حملها إليهم شعاع رقيق دقيق المرصد الفلكي الفلاك، وأطلق في الفضاء عام 1965، (وقد سبقه في الإطلاق المرصد الشمسي الفلاك، والمرصد الفيزيائي الأرضي الفلاك)، وترى جسمه في الصورة كالمنشور المسدس الجوانب، في أعلاه فتحة يرصد منها المنظار (التلسكوب) الذي في داخل الجسم، والغطاء الأسود القائم على الفتحة يحميها من ضوء الشمس. والأجنحة عن اليمين واليسار لتمتص ضوء الشمس وتحوله إلى كهرباء هي الطاقة التي يحتاجها المرصد وأجهزته. ظلت صلة الإنسان، بأجرام هذه السماء، تنحصر في ذلك الشعاع الرقيق الدقيق الذي يأتي من كل جرم من السماء إلى كل راصد فوق سطح الأرض. رسالة السماء إلى أهل الأرض حملها هذا الشعاع وحده. ونستثني الرسل والأنبياء، والمطهرين الأصفياء. ومن هذا الشعاع وحده حاول الإنسان ما حاول أن يستنبط عن أجرام السماء العلم الكثير. كان الشعاع كالكتاب الصغير، وحروفه من هيرغليف. وظل الإنسان يحل طلاسمه حتى أدت به إلى كثير من المعاني. أدت به إلى كل ما نعرف عن السماء، شموسها، كواكبها، نجومها، مجراتها، سدائمها، وما أنار منها وما أظلم. وكل ما نعرف عن أحجام هذه الأجرام، وأوزانها، وحركاتها، ومن أي شيء تتألف، وكيف تتحول. وكيف تحولت في ماضيها الطويل، وكيف سوف تتحول. واختصارا، من هذا الشعاع استمد العلماء كل ما كتبوا في علم الفلك، من عهد اليونان إلى اليوم. وحل الإنسان هذا الشعاع، رسالة السماء الملموسة المحسوسة الوحيدة، إلى طيف. والطيف مثله النموذجي طيف الشمس، ينشره الإنسان على الستار الأبيض نشرا، فترى العين منه ألوانا اعتدنا أن نسميها باللون الأحمر، فالبرتقالي، فالأصفر، فالأخضر، فالأزرق، فالنيلي، فالبنفسجي. ويبحث الإنسان فإذا به يجد وراء البنفسجي أشعة لا يراها ولا يحسها، ولكن تحسها أجهزته. وكذا يجد وراء الأحمر. ومن هذا الطيف، بل من هذه الأطياف وتحاليلها، كشف الإنسان عن علم السماء. عن علم الكون أجمع. ويصعد الإنسان إلى الجبل فيزداد عنده ما وراء البنفسجي. ما وراء ما كان كشف من حدود الطيف. وبعد ذلك أطلق الإنسان أجهزته، على رؤوس الصواريخ، إلى ما فوق الهواء، أو على الأقل إلى حيث رق الهواء، فكشف عن الشيء الكثير الذي كان اختبأ وراء الهواء. إن الهواء كان امتص الكثير من ذلك الطيف، فلم يصل الإنسان، وهو يرصد السماء على سطح الأرض، من تلك الأشعة، من شمس جاءت، أو من نجوم، أو غير ذلك، لم يصله منها كل ما فيها. إنه لحاف من هواء، التحفت به الأرض، فحجب عن أهل الأرض أن يروا السماء عارية. إنه حجاب أذن لرسالة السماء أن ينفذ إلى الأرض بعضها، وحجب بعضا. وكما رفع الراصدون أجهزتهم إلى ما فوق الهواء، تقذف بها الصواريخ، رفعوها تحملها البالونات. والخبرة الناتجة واحدة. وجاء عصر الأقمار. وحملتها الصواريخ دوارة مئات الأميال فوق سطح الأرض. فكان لابد أن يخطر على فكر العلماء، رجال علم الفلك، ان لو تحمل هذه الأقمار أجهزتهم، إلى ما فوق هذه اللحاف الهوائي، إلى ذلك الصفاء الأعلى، عسى أن تسجل رسالة السماء، كاملة. وفي السابع من مارس عام 1961، أرسلوا إلى السماء مرصدهم الأول. إنه المرصد الشمسي الفلاك Orbiting Solar Observatory. إن اسمه يدل على الغاية منه. إنه لرصد الشمس، يرصد كل ما يخرج منها من إشعاع، كيفا وكما. يرصد ما ألفنا من طيف، ويرصد أمواجه الصغرى فيما وراء البنفسجي، ويرصد الأشعة السينية، ما يصله منها، ويرصد الأشعة الجيمية، أشعة جاما. ويرصد حتى ما في السماء من تراب كوني. عشرة فأكثر من الأجهزة الكاشفة المسجلة ظلت ترصد وتكتب وتسجل، وترسل بالذي تجد إلى علماء الأرض. وتوقف إرساله في 11 مارس عام 1964. عمل حوالي السنتين، إلا نحوا من ثلاثة أشهر، اعوج فيها ثم اعتدل. ولم يدر إلى اليوم أحد كيف اعوج وكيف اعتدل، إلا ظنونا. وفي الرابع من شتنبر عام 1964، أرسلوا إلى السماء المرصد الثاني. إنه المرصد الفيزيائي الأرضي الفلاك Orbiting Geophysical Observatory. واسمه يدل على الغاية منه. إنه لرصد تلك الشؤون التي تتصل بالفيزياء الأرضية، تلك التي كان خصص العلماء لها سنة كاملة، امتدت وراءها مدة أخرى. وفي هذا المرصد ظلت تسجل نحو 16 تجربة، وترسل إلى علماء الأرض إنتاجها. وكل جهاز يعمل فيها على حدة. وفي عام 1965 أرسلو المرصد (الفلكي الفلاك) المزود حقا بما تزود به المراصد، لرصد النجوم والمجرات بالذي به من تلسكوبات، كسائر المراصد الفلكية الأرضية. تلك التلسكوبات التي خلا منها