في المجلد الأول من كتابه "البصائر والذخائر" علق أبو حيان التوحيدي على فكاهة مجونية أوردها فيه، فقال "إياك أن تعاف سماع هذه الأشياء المضروبة بالهزل، الجارية على السخف، فإنك لو أضربت عنها جملة لنقص فهمك وتبلد طبعك. ولا يفتق العقل شيء كتصفح أمور الدنيا. ومعرفة خيرها وشرها، وعلانيتها وسرها.. فاجعل الاسترسال بها ذريعة إلى إحماضك والانبساط فيها سلما إلى جدك فإنك متى لم تذق نفسك فرح الهزل كربها الجد". كان أبو حيان يدرك جيدا أن القارئ بعد انغماسه في الجد بات محتاجا إلى الترفيه والطرفة والنكتة، فيورد جملة من النوادر والطرائف والحكايات والنكات المنقولة والمسندة، ويستقيها من أي مصدر كانت: من الخاصة والمثقفين وذوي المراتب، أو من العامة والصعاليك والطفيليين والحمقى، فالمهم عنده أنها تؤدي إلى الغرض المنشود وهو التفريج عن نفس القارئ وإضحاكه. وإدخال المسرة إلى نفسه المكدودة بعناء العمل ومضايقات الحياة ومنغصات العيش. ومستطرد أحيانا إلى التبرير والتعليل لماما، كما فعل في الجزء الثاني من كتابه "البصائر والذخائر". ولدى الإمعان في تبريرات التوحيدي وتعليلاته، ألفيت أنها على جانب كبير من الصحة، إذ ان علماء النفس والأطباء في القرن 20 قد اجمعوا على أن للضحك تأثيرا قويا في حياة الفرد، لاعتقادهم أن البشاشة تكسو الوجه إشراقا وجمالا، وان المرح يؤثر في طباع الإنسان وميوله فيغدو أنيسا وديعا هادئا لطيف المعشر، وعلى النقيض من ذلك دائم العبوس: فأخلاقه تتصف بالضيق والانقباض، ويغلب على نفسه الاكتئاب والنفور. إذ ليس كالضحك والفكاهة عامل يبعث على إراحة الأعصاب ويحول دون التشنج والتصلب اللذين يصيبان الأعصاب والشرايين والعضلات والقلب، فتضطرب وظائف أعضاء البدن وتغيب البسمة عن المحيا، ويبدو القطوب على الوجه، ويشعر المرء بالتباريح الجسمية والروحية. وهذا ما حدا بعدد كبير من أطباء هذا العصر إلى مداواة بعض الأسقام والعلل بالوسائل الطبيعية المؤدية إلى ارتياح النفس وانشراح الخاطر. فإلى الابتسام والضحك. حتى إن جامعة طبية أعلنت عن تقديم جائزة ثمينة لمن يصف عقارا يجدي جميع الأسقام، فنال الجائزة من وصف الضحك والابتسام لمداواتها. وهذا يذكرني ببلدة أبيداروس في بلاد الاغريق قديما حيث كان مسرح ضخم لإله الطب، وكان يؤمه كثير من المرضى لمعالجة أسقامهم باللهو والطرف والضحك. وكذلك نلاحظ أن صحافة هذه الأيام كثيرة الاهتمام بالنكات الطريفة والنوادر اللطيفة والرسوم الكاريكاتورية بقصد إضحاك القراء والناس على مختلف فئاتهم في هذا العصر الزاخر بالإرهاق والمشاكل والجري المسعور خلف المادة والضنك الشديد في توفير ضرورات العيش حتى إن الصحف تخصص جوائز ثمينة أحيانا لأحسن نكتة ولأبدع نادرة، بل ترصد مبلغا معينا لكل نكتة أو نادرة، أما شركات الأفلام فإنها سخية، وبنوع خاص مع الممثلين الهزليين وأقطاب الفكاهة. إذ تغدق عليهم مبالغ طائلة وأجورا مغرية اعتقادا منها أنهم خير وسيلة لتخفيف هموم الملأ والتفريج عن كروبهم. ويسوق لنا التوحيدي بعضا من كلام الجاحظ وهو أحد أساطين الفكاهة الرزينة في الأدب العربي، إذ قال عن المزاح:"المزح متفاوت الأشكال في السخف، كما ان الجد متفاوت الأقدار في الوزن، فلم نقصد إلى الباطل ولا إلى ما لا يرد نفعا في عاجل ولا مرجوع له في آجل. بل إنما أردنا