كثيرة جدا هي الأفلام السينمائية التي عرضت على شاشة مسرح إسبانيول، يتعذر على الباحث تجميعها كاملة، وتوثيقها كرونولوجيا نظرا لصعوبة العثور أولا على أعدادها الهائلة التي تعد بالآلاف خلال هذه المدة الزمنية الطويلة التي مرت على حياة مسرح إسبانيول (94 سنة)، وثانيا لقلة المصادر التي أشارت إليها وسجلتها بين صفحاتها. فباستثناء الصحف والمجلات المنشورة باللغة الإسبانية خلال عهد الحماية لا يلقى الباحث أي كتاب أو مصدر آخر جمعها بين دفتيه.
وتعتبر – في رأينا – الفترة الممتدة ما بين 1923 إلى 1983 هي فترة الخصوبة، وفترة الإقبال بصورة واسعة على مشاهدة الأشرطة السينمائية من قبل جمهور تطوان، حيث عرف مسرح إسبانيول رواجا ونشاطا غير محدودين باعتباره محتضنا لفني السينما والمسرح السائدين خلال تلك الفترة كوسيلة لترفيه ساكنة المدينة وتثقيفها، وذلك قبل بدء التقاط برامج التلفزيون الإسباني في منتصف الستينيات. وابتداء من هذه الفترة، أي منتصف الستينيات، سيظهر أول تراجع نسبي – وإن كان بنسبة قليلة - عن ولولج قاعات السينما بمدينة تطوان. ثم بظهور أشرطة الفيديو في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات ستتزداد نسبة التراجع. أما بعد اكتشاف وسائل التكنولوجيا الحديثة وبروز هيمنة الإنترنيت في بداية الألفية الجديدة فستتضاعف النسبة، وسيتفاقم الوضع. وسيجد أصحاب القاعات السينمائية أنفسهم مضطرين إلى الإعلان عن إفلاسهم وبالتالي إقفالهم العديد من القاعات في سائر المدن المغربية... ورغم الدعم الحالي من المؤسسات الرسمية فإن آفاق هذا القطاع صارت تنبئ - بقلق– أنه أشرف على الاضمحلال بل وعلى الرحيل نهائيا.
إذا كانت مدينة تطوان قد توفرت في عهد الحماية على ما يقرب من سبع قاعات مغطاة، ثلاث منها تجمع بين العرض المسرحي والسينمائي (المسرح الوطني[1]، ومسرح إسبانيول، ومسرح مونومنطال)، وأربع خاصة بالعروض السينمائية فقط (سينما أبينيدا Avenida، فيكتوريا Victoria، ميسيون Mision، والمنصور) علاوة على أربعة فضاءات سينمائية صيفية (بارك[2] "Park"–باهيا "Bahia"– مرحبا "Marhaba"– وطيراسا "Terrasa"). كان المجموع آنذاك أحد عشر فضاء، لم يبق منها مفتوحا في وجه الجمهور للأسف سوى قاعتين: (مسرح إسبانيول وسينما أبنيدا) اللتين تصارعان اليوم آفة التوقف والاختفاء، والهدم والانقراض. وصار التشاؤم يغلب على مسارهما ومستقبلهما أكثر من التفاؤل بالبقاء والاستمرار. كما باتت المصاريف الكثيرة أمام ضعف المداخيل تؤرق مالكهما السيد الحسين بوديح.
تجدر الإشارة إلى أن الأشرطة التي قدمها مسرح إسبانيول ما بين 1923 إلى 1929 كانت صامتة، وكان الاهتمام بها واسعا. أما بعد 1930 فأُحْدِثَ تطور في الإنتاج السينمائي حيث صار المُشاهد يرى الصورة مقرونة بالصوت. ومنذ الأربعينات بدأت تصل الأفلام الملونة الأولى التي صار الإقبال عليها كبيرا.
وإذا كانت مسرحية "كريسطالينا" هي أول عرض مسرحي قُدِّمَ على خشبة إسبانيول في حفل التدشين (الأحد 25 نوفمبر 1923)، فإن أول شريط سينمائي صامت تم تقديمه على شاشة هذا المسرح[3] كان بعنوان El signo del Zorro (علامة الثعلب). بطولة Douglas Fairbanks، وذلك يوم العاشر من شهر دجنبر 1923 أثناء انطلاق برنامج افتتاح الموسم السينمائي الأول الذي نظمته الشركة المشرفة على المسرح.
