تميز تكريم الدكتور نزار التجديتي يوم الاثنين 17 ماي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بتطوان، بحضور جمهور غفير من الاساتذة والطلبة، وكذلك بتدخل مجموعة من الاساتذة الذين أشادوا بالمناقب العلمية للرجل. ولقد اخترنا في "بريس تطوان" تقديم الكلمة والشهادة التي قدمها الدكتور محمد مشبال والمتميزة في حق زميله نزار التجديتي والتي كانت متميزة بزاوية معالجتها وبلغتها السلسة والراقية. في مبنى مكاتب الأساتذة بكلية الآداب بتطوان يوجد مكتب رقم 13 كتبت على بابه أسماء ثلاثة أساتذة زملاء : الدكتور محمد أنقار رحمه الله، والدكتور نزار التجديتي أطال الله في عمره، ومحمد مشبال. سمات مشتركة عديدة جمعت هؤلاء الأساتذة في مكتب واحد: نشأتهم في مدينة واحدة، انتماؤهم لشعبة واحدة، شغفهم بالكتابة وبالبحث منذ فترة مبكرة من حياتهم، انفتاحهم على النقد الغربي الحديث، اهتمامهم بالآداب القديمة والحديثة، وخاصة بأنواع أدبية مهمشة في الدرس الجامعي: السيرة والرحلة والخبر والنادرة وقصص الأطفال والرواية الاستعمارية. باختصار، إن السمة المشتركة التي وحّدت هؤلاء في هذا المكان هي إيمانهم بأن وجودهم في هذه المؤسسة يتجاوز الوظيفة التعليمية إلى وظيفة أخرى وهي المشاركة في بناء هوية ثقافية للمؤسسة والمدينة اللتين ينتميان إليهما؛ وهو بناء قائم على الاختلاف والتنوع في التصورات. فإذا كان محمد أنقار بنى مقاربته للنص الأدبي بالاستناد إلى وعي جمالي دقيق بصناعة الأجناس الأدبية سواء في تحليله لقصص الأطفال أو للنصوص المسرحية أو في تحليله لصورة المغرب في الرواية الاستعمارية الإسبانية، فإن نزار التجديتي بنى مقاربته على مفاهيم السيميائيات؛ فهو من جيل الثمانينات الذين سافروا إلى فرنسا وأخذوا تكوينهم العلمي من جامعاتها في فترة توهج المناهج النقدية الجديدة. بيد أن ما كان يميزه عنا بل وعن الباحثين في الحقل الأدبي بالمغرب بشكل عام، أمران جعلا منه باحثا متفردا، بل أقول سبّاقا إلى رسم ملامح صورة الناقد التي تستجيب لشروط الفترة التي تجتازها الثقافة الإنسانية بشكل عام: 1. الأمر الأول هو أن نزار انشغل منذ بداياته الأولى بالخطاب المرجعي (السيرة والرحلة والخبر..) ولم يستحوذ على عقله ووجدانه الخطابُ التخييلي ولم يُعل من شأنه أو يمنحُه الأولوية التي كانت تمنح له؛ وبناء عليه لم تشغله الأسئلة النقدية التي شغلت نقاد الأدب من قبيل الأدبية والصورة الجمالية والبلاغة الأسلوبية والجنس الأدبي والتخييل.. هذا الانشغال ظهر في كتاباته المبكرة مثل دراسته عن ابن قتيبة. فنحن أمام باحث ساهم بشكل ما في إعادة صياغة مفهوم الأدب في حقل الدراسات الأدبية وشعب الآداب العربية. 2. الأمر الثاني، وهو مرتبط بالأول، أن نزار لم يقدم ذاته في المجتمع الأدبي العربي باعتباره ناقدا أدبيا بالمعنى السائد لهذا المفهوم، بل يمكننا القول إن ممارسته النقدية أقرب إلى مفهوم الدراسات الثقافية أو الدراسات البينية؛ فهو ناقد يهتم بسيرة المؤلف وبالسياق التاريخي بالقدر نفسه الذي يهتم بالحفر في النص موضوع الدراسة حفرا فيلولوجيا وبلاغيا وسيميائيا. هذان الأمران علامتان شكلتا الصورة الذاتية للأستاذ نزار التجديتي في فضاء كلية الآداب؛ فهو زميل للمشتغلين بالأدب بمعناه التخييلي، مثلما هو زميل للمشتغلين بالتاريخ والبحث الجغرافي، وزميل للمشتغلين بالأدب المقارن والاستشراق. إنه أستاذ عابر للشعب واللغات. كتاباته ومجلته سيميائيات ومشروعه عن صورة الآخر وجوهٌ لهذا التعدد في شخصيته العلمية. وإذا كانت هذه السمة لم تساعده في البداية في ترسيخ صورته الذاتية في الساحة الأدبية المغربية لهيمنة الاهتمام بالأجناس التخييلية ومناهج النقد الأدبي، في مقابل تهميش الأجناس المرجعية وأشكال الممارسة النقدية المنفتحة على العلوم الإنسانية، فإن هذه السمة ذاتَها تجعله اليوم يفوز بجائزة المغرب للكتاب؛ وفوز هذا الكتاب – في تقديري- ليس فوزا لقيمته العلمية والأكاديمية فقط، ولكنه فوز لتوجّه علمي بات مطلوبا في الثقافة