أن يكون ذلك الضحك إجماما للقوة وتنشيطا على العمل". وأبو حيان بعد ذلك صاحب كتابين باذخين في التراث والفكر العربيين، هما "الإشارات الإلهية" و"المقابسات". والأخير متميز– بشكل خاص– برصانة الموضوعات ورزانة العلماء والفلاسفة والمسائل العميقة والقضايا العويصة التي كانت في أوانها مدار الحوار ومثار الجدال وباعثا على الاستفهام. وقمين بالذكر في هذا الصدد أن المقابسة الحادية والسبعين من كتاب "المقابسات" الرفيع الشأن هي ذات مساس بموضوع هذا الحديث، فهي تدور حول حقيقة الضحك ودوافعه، وهي جديرة بالاطلاع عليها نصا ليقف القارئ على مدى رصانة الفكر بشأن مسالة نائية عن الرزانة والجد المتسم بهما الكتاب – أعنى للضحك الذي هو صنو الفكاهة بل هدفها. أما مسائل الكتاب الموسوم ب "الهوامل والشوامل" فهي لم تخل من طائفة تمت إلى الموضوع بصلة، منها المسألة الثامنة والسبعون وهي كيف يهون على بعض الناس أن يجعل نفسه ضحكة، أو مخنثا مغنيا لعابا، ولعله يكون من بيت ظاهر الشرف، و ربما لم يعد عليه ذلك بنفع مادي. والمسألة السابعة والثمانون، وهي ما علة كثرة غم من كان أعقل، وقلة غم من كان أجهل؟ والمسألة الحادية بعد المئة وهي قد نرى من يضحك من عجب يراه ويسمع، أو يخطر على قلبه ثم ينظر إليه ناظر من بعد فيضحك لضحكه من غير أن يكون شركه فيما يضحك من أجله، وربما أربى ضحك الناظر على ضحك الأول. فما الذي سرى من الضاحك المتعجب إلى الضاحك الثاني؟ والمسألة الثالثة بعد المئة: لم قيل: لولا الحمقى لخربت الدنيا، وما في حياتهم من فائدة على الدين والدنيا؟ ولا يفوتني في هذا المعرض الإشارة إلى كتاب "الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان، المتميز بختام كل محاضرة ليلية تقريبا بملحمة الوداع، يطلبها الوزير أبو عبد الله بن سعدان من التوحيدي قبل مبارحته، وقد ألفيت فيه أن الليلة الثامنة عشرة قد كرست للهزل والفكاهة. ومن رام التفكه بنوادر وملح التوحيدي فعليه بالرجوع إلى المجلدات الثلاثة التي ظهرت حتى الآن من "البصائر والذخائر" فإنه واجد فيها الكثير مما يسر الخاطر ويسري عن النفس. هذا وتختلف نوادر أبي حيان التوحيدي من حيث الطول والقصر، فبعضها لا يتجاوز السطرين وبعضها بلغ خمسة أضعاف ذلك. وإليك أيها القارئ الكريم مثالا على كل منهما: حاذقة ومتخلفة: كان لبعض الظرفاء مغنيتان، إحداهما حاذقة والأخرى متخلفة، فكان إذا قعد معهما وغنت الحاذقة خرق قميصه وإذا غنت الأخرى قعد يخيطه. أماني طفيلي: قصد قوم من الطفيليين وليمة، فقال رئيسهم: اللهم لا تجعل البواب لكازا في الصدور، دفاعا في الظهور، طراحا للقلانس، هب لنا رأفته ورحمته ويسره، وسهل علينا إذنه. فلما دخلوا تلقاهم، فقال متكلمهم: غرة مباركة، موصول بها الخصب، معدوم معها الجدب. فلما جلسوا على الخوان، قال: جعلك الله كعصا موسى وخوان إبراهيم ومائدة عيسى في البركة ! ثم قال لأصحابه: افتحوا أفواهكم، وأقيموا أعناقكم وأجيدوا اللف، وأترعوا الأكف ولا تمضغوا مضغ المتعللين الشباع المتخمين، واذكروا سوء المنقلب وخيبة المضطرب، كلوا على اسم الله تعالى! وختاما أقول ما جاء على لسان أحد الفلاسفة إذ يقول: "إن المقياس الحقيقي للرجل العظيم هو ابتسامته وروحه المرحة وقدرته على السخرية في وقت المتاعب". *-*-*-*-* والله الموفق 2016-05-30