أما أول فيلم ناطق بالإسبانية من بدايته إلى نهايته فعنوانه : El cuerpo del delito (جسد الجريمة) تم عرضه بمسرح إسبانيول يوم الثلاثاء 11 نوفمبر 1930[4] بطولة: Antonio Moreno، Maria Alba، Ramón Pereda، Andrés de Segurola وBarry Norton، فيلم من إنتاج الشركة الأمريكية Paramounth.
إن أضخم نسبة من الأفلام التي عرضت على شاشة مسرح إسبانيول هي من إنتاج أمريكي. وهذا طبيعي بحكم سيطرة شركات هوليود على الصناعة السينمائية العالمية، وعلى التوزيع، تليها إنتاجات أوربية (إسبانية- إيطالية- فرنسية- إنجليزية- ألمانية- نمساوية- روسية...)، وأمريكية لاتينية (مكسيكية - أرجنتينية – برازيلية...) ثم فيما بعد إنتاجات هندية وعربية، منها إنتاجات مغربية... وقليل جدا ما وصل من إنتاج ياباني أو كندي أو أسترالي...
وفي الثلاثينيات خلال عهد الحماية سيفاجأ الجمهور التطواني بتقديم مسرح إسبانيول شريطا مصريا باللغة العربية تحت عنوان "سلمى" – لم يشر إليه الباحثون والمهتمون بموضوع السينما بتطوان - وهو في اعتقادنا من أوائل الأفلام العربية الأولى المقدمة على شاشة هذا المسرح الكبير – قبل أن تظهر الأفلام المصرية بسينما المنصور وفيكتوريا أوائل الخمسينيات –. وقد اهتمت به الصحف الوطنية المحلية كجريدة الريف التي كانت تنشر على صفحات أعدادها، أخبار هذا الفيلم مُحفِّزة الجمهور على الذهاب لمشاهدته وحضور متابعة أحداث فرجته. وفي سنة 1938 قُدم فيلم "حلاق إشبيلية" (El barbero de Sevilla) الذي استمر عرضه مدة طويلة بمسرح إسبانيول، ونال شهرة واسعة منذ سنة 1938. وهو فيلم غنائي هزلي، حَظِي جمهور تطوان بمشاهدته يوم السبت 30 أبريل 1938، وأعيد عرضه عدة مرات في الأربعينات والخمسينات، وقد نجح الممثل Miguel Ligero أن يثير الجمهور بأدائه الكوميدي. كما نجح مخرج الفيلم Benito Perojo بإتاحته للممثل الكوميدي صلاحية واسعة، وحرية غير مقيدة، ترفع من انسياب عمله التمثيلي، وتكشف عن مدى قدراته الفائقة على إضحاك الناس، وإسعادهم. وشاركت الفنانة الوفية Estrellita Castro تلميذة Imperio Argentina التي ورثت عن هذا الفنان تعبيراته، وحواراته القائمة على السخرية اللاذعة، الممزوجة بالأداء الغنائي الأوبرالي... وتجلى مشهدها الرائع في الفيلم أثناء ندائها على من يشتري وردها.. أما الممثل Roberto Rey المتقمص لشخصية الحلاق فأبدى روعة بذكائه وتعبيره الساخر الماكر. إخراج متميز، وعمل تقني لا يستوجب أي عتاب أو مؤاخذة بل يستوجب الشكر والتهنئة. عملية الإخراج، والتصوير، تمت بكامل الدقة. أما التأليف الموسيقي فكان بارعا للعبقريWalter Sieber الذي قام بتوزيع واختيار مقطوعات Rossini الموسيقية المتعددة التي تناسب المقام. فيلم "حلاق إشبيلية" شَكَّلَ نجاحا عظيما بمسرح إسبانيول، كل شيء تم بامتياز وعلى أكمل وجه، وإذا طُلب من الجمهور – تقول جريدة لاكازيطا في عددها 2379[5] – اختيار أفضل عنصر في هذا الشريط السينمائي - بدون شك - ستحظى بالريادة الفنانة "Estrellita" لأدائها الساحر ولصوتها الرائع خاصة حين غنت أغنية الزهور وهي تطوف بشوارع إشبيلية الدافئة.
