسون تجارتهم في مكان قار. وإن كانت الجماعة الحضرية قد منحتهم رخصا ليس مقياسا مقبولا، لأن الجماعة الحضرية اتخذت مواقف غير قانونية، كبناء سوق العوينة بدون رخصة مديرية المآثر التاريخية التي ترفض الاعتراف بشرعية هذا السوق، علاوة على الفوضى التي تتجلى في بيع عشرات من الحوانيت في سوق تم بناؤه بطريقة غير قانونية أصلا. وفي آخر اجتماع مع تجار الغرسة الكبيرة بمكتب مندوب الثقافة بتطوان وقائد المدينة العتيقة ونائب الرئيس المنتدب لجمعية تطاون أسمير، وهو اجتماع لم يحضره السيد محمد طارق حيون حتى يؤكد أو ينفي ما جرى فيه، عبر بعض تجار الغرسة الكبيرة عن رفضهم للاتفاق المبدئي السابق بين قائد المدينة ومندوب الثقافة وممثل الجماعة الحضرية من جهة، والشخص الذي كان ينوب عنهم من جهة أخرى. إن التوجه الأول كان يتجلى في النقط التالية: أولا، ضرورة إخلاء ساحة الغرسة الكبيرة حتى تتم تهيئتها. ثانيا، التفاوض بين الأطراف المعنية مباشرة، وهي الجماعة الحضرية والسلطات المحلية من جهة، وممثلين عن تجار الغرسة الكبيرة من جهة أخرى، من أجل تعويض هؤلاء التجار مقابل مغادرتهم للساحة، ولقد جرت هذه المفاوضات خلال مدة حددها السيد الوالي لإيجاد حل نهائي للمشكل. ثالثا، انطلقت هذه المفاوضات بعد اقتراح عضو من إدارة الجماعة الحضرية اقترح إشراف السيد الوالي على العملية بأمر من السيد الوالي وليس بحضوره، فتم اقتراح مجموعة من الحلول من طرف الجماعة الحضرية، كانتقال هؤلاء التجار إلى السوق المجاور لباب النوادر، فاعترض بعض التجار على ذلك، باعتبار أن هذا السوق غير مناسب، وهذا صحيح، كما طرحت فكرة إدخال تغييرات على هذا السوق قبل انتقال هؤلاء التجار إليه، قبل هذا الاقتراح بعض التجار. فأوقفت المفاوضات دون الوصول إلى حل نهائي، وتم التراجع عن الاتفاق المبدئي السابق. هناك بعض التوضيحات: أولا، لا أحد يريد أن يطرد تجار ساحة الغرسة الكبيرة بالقوة والتهديدات، ولا يوجد ذلك في متناول أحد. إنما المطلوب هو تهيئة الساحة، وهذا يتطلب إفراغها لتنطلق الأشغال، وانطلاقة الأشغال تتطلب بدورها تحديد الوضعية الجديدة لساحة الغرسة الكبيرة، على غرار ما حصل في ساحة الفنا بمراكش، التي صنفتها منظمة اليونسكو ضمن التراث العالمي الشفهي، بفضل نضال بعض الجمعيات المدنية بهذه المدينة. والوضعية الجديدة لساحة الغرسة الكبيرة يمكن أن تتحقق إما بناء على إعادة هيكلة التجارة التي توجد وسط الساحة، بتغيير طبيعة البضاعات المعروضة وأساليب عرضها، وإعادة توزيعهم داخل فضاء الساحة مع الاحتفاظ بنفس التجار، وإما بإخلاء الساحة بعد الوصول إلى اتفاق بين الجماعة الحضرية والسلطات المحلية من جهة والتجار من جهة أخرى. وهذا لن يتحقق الآن فيما يبدو، لأن الجماعة الحضرية تعمدت في فشلها لإيجاد حلول مناسبة لمشكل الباعة المتجولين بالمدينة العتيقة عموما، وتجار ساحة الغرسة الكبيرة الذين يوجدون وسط الساحة من جهة ثانية. منشورات جمعية تطاون- أسمير "تطوان و سياسة التنمية الاقتصادية و تدبير التراث الثقافي" الدكتور امحمد بن عبود بريس تطوان يتبع...