جهود الأستاذ محمد داود في مجال التعليم: تحدثنا هذه مذكرات (على رأس الأربعين) و (على رأس الثمانين) عن الجهود المضنية التي بذلها صاحبها في النهوض بالتعليم في منطقة الشمال وتطويره، وعن روحه الإصلاحية التي هي نتاج تفكير طويل ابتدأه عندما بدأ دراسته بالقرويين، حين اعتبر أن طريقة التدريس لا تنتج إنسانا حرا، مستقل بفكره، له شخصيته العلمية، بل تنتج أنماطا من الفقهاء لا يعرفون إلا الكتب التي درسوها، ولا يمارسون إلا مهن بعينها، يقول الفقيه داود: " هل أرضى بالاقتصار على قراءة التحفة والمختصر لأكون في النهاية فقيها عاديا، لا أمتاز بشيء عن طبقة الفقهاء الذين يوضعون في الكراسي وضعا، ولا يفهمون من العلوم إلا ما تحتوي عليه التحفة والأجرومية أو المختصر و الألفية، والمثل الأعلى للكتب في نظرهم هو البهجة والعمل والمعيار، أولئك المساكين الذين كان جلهم لا يستطيع العيش إلا إذا جاد عليهم سيدنا القاضي بالإذن في العدالة، ثم بعد السنوات الطويلة وبعد اشتعال رأسهم شيبا، قد يؤدن لبعضهم في الفنوى، وقد يفوز واحد في المئة منهم بوظيف القضاء، تلك الوظائف التي كانت في ذلك العهد تمثل البؤس والشقاء على غالب أهلها، فكان أصحابها كالمتسولين أو فقهاء القبور". وزاد الطين بلة أن طريقة التدريس تتسم بالعشوائية، ويغيب عنها التنظيم فحضورها: " مباح لكل من يريد من شباب وكهول وشيوخ، سواء كانوا من الطلبة أو العلماء، أو من الأعيان أو الوزراء،أو من الحمالين أو الكناسين، يمكن للمبتدئ الذي لم يتلق درسا واحدا في حياته أن يحضر دروس الزرقاني على المختصر، أو المحلي على جمع الجوامع، أو بناني على السلم". هذه النظرة الإصلاحية لدى أستاذ الجيل سيجسدها على أرض الواقع بعد أوبته إلى الحاضرة التطوانية حيث اشتغل أستاذا بالتعليم الرسمي، وفي هذه الفترة أسس المدرسة الأهلية يوم 23 جمادى الأولى (1345 ه /1925م)، " فكانت المدرسة الأهلية بحق، هي الشرارة الأولى التي أعلنت قيام المبادرات الوطنية الهادفة في شمال المغرب، بوصفها معلمة ثقافية وطنية في ذلك الوقت، الذي كان فيه العمل الثقافي والوطني عنصرين متلازميين"، وهي أول مدرسة وطنية إسلامية حرة أنشئت على النظام الحديث في منطقة الحماية الإسبانية مما ينم عن بروز وعي وطني كبير وإيمان بأهمية المدارس الوطنية في الحياة السياسية والاجتماعية. وقد اعتبرت هذه المؤسسة التربوية بازغة عهد جديد في مجال التعليم بالمغرب، إذ كانت ثورة فيما يتعلق بالأساليب الدراسية والمناهج التربوية حيث كانت تلقى الدروس فيها على الطريقة العصرية وهو ما لاقى استحسانا وإقبالا منقطع النظير من طرف التلاميذ، وقد استغل الفقيه عشقهم لهذه الدروس لإذكاء روح الوطنية في أفئدتهم، وعمل على فتح مكتبه الخاص ليتمكن الطلبة من الاطلاع على المجلات والصحف الواردة من المشرق ومناقشة مواضيعها خصوصا المواضيع التي تهم قضايا الأمة الإسلامية والعربية. وبفضل هذه الطريقة التربوية أسس تلاميذ المدرسة الأهلية ناديا أدبيا وأصدروا مجلة أسبوعية بعنوان (أم عريط) تنتقد الأوضاع المغربية، صدر أول عدد منها في أربع صفحات في شهر فبراير سنة (1927م)، كما نشروا بعض المقالات الاجتماعية وتغنوا بالأناشيد الوطنية التي كان الفقيه داود يقوم بتأليفها أو تلحينها معبرين بذلك عن جذوة الحماس التي كانت تختلج صدورهم. وكما حرص الأستاذ داود أن يكون للمدرسة ناد وصحف تملأ رفرفه، فقد حرص أيضا على أن تكون له مكتبة تضم كتبا مختلفة يعتمدها التلاميذ في قراءاتهم وفي مطالعاتهم، وكان جل هذه الكتب إما من إهداء بعض التلامذة أو أولياء أمرهم، وإما من إهداء بعض الشخصيات التي تزور المدرسة فتتبرع عليها بخير ما يمكن أن ينفع تلاميذها وهو الكتب. وساهم في نجاح المدرسة