و"حلاق إشبيلية" - قبل أن يتحول إلى فيلم سينمائي - هو في الأصل مسرحية، ثم أوبرا غنائية كوميدية ذات فصلين، تعد من الأعمال الفنية العالمية لبومارشي، عرضت بشتى مسارح العالم، منذ عرضها الأول سنة 1816. تدور أحداثها حول قصة حب بين الشاب "الكونت ألمافيفا" Almaviva، والشابة "روزينا"Rosina ، يرغبان في الزواج لولا أن الوصي على "روزينا" وهو "بارطولو" طمع في أموالها وأراد بدوره الزواج منها. وهنا يظهر الحلاق "فيكارو"، وهو رجل سليط اللسان، سيتمكن من إفشال مخطط بارطولو. وينتهي العمل الفني نهاية سعيدة بانتصار الحب وزواج الحبيبين. ويجب التأكيد على أن جميع الأفلام السينمائية الناطقة كانت تقدم خلال عهد الحماية باللغة الإسبانية. وقبل بداية الستينيات سيقع تحول، حيث ستبدأ دبلجة الأفلام الوافدة على منطقة الشمال المغربي باللغة الفرنسية. كما يجب التذكير بأن عددا مهما من كبار نجوم السينما العالمية زاروا مدينة تطوان زيارة سياحية أو زيارة من أجل تصوير لقطات من مشاهد بعض الأفلام التي أنجزت بالمدينة. وكانت تطالعنا الصحف اليومية المحلية المنشورة باللغتين العربية والإسبانية بين الحين والآخر بأخبار قدومهم إلى العاصمة الخليفية، من هؤلاء النجوم: الممثلة الأمريكية Rita Hayworth التي نزلت بفندق ناسيونال[6] كما تفيد جريدة يومية "إفريقيا" في عددها 847[7]. والممثلة المكسيكية Maria Felix التي حلت كزائرة سياحية رفقة عدد من الشخصيات السينمائية الإسبانية من بينهم المنتج المعروف Cesareo González[8]. وزار تطوان الممثل الأمريكي Victor Mature بطل عدة أفلام هوليودية كفيلم "أنيبال Anibal" و"سمسون ودليلا Samson y Dalila" اللذين عرضا على شاشة مسرح إسبانيول. وشارك في تصوير فيلم "زاراخان" للمخرج "طرينسي يونغ Terence Young" سنة 1955 بتطوان وضواحيها، وقد ساهمت إلى جانبه في هذا الفيلم أيضا الممثلة السويدية الأصل Anita Ekberc، والممثل الأنجليزي مايكل ويلدينك Maichael Wilding، هذا الأخير كان مصحوبا بزوجته نجمة السينما العالمية إليزابيث تايلور[9] Elizabeth Taylor حيث أقاما بفندق درسة بتطوان. وكان سفرهما عبر الجو من لندن إلى طنجة، ومن طنجة برا إلى تطوان. وقد اهتمت الأوساط المحلية بالفنانة إليزابيث فانتظرها عشاقها وعدد كبير من المهتمين بالفن السابع ونخبة من الصحافيين عند مدخل فندق درسة أثناء وصولهما إلى تطوان يوم الأحد ليلا 20 نوفمبر 1955[10]. وفي التاسع والعشرين من شهر نوفمبر 1955 شرفت الممثلة السينمائية العالمية "إليزابيث تايلور" جمهور تطوان بقبول حضورها في حفل أقيم بمسرح مونومنطال من أجل المشاركة في تقديم بعض الهدايا والمساعدات المتبرع بها على المنكوبين بمدينة مالقا الإسبانية.
