بمناسبة ذكرى مرور 94 سنة على تدشين مسرح إسبانيول بتطوان (1) -25/11/1923 – 25/11/2017 -
كان حفل التدشين يوم الأحد 25 نوفمبر 1923، حين استطاع أصحاب المشروع تحقيق إنجازهم، والوفاء لالتزامات وعودهم بالانتهاء الكلي من جميع الأشغال - في ظرف زمني قصير جدا لا يتعدى سنة وبضعة أشهر - رغم صعوبات توفر الوسائل والمواد الضرورية والمعدات المختلفة لتشييد مثل هذه المعلمة الفنية الكبرى آنذاك، وكان هذا دليلا على أول نجاحهم، وتحقيق طموحهم نحو المستقبل.
هكذا، وعلى الساعة العاشرة ليلا افتتح مسرح إسبانيول أبوابه لأول مرة في وجه أول جمهور تطواني يلجه. ووقف في بهو المكان – كما تذكر جريدة الإصلاح – مالك المؤسسة الفنية الأول "دوروطيو دي كارلوص Doroteo de Carlos"، والمهندس "خوصي غوطييرز ليسكورا José Gutierrez Lezcura"، ومعهما "خوصي كونطريراس José Contreras" أحد المساهمين الرسميين في المشروع، يستقبلون ببشاشة وزهو الشخصيات الرسمية المدعوة لهذا الحفل في مقدمتهم: المقيم العام وقتئذ الجنرال "لويس أيسبورو موندخار Luis Aizpuru Mondejar"[1] وكافة كبار الموظفين الإسبان من عسكريين ومدنيين.
حضر باشا المدينة محمد الحاج[2]، صحبة قائد المشور مصطفى بن يعيش، ومدير الأحباس علي السلاوي، والمكلف بالوزارة العدلية الحاج محمد أفيلال، وكُتَّاب رئيس الوزراء (الوزير الصدر)[3] السادة: أحمد الغنمية، وأحمد الحداد، وغاب عنهم الفقيه محمد الزواقي لاعتلال صحته...
كما حضر الحفل حشد كبير من سكان مدينة تطوان على اختلاف طبقاتهم وإثنياتهم وعقيدتهم، مما جعل رحاب المسرح تضيق بأفواج الوافدين التي كانت تربو على الألفين. من العائلات التطوانية المغربية التي اقتنت التذاكر قبل أيام من عرض الافتتاح نجد حضور اسم عائلتي "اللبادي" و"الفاسي" في اللوائح الأولى بين الأسماء الإسبانية المنشورة بجريدة "صدى تطوان" في عددها 3251، مما يدل على أن الاهتمام بالمسرح لم يكن محصورا فقط في أفراد الجالية الإسبانية والطائفة العبرية بل حتى المغاربة المسلمين كانوا يقبلون - وإن بنسب قليلة – على هذا النشاط ويشاركون فيه.
اقتعد الجميع يوم الافتتاح مقعده في انتظار العرض المسرحي الأول المقدم للجمهور من اختيار وترتيب شركة "دي كارلوس De Carlos" صاحبة المبادرة. ورفعت الأستار الحريرية الفاخرة المصنوعة بمصانع مدينة فالنسياValencia مُعلِنة - لأول مرة - عن بداية السهرة التمثيلية.
حمل عنوان العرض "كريسطالينا" "Cristalina"، كوميديا درامية من تقديم "المجموعة الإسبانية للتمثيل التابعة "للأخوين "كينطرو Quintero"، تتقدمها الممثلة الكبيرة "ماريا كامز Maria Gamez" المجيدة الأداء والبارعة الجمال، تشاركها الممثلة المقتدرة "أديلا كاربوني" "Adela Carboné" التي أتحفت الجمهور أيضاً – رفقة سائر الممثلين والممثلات– بإتقان دورهم وتحقيق الفرجة الممتعة والمثيرة لمتتبعيهم.
بعد انتهاء الحفل خرج كل متفرج منبهراً، ومشدوهاً بما رأته عينه من روعة البناء وإتقانه، وما حوته جوانبه من أبهة وفخامة، وما استمتع به من جمال التعبير الفني المسرحي، وجمال الأداء الحركي، شاكراً القائمين على هذه الشركة التي أكسبت تطوان معلمة فنية فاخرة، وبوأتها شأوا متميزا ثقافياً وفنياً عن سائر مدن الشمال، ولم لا القول عن سائر مدن المغرب إبان تلك المرحلة؟ وبات المتتبعون لفن المسرح والسينما من المغاربة والإسبان ينتظرون ويترقبون بلهف وشوق كبيرين العروض المقبلة. وصار اسم "مسرح إسبانيول" يتردد ذكره على ألسنة ساكنة المدينة عامة، وعلى صفحات جرائدها وجرائد المنطقة. وكذا على جرائد ومجلات المدن الإسبانية. ومنذ هذا التاريخ 25 نوفمبر 1923، أصبح لتطوان مسرحان: "مسرح الملكة فيكتوريا" الصغير[4] المشيد سنة 1914، وهذا المولود الفخم "مسرح إسبانيول".
لقد شكل حفل التدشين حدثاً بارزاً في تطوان، وتلقت الطوائف المتعايشة بالمدينة الخبر باهتمام كبير، وتجاوبت معه تجاوباً فنيا واحتفاليا في وقت كانت أحواز عاصمة الشمال ما زالت تعرف زحف مقاومة وطنية شرسة، مُهدِّدَة بين الحين والآخر المدينة التي يقيم بها الاحتلال إداراته، وسلطاته، وثكناته العسكرية، يقودها بإيمان ثابت الريفيون والجبليون بقيادة الزعيم الكبير محمد بن عبد الكريم الخطابي بعد اكتساحهم لعدد من المواقع القريبة جدا من العاصمة الخليفية، محققين انتصارات عظيمة.
ورغم هذه الظروف المقلقة، والأجواء غير المستقرة بالمنطقة، قصد أهالي تطوان من مثقفيها وسائر طبقاتها المسرح الجديد يحدوهم الفضول لمباركة العمل الفني الكبير، والامتزاج في أحضانه... ناسين أو متناسين العمل الجهادي الذي انطلق منذ أوائل دخول الاستعمار لمناطق شمال المغرب، ولم يعرف الهدنة إلا في حدود سنة 1927 باعتراف إسبانيا نفسها. وابتداء من هذه السنة سيتنفس الإسبان الصعداء وسينعمون بقدر من الاستقرار الكافي الذي سيدفعهم إلى توسعة المدينة الأوربية "الإنسانتشيEl Ensanche" وتمدينها وتحديثها حسب الاستراتيجية الكولونيالية. ومن هنا يطرح التساؤل التالي: لماذا بناء هذه المعلمة الفنية الكبرى، في هذا الوقت المبكر من تاريخ دخول الحماية الإسبانية منطقة الشمال بمبالغ مالية ضخمة، في فترة احتدم فيها الصراع، وتصاعدت فيها المقاومة بين صفوف المغاربة ضد الاستعمار؟. هل كانت المدينة غير مؤهلة لمثل هذا التشييد الفني العظيم؟ أم أن الأمر يعود بالدرجة الأولى إلى الإقبال المتزايد الذي سيعرفه فن المسرح آنذاك من عشق كبير لدى ساكنة تطوان بشتى أطيافها (مغاربة وإسبان وإثنيات أخرى) مما جعل بنية مسرح الملكة فيكتوريا الضيقة لا تستطيع أن تستوعب الأعداد المتزايدة من المعجبين بهذا الفن الرفيع يوما بعد يوم. لقد سعى أصحاب شركة الاستثمار الفني إلى إقامة مسرح عظيم يليق بعاصمة الحماية الإسبانية حسب ما أوردته صحف تلك المرحلة، خصوصاً حين بدأ يضيق فضاء أول مسرح مشيد بالمصلى القديمة بتطوان، وعدم قدرته على استيعاب الأعداد المتزايدة من المتفرجين بعد مرور تسع سنوات على إنشائه. ولعل مدينة تطوان كانت خلال تلك الفترة تعرف نمواً مضطرداً للسكان بفعل تدفق هجرات الإيبريين نحو مدن الشمال المغربي بإذن وتشجيع سلطات الحماية والمستثمرين الإسبان، وبفعل هجرات بعض أهالي القرى المجاورة التي كانت مناطقها غير آمنة بسبب مواجهة المقاومة الجبلية للمستعمر. واختارت شركة دي كارلوس De Carlos بأن يكون البناء المعماري مطابقا لمواصفات مسرح "الملكة فيكتوريا Reina Victoria" الشهير بمدريد. ومنذ انطلاق الأشغال الأولى لبناء مسرح تطوان العظيم تضاربت الأقوال الصِّحافية حول الاسم الذي سيحمله، بين "مسرح إسبانيول" أو "مسرح ألفونصو"[5]. ويعلن الصحافي "خوصي بونيط طاسي José Bonet Tassé" في مقال نشره بعنوان: "مسرح تطوان الجديد" بجريدة "شمال إفريقيا El Norte de África"، "بأنه ليس هناك حَسمٌ نهائي في اختيار اسم المسرح الجديد"، مضيفاً "... وما يروج الآن من إشاعات هو كون المقيم العام الإسباني سوف يُدعى لاختيار اسم المسرح". وبعد اكتمال البناء تمت تسميته ب "مسرح إسبانيول" لما يحمله الاسم من دلالات استعمارية عميقة. وبرزت عناوين كبيرة في الصحف المحلية بمناسبة حلول موعد حفل التدشين، تُمجّد وتهيب بعمل إدارة الحماية الهادف حسب قولها إلى تطوير مدن المنطقة، والدفع بها إلى الرقي والتحضر، من ذلك مقال بالواجهة: "دلالة هذا العمل" "Lo que este significa" المنشور يوم الافتتاح بجريدة شمال إفريقيا ومن هذه العناوين أيضا: "La Brillante inauguración del Teatro Español de Tetuán". "التدشين الرائع لمسرح إسبانيول بتطوان"، المنشور بصحيفة صدى تطوان في عددها 3254 أو : "La Construcción del nuevo teatro de Tetuán... " "بناء مسرح تطوان الجديد". عنوان نشر قبل التدشين بجريدة صدى تطوان أيضا. ومن خلال هذه العناوين ندرك المغزى الذي استند إليه الإسبان من أجل توسيع المدينة الأوربية (El Ensanche)، فقد كانوا يسعون بالفعل إلى جعل تطوان عاصمة رسمية لإدارة الحماية بالمنطقة الخليفية تحفل بالمباني والملاهي الفاخرة، ولا يجد فيها الإسباني المُعَمِّر سوى المتع الثقافية والفنية والرياضية المختلفة، وكل وسائل الترفيه والنشاط كما هو الحال في عواصم الأقاليم الإسبانية حتى يسهل عليه الاستقرار والاستيطان. كما يذكر الأستاذ رضوان احدادو فيما نشره عن موضوع "ذاكرة الشمال المسرحية" إذ يقول: «إننا نعرف، أن ما شيده الإسبان من مسارح بشمال المغرب قبل إبرام عقد الحماية بعقود زمنية، لا يمكن أن ننظر إليه ببراءة مجردة، وإنما كان لغايات متعددة، أهمها خدمة الجالية الإسبانية بتوفير كل وسائل الترفيه والتسلية قصد تحبيب الاستقرار لها في (أرض إفريقية)، والتكيف مع أجوائها، وعدم الإحساس بالغربة في انتظار الاستيطان الكبير...الاستعمار الرسمي القادم».
يتبع
[1] - تولى منصب المقيم العام من 13 شتنبر 1923 إلى 16 أكتوبر 1924. [2] - تذكر بعض المصادر الصحفية المنشورة باللغة الإسبانية مثل جريدة "شمال إفريقيا"، أنه كان من المقرر تدشين مسرح إسبانيول في شهر أكتوبر، ولكن وفاة الخليفة مولاي المهدي بن إسماعيل يوم 24 أكتوبر 1923 جعل الحفل يتأخر إلى شهر نوفمبر من نفس السنة، لذلك نلاحظ حضور الباشا محمد الحاج عوض الخليفة الراحل. [3] - كان رئيس الوزراء أو الوزير الصدر خلال فترة تدشين مسرح إسبانيول هو السيد أحمد الركينة الذي عين مكان محمد بن عزوز في بداية العشرينيات، ولم تطل مدة توليته في هذا المنصب، فقد توفي في شهر شتنبر 1924، ليعود ابن عزوز من جديد للصدارة. [4] - تم بناء مسرح المصلى القديمة سنة 1914 وكان أول بناية خاصة بالمسرح عرفتها تطوان، حمل في البداية اسم الملكة فيكتوريا Reina Victoria، ثم خلال عهد الجمهورية سمي بالمسرح الوطني Teatro Nacional. وعامة أهل تطوان يطلقون عليه مسرح لونيطا Luneta أو مسرح المصلى القديمة نسبة إلى الشارع أو الفضاء الذي بني فيه. وأطلق عليه شباب المدينة "البالي" (القديم)، كما يذكر ذلك الكاتب محمد أنقار في روايته "باريو مالقة"، ص: 192. وازدهرت بهذا الفضاء الحركة الفنية خلال عهد الحماية من خلال العروض الثقافية والأنشطة الفنية المقدمة على خشبته سواء من طرف هيئات وجمعيات إسبانية أو مغربية. [5] - ألفونصو الثالث عشر ملك إسبانيا الذي تولى الحكم من سنة 1886 إلى 1931 (إعلان قيام الجمهورية).