الأهلية أيضا اطلاع الأستاذ داود على بعض التجارب الرائدة في ميدان التعليم خصوصا أثناء مقامه بمدينة فاس حيث كان متتبعا لخطوات كتاتيبها العصرية معجبا بطريقة تسييرها، شغوفا بالتعرف على أطرها ويبدو ذلك جليا في استغلاله لفرصة زيارة وجهاء تطوانيينلفاس لمرافقهم إلى تلك المدارس ليطلع على طرق التدريس فيها والجو الثقافي السائد بداخلها بفضل اعتمادها على تلقين مختلف الفنون من فقه ولغة وأدب وعلوم وحساب، بخلاف مدينة تطوان التي كان تعليمها تقليديا حيث تنقصه الوسائل والطرق التربوية الصحيحة إذ جعل من التلميذ مجرد وعاء لملئ الدروس دون استيعاب، بل إن الشيخ نفسه كان يحفظ ولا يجيد فهم النصوص التي يدرسها. كما أن المناخ التعليمي في الكتاب بصفة عامة كان يسوده جو قاتم من الصرامة والقسوة، فيصبح المدرس غولا مخيفا للمتعلمين عوض أن يكون قدوة يهتدون بنور هو يقتدون بتعاليمه. وقد عانى الفقيه داود نفسه من نماذج هؤلاء الفقهاء إذ أذاقه الفقيه الذي عينه له والده ولأخيه ليعلمهما القرآن في البيت ألوانا وصنوفا من العقاب البدني. وقد قضى الأستاذ داود اثنا عشر سنة على رأس المدرسة الأهلية ليسلم مشعلها بعد ذلك لتلاميذه المتشربين لمبادئ الوطنية من معينه وأفكاره وأصبح لهم شأو ومنزلة عظيمة في تاريخ الحركة الوطنية أمثال عبد الخالق الطريس، الطيب بونة، عبد السلام بن جلون، ومحمد عزيمان. لأجل ذلك كله كانت المدرسة الأهلية بحق كما وصفها التهامي الوزاني: "ثورة على الأساليب العنيقة التي تتنافى مع الحياة الصحيحة التي يحياها جيل القرن العشرين. وتلقى تلاميذ المدرسة فكرة التكوين الكامل". كما كان الفقيه محمد داود عضوا نشيطا وفعالا في المجلس الأعلى للتعليم الإسلامي الذي أسس سنة1934 م، وأسندت له مهمة مفتش التعليم الإسلامي (1937)، فمديرا للمعارف في المنطقة الخليفية (1942) و هو أعلى منصب في التعليم آنذاك و هو ما خول له أن ينفذ أفكاره الإصلاحية مع ثلة من علماء عصره ومفكريه أمثال العلامة التهامي الوزاني ومحمد عزيمان وامحمد بن عبود فألفوا مناهج عصرية متطورة تواكب تغييرات العصر وتنسجم مع الثقافة المغربية الإسلامية، كما أدخلوا تغييرات هيكلية على التعليم فقسموه إلى تعليم ابتدائي وثانوي وديني وعصري، ووضعوا منهاجا خاصا بمدرستي المعلمين والمعلمات والتعليم الديني العالي مع منح شهادة لكل صنف من أصناف التعليم المذكورة و تأسيس العشرات من المدارس للبنين والبنات في تطوان وشفشاون والعرائش والقصر الكبير والحسيمة والناظور، وتنظيم حملات دورية لمحو الأمية بعد رحلات رسمية قام بها أستاذ الجيل إلى مصر للإطلاع على طريقة التدريس في هذا البلد الإسلامي واستقدام المناهج والكتب الدراسية للاستعانة في تطوير التعليم المغربي. ولم تقف السلطات الإسبانية مكتوفة الأيدي أمام ربيع الثقافة و العلم الذي حاول الفقيه داود نشر أريجه و نسماته بين صفوف المغاربة فصارعت إلى الضغط عليه لتقديم الاستقالة من منصبه ليتفرغ بعد ذلك لأنشطته العلمية وكتابة المقالات السياسية والاجتماعية في الصحف الوطنية دون توقيع أو بأسماء مستعارة (أبو الحسن، المجاهد، الوطني، فتى المغرب…) والتدريس في المعهد العالي إلى أن بزغ فجر الاستقلال فشارك في اللجنة الملكية لإصلاح التعليم (1956) ودافع بكل ما أوتي من قوة عن التعريب، سواء في هذه اللجنة أو عندما كان عضوا بالمجلس الاستشاري(1957) أو حين كان عضوا في المجلس الأعلى للتربية الوطنية الذي عين فيه سنة 1959. وقد أسند له بعد ذلك الإشراف على الخزانة الملكية إلى أن أقعده المرض فتوقف عن نشاطه الزاخر . العنوان: فهارس علماء تطوان (تطوان من خلال كتب التراجم والطبقات) للمؤلف: الوهابي منشورات باب الحكمة (بريس تطوان) يتبع...