حين نفكر في كل ما يقال عن الحب و يغنى، لا نستطيع أن نعثر على صورة جميلة للحب إلا عبر الشاشات الجميلة و الأبطال و هم يؤدون وصلات لا نهائية للعشق و السفر، فالأبطال و حدهم ينقلون لنا أمتع الرحلات في الحب و الحياة و التأوهات الجميلة، و هم يجعلوننا نحلم. ما يحدث لنا و نحن نعيش كل هذه المتع، أن المسافة بين الواقع و الحلم كبيرة جدا، فعبثا نبحث عن " أشهد أن لا امرأة…إلا أنت" و عبثا نتصور العالم "كلمات ليست كالكلمات" و عبثا نحلم بالرجل المكتمل و الناضج و الحالم، و الذي يمكن أن يكتري المطعم بكل عامليه لتفاجأ حبيبته بأنها سيدة الإقامة و السفر و المتعة و أن هناك موسيقين في انتظار أن يعزفوا لها أجمل الألحان، و بأنها ستتلقى دعوة للزواج في تلك الليلة مع خاتم أنيق يكون على مقاس أصبعها الحاني. كل تلك الأشياء هي موجودة في الأحلام الجميلة و الأغاني الرائعة و المسلسلات و الأفلام و الأشعار و الرومانسيات الحالمة…
و لكن لماذا توجد كل هذه الأشياء لتعبر عن الحلم و ليس الواقع؟ هل كل المشاعر التلفزيونية و السينمائية و الأغاني هي مشاعر مزيفة؟ لماذا جاءت هكذا حالمة، و رقيقة و حانية، و تدفئ القلب و تجعله يهذي و هو يتموضع مكان البطلة و هي تستلم أحلى القبل؟ هل الأدب الذي يؤلف هذه المشاعر أدب يكذب؟ و هل أعذب الشعر أكذبه كما قال الذبياني؟ و هل نصدق الكذب دون أن يكون ما نراه يشبه الواقع؟ العديد من السيدات مستاءات لما يحدث فعلا في الواقع فيما يخص المشاعر، و مع ذلك تراهن يستهلكن كل المسلسلات العاشقة و كل الأغاني، و تراهن يحلمن بهذه المشاعر الرهيبة و يذهبن إليها و هن عارفات و مدركات أنها لا تشبه زمن الخيال بأي شكل من الأشكال. و هذا ما يجعل ذلك غريبا، فلا يمكن أن ننفي أن تلك المشاعر باهتزازاتها و ذوبانها لم تحدث قط ، و لكنها لا يمكن أن تحدث في كل الأزمنة و الأمكنة، كما أنها بدأت تبتعد يوما عن يوم، و السبب في أننا منشغلون بالنتيجة المبكرة للعلاقة العاطفية، لأن الزمن أصبح سريعا جدا، و لأنه كذلك تحلم النساء بحب سرعان ما يؤدي إلى الاكتمال، و تتخيل الرجل القادم مثل أبطال الورق الحالمين و النابضين بالخيال، في حين تبدو المدن المتخيلة بعيدة عن الواقع، فسرعان ما يبدأ الحب بالحسابات و الأوراق، و سرعان ما يبدو الزفاف مرفوقا بأوراق التوصيات عن النقود التي ينبغي أن يتكفل كل واحد منهما بدفعها، و تبدأ العمليات التي تحصي الممتلكات مهدرة لذلك النبع الجميل و إخراجه من أرض الحلم إلى الواقع، لذا يشوش الواقع على المشاعر و يصل بها إلى دائرة الحساب اليومي. من المؤكد أن أجمل الأمكنة هي تلك الأمكنة التي لم نذهب إليها، لأنها بالنسبة لنا هي الأماكن التي نحلم بزيارتها، و لذا تكون هي الأكثر إثارة لتوقعاتنا، فنحن نتخيلها أجمل الأماكن، لأننا فعلا لم نذهب إليها، و لذا تملؤنا الصور التي تصلنا بالآخرين بأجمل الأشياء، فنحلم من ورق و نصدق الحلم، و نتخيل ذواتنا مثل كل البطلات الراغبات، لكننا لا ندري أن حياة هؤلاء البطلات هي أيضا مكدرة، مليئة بالأزمات و الواقع الذي يعشنه بعيد جدا عما يشخصنه، لأنهن يشخصن الحلم و يبعن الفرح للمشاهدين، فمن المؤكد أنهن يمثلن شيئا آخر من ورق هو أيضا، و الورق يصل إلى أوراق أخرى تتلقاه و تنجز عنه أوراقا أخرى من حلم. هل نكف عن الحلم؟ و هل نكف عن السفر؟ و هل نكف عن الحب، عن الحياة، عن الأمل؟ لا نستطيع أن نكف عن ذلك، و لا نستطيع أن لا نعترف أن أجمل ما يوجد في هذا الكون هي تلك اللحظات الجميلة التي نتقاسمها مع شخص ما بصدق، فما وراء كل الأوبئة و الاضطرابات و الاختلالات التي يعيشها هذا الكون، تظل الدقائق الرقيقة هي أجمل ما يمكن أن تتقاسمه البشرية، و هي أجمل ما يمكن أن تهبه الإنسانية للحياة.