أما الشركات السينمائية الإسبانية بفنانيها ومخرجيها ومنتجيها فكانت لا تفتر عن زيارة عاصمة الشمال للبحث عن مواقع جذابة ومناظر خلابة من أجل التقاط مشاهد مثيرة لإنتاج أفلامها. وفعلا تم إنتاج عدد كبير من الأفلام، حيث يذكر المرحوم الأستاذ محمد الدحروش في مقاله المنشور بمجلة دفاتر مهرجان تطوان الدولي لسينما بلدان البحر الأبيض المتوسط[11] أسماء بعض الممثلين والممثلات الذين شاركوا في أفلام صُوِّرَت بمدينة تطوان وشفشاون والعرائش وغيرها من مناطق شمال المغرب، منهم: Alfredo Mayo - Antonio Casal - Julio Peña - Amarito Revelles Rafael Durán - Josita Hernan - Miguel Ligero - Roberto Rey
ومن المفاجآت اللطيفة أننا وقفنا في بحثنا على فيلم إسباني من إنتاج شركة Cumbre Films قامت بإعداده جمعية هاوية تطوانية غير محترفة تهتم بالسينما إخراجا وتمثيلا وإنتاجا. وتم عرضه بنجاح لأول مرة على مسرح إسبانيول يوم الخميس 12 نوفمبر 1931 بعنوان: "El Merendero de los Duendes"[12]. وقد استقبل أيضا مسرح إسبانيول منذ منتصف الثمانينيات عددا كبيرا من نجوم الفن السابع لدول البحر الأبيض المتوسط، سواء من مصر أو تونس أو إسبانيا أو فرنسا أو إيطاليا...، وبعد أن تبارت أفلامهم، ونجحت عروضهم الفنية وقفوا على ركحه لتسلم الجوائز والشهادات التقديرية من يد بعض الشخصيات المغربية المدعمة لمهرجان تطوان السينمائي الدولي، في مقدمتهم وزراء الثقافة والإعلام المغاربة. هذا المهرجان الذي تُشْرِف على تنظيمه جمعية أصدقاء السينما ما زال حيا يقام خلال فصل الربيع من كل سنة.
إن الإقبال على مشاهدة الأفلام السينمائية، للأسف الشديد، لم يعد كما كان بالأمس، ورغم أن سينما إسبانيول مفتوحة أبوابها كل يوم، فنسبة مرتادي الفن السابع قليلة جدا، إن لم نقل شبه منعدمة. وهذا يحتاج إلى
إعادة النظر والبحث عن الحلول في موضوع كيفية استغلال هذه المعلمة، والعمل على صيانتها باستمرار، كي تحافظ على جماليتها لأجيال المستقبل كواحدة من أهم بنايات السينما والمسرح في المغرب.
[1] - هو مسرح الملكة فيكتوريا أو مسرح المصلى القديمة. [2] - "بارك" هو بالضبط القطعة الأرضية التي شيد عليها مسرح إسبانيول، واستغلت كفضاء لتقديم الأفلام السينمائية الصامتة ما بين 1919 و1923، قبل بناء المعلمة الفنية. [3] - El Eco de Tetuán، 8 دجنبر 1923، العدد 3265. [4] - La Gaceta de África، العدد 97، السنة الأولى. [5] - الصادر يوم فاتح ماي 1938. [6] - فندق ناسيونال أو الوطني فتح أبوابه لأول مرة في بداية الثلاثينيات، ويعتبر من أهم فنادق مدينة تطوان منذ عهد الحماية، نزلت به عدة شخصيات فنية ورياضية وسياسية وثقافية... يحتل موقعا هاما بشارع محمد الطريس. وأقيمت بصالوناته عدة حفلات من قبيل الاستقبال والتكريم والتوديع للعديد من كبار أقطاب الفن والرياضة والسياسة والأدب والصحافة... [7] - بتاريخ يوم الأربعاء 25 غشت 1948. [8] - كما تؤكد ذلك جريدة "يومية إفريقيا" في عددها 913 الصادر بتاريخ الأربعاء 10 نوفمبر 1948 (السنة السابعة). [9] - إليزابيث تايلور لم تشارك في فيلم "زاراخان" وإنما رافقت زوجها ويلدينغ كسائحة إلى مدينة تطوان سنة 1955. [10] - جريدة يومية "إفريقيا" العدد 3101، الثلاثاء 22 نوفمبر 1955. [11] - الدورة الحادية عشر، العدد الثاني، السنة 2001. [12] - "حانة العفاريت".