لعبت المعادن دورا مهما في دفع عجلة التطور الصناعي في العصور المنصرمة. إذ استبدلت الأدوات الحجرية البسيطة بأخرى معدنية نحاسية أو برونزية أكثر كفاءة وأشد صلابة من سابقاتها. ويبدو أن دخول البشرية عصر المعادن قد تم مصادفة في الألف العاشر قبل الميلاد مع رحيل آخر حقبة من العصر الحجري الأعلى Néolithique.
وليس من الغريب أن يطلق على مناطق النوبة في عهد الفراعنة لقب "أرض الذهب". فالمعادن المستخدمة آنذاك تواجدت في الطبيعة فوق الرمال وعلى ضفاف الأنهار في شكل قطع حرة نتيجة لاقتلاعها من بواطن الصخور بسبب مختلف عمليات الانجراف الناجمة عن هطول الأمطار وجريان الجداول والسيول. وغالبا ما بدت في هيئة فلزات طبيعية تراوحت أحجامها من ملليمترات إلى سنتيمترات كما هو الحال في الذهب والنحاس والفضة. وإن اختيرت هذه المعادن من دون سواها في بادئ الأمر فلأن بريقها الأخاذ جذب إليها يد الإنسان لتستخدم كحلي وقلادات قبل أن تغدو نواة لصناعة حقيقية. ولما كانت فلزات المعادن الثمينة طرية هشة في حالتها الطبيعية فإن تصنيعها أو تشكيلها لم يتطلب سوى طرقات خفيفة بواسطة الأدوات الحجرية الشائعة. فغلب استخدامها في الحضارات الأولى إلى أن دخلتها تقنيات جديدة فظهر عصر النحاس ثم عصر البرونز والحديد، ويشير المؤرخون إلى أن صناعة التعدين هذه انبثقت من بلاد الصين والقوقاز في الألف السابع قبل الميلاد ومنهما دخلت الهلال الخصيب. بيد أن الكثير من التقنيات الجوهرية تم اكتشافها هي الأخرى مصادفة كعملية الصهر أو الإذابة عند تشكيل السبائك وعملية السقي Trempe أو تبريد المعدن المحمي بالماء البارد. تبعا لانتشار صناعة التعدين في العصور التي سبقت التاريخ الميلادي، ونظرا إلى الفوائد التي درها استخدام المعادن على التطور الصناعي عمد العلماء إلى تقسيم تلك الحقبة الزمنية في ثلاثة عصور حمل كل منها اسم المعدن الأكثر شيوعا.
1-عصر النحاس: يبدأ في الألف الخامس (نحو 5100 و4800 ق.م) ويمتد قرابة ألف عام. وقد جمع الإنسان في جعبته إلى جانب ما كان يجمعه من أحجار قطعا من النحاس الطبيعي في شكل أحجار حمراء لامعة كما هو الحال في حجر الكوبريت Cuprite Cu2O أو في شكل وريقات زرقاء براقة كالأزوريت Azurite- Cu3(CO3)2(OH)2.واستطاع أن يصنع منها أدوات جديدة "غير حجرية".
ومع نشوء المجتمعات الزراعية في هذا العصر وجد النحاس مرتعا خصبا في الاستخدامات اليومية بين أدوات الزراعة والصيد. وتشير الدراسات إلى انتشار صناعة النحاس في كل من سوريا والعراق وتركيا وإيران على مدى واسع مما دعا بعض العلماء إلى ربط ظهور الحضارات الكبرى في هذه المرحلة مع توافر الجواهر الطبيعية "الحرة" فوق سطح أراضيها. 2-عصر البرونز: يبدأ في أواخر الألف الرابع (نحو 3400 و3100 ق.م) ويمتد قرابة ألفي عام. والبرونز في تركيبه الكيميائي مزيج صناعي يشكل النحاس الجزء الأعظم منه إلى جانب القصدير أو الزرنيخ. ويبدو أن هذا "الخلط" قد تم عرضا خلال عمليات الصهر وتبين في ما بعد أنه أشد صلابة من النحاس فاستخدم في صناعة أدوات الصيد وامتد إلى الميدان الزراعي وصناعة الآنية والتماثيل.
برز في الحضارات الشرقية نوعان من البرونز الأول: طري لدن، تصل فيه نسبة القصدير إلى 3 % والثاني صلب قاس، تصل فيه نسبة المعدن المذكور إلى 25% من الناحية العلمية يعتبر انتقال التعدين من العصر النحاسي إلى العصر البرونزي قفزة نوعية في الميدان الصناعي. إذ أن النحاس في حالته الطبيعية يحوي إلى جانب ذراته الخاصة بعض الشوائب المعدنية الأخرى كجزيئات الحديد والفضة والبزموت Bismuth. وعند صهره وصبه في القوالب الآجرية غالبا ما ظهرت في بنيته فقاعات غازية صغيرة تشوّه مظهره وتبدّل من هيئته. وقد أدرك الإنسان هذه الظاهرة وتبين له أن توافر عناصر أخرى كالرصاص أو الزرنيخ ولو بكميات ضئيلة إلى جانب النحاس تسمح في امتصاص الغازات الناتجة عن عملية الصهر والإذابة وتمنع تشكّل الفقاعات مما يمنح المعدن الناتج "البرونز" خصائص فيزيائية جديدة. 3-عصر الحديد: ويبدأ مع إطلالة الألف الأول (نحو 1200-1000 ق.م) وينتهي مع فجر التاريخ الميلادي أو العصر الحديث. يبدو أن ظهور معدن الحديد جاء متأخرا على عكس المعادن السابقة، ففيما تطلب صهر النحاس درجة قدرها 1084° مئوية والذهب 1064° يتطلب الحديد حرارة عالية قد تصل إلى ألفي درجة مئوية. وإن كان تصنيع النحاس والفضة والذهب ممكنا في درجات الحرارة العادية فإن ذلك غير ممكن في ما يتعلق بالحديد دون الاستعانة بتقنيات دقيقة تلك التي لم يكن قد توصّل إليها الإنسان في العصور السالفة. كذلك فإن الحديد نادرا ما وجد في الطبيعة في شكل حر. وإن وجد فغالبا ما كان شظايا حقيقية لنيازك وأجرام كونية هبطت على كوكبنا من الفضاء الخارجي كما هو الحال في القطع الحديدية التي كشف النقاب عنها في رأس شمرا على الساحل السوري أو ما عثر عليه من تماثيل حديدية على امتداد نهر النيل في مصر القديمة. يتبع... **-..-**-..-**-..-** والله الموفق 2016-12-24 محمد الشودري Mohamed CHAUDRI