الأدبية المعاصرة؛ فقد قلت في إحدى مقالاتي المنشورة مؤخرا في العدد الأخير من مجلة "الثقافة الجديدة" المصرية عن البلاغة قولا يصدق على ما صنعه نزار التجديتي طوال مسيرته العلمية: " حاجتنا اليوم للبلاغة في صورتها الجديدة، تتطلبها مقتضيات ثقافية وتعليمية وإعلامية واجتماعية؛ فلا أحد يستطيع أن ينكر اليوم أن نقد الأعمال الأدبية لم تعد له تلك الحظوة خارج أسوار المدرسة والجامعة، بل إن البحوث الأكاديمية نفسها في أقسام اللغات في عديد من الجامعات العربية شرعت تتجه بقوة لافتة نحو الاهتمام بالخطابات الاجتماعية والسياسية والدينية والتاريخية وكتابات الذات من رحلات ويوميات وسير ذاتية وغيرها من الأنواع المرجعية والتداولية؛ مما يفرض علينا اليوم أن نعيد النظر في مفهوم الأدب الذي حُصِر في الكتابات التخييلية. هذه الخريطة الأدبية الجديدة تجبرنا على إعادة النظر في تصورنا للإبداع بمنأى عن أي مفاضلة غير علمية بين أنواع الخطاب التي ينتجها الإنسان في هذا العالم، مثلما تجبرنا على أن نعيد للبلاغة مكانتها اللائقة بها. " في ضوء هذه البلاغة الرحبة ينبغي تقدير كتابات نزار التجديتي الذي لم ينطلق أساسا من مفاهيمها حتى وإن استخدمها أحيانا؛ لكنه يلتقي بها لأنه سيميائي يستوعب في تحليله كل الخطابات التي يمكن أن تدرسها البلاغة من منظور حجاجي. ولأجل ذلك كانت لدي الثقة الكاملة في أن كتابه سيفوز بأي جائزة تقدم لها؛ لأنه عصارة جهد سنوات من العمل المضني؛ فنزار منذ سنوات التحصيل العلمي الأولى في المرحلة الثانوية كان تلميذا نجيبا تميز بشغف القراءة والتردد على المكتبات العمومية الفرنسية والعربية، وحتى بعد عودته من فرنسا والتحاقه بكلية الآداب أستاذا، عكف على القراءة والكتابة، وإن كان ما نشره حتى الآن لا يعبر تعبيرا حقيقيا عن الإمكانات العلمية التي يحوزها باقتدار. لكن ينبغي أن نضع في الحسبان أن نزار التجديتي لا يكتب لكي ينتشر، ولا يكتب ليفوز بالجوائز؛ هو يكتب ليساهم في بناء المعرفة، والكتابة تستغرق منه وقتا طويلا في التوثيق والتحليل الموسع والدقيق؛ فلا أعرف لنزار مقالة خفيفة الوزن؛ كل مقالاته يمكنها أن تشكل كتيبات صغيرة. لم يكن نزار التجديتي من دائرة أصدقاء الطفولة أو الشباب، لكني سمعت اسمه مرارا يتردد على ألسنة التلاميذ. ولأنني مجبول على حب المجتهدين، فإنني كنت كلما رأيته من بعيد أرمي بنظري إليه وكأنني أقرأ مظاهر التفوق في ملامح جسده. عندما التحقت بكلية الآداب علمت من صديق مشترك بعودته من فرنسا وتمنيت أن يلتحق بكلية الآداب لنشكل مجموعة علمية تنهض بهذه الكلية الفتية. تأخر تعاوننا العلمي، لأن الرجل كان مهموما بقضايا لم أكن قادرا على مجاراته فيها؛ قضايا تتجاوز الأدب بالمفهوم الذي دشنت به حياتي العلمية. كما أنه لم يكن مهموما بقضايا نظرية مجردة كتلك القضايا التي استحوذت على اهتمامي في إعادة بناء البلاغة؛ فالسيميائيات بالنسبة إليه ليست موضوعا يفكر فيه، ولكنها أداة يتمثل بها موضوعات إنسانية وتاريخية وسياسية. وهذه مزيّة أخرى تحسب لهذا الباحث لمن أراد أن يتأمل تجربته. لم نقترب إلاّ عندما انفتحتُ على بلاغة الخطابات التي كانت انشغالَه منذ البداية، وشرعت في تنظيم ندوات علمية شارك فيها جميعِها تقريبا. في هذه المرحلة اقترب مني وأصبح من قراء كتبي؛ فتأكدت أن البلاغة تمكّنت منه؛ وهذه سمة رجال العلم الحقيقيين التي يجسدها كبار الأساتذة بالجامعات المرموقة. فنزار السيميائي المغربي يساهم بمنظوره العلمي وصوته الفريد في إغناء البلاغة الرحبة. هذا هو الموقف الذي ينبغي أن نسلكه في جامعاتنا عندما نواجه أفكار الآخرين. بعد أعوام قليلة، سنغادر كليتنا كما تقتضي سنة الحياة وسنسلّم مفاتيح مكاتبنا لغيرنا ليواصل المسير. ولكن ذاكرة هذه المؤسسة لن تنسى اسم نزار التجديتي بكتاباته وترجماته ومناقاشاته وتأطيره العلمي؛ فهو أحد صنّاع الهوية العلمية لكلية الآداب بتطوان. نسأل الله أن يُنعم عليه بالصحة وطول العمر حتى يحقق كل ما يتطلّع إليه في حياته العلمية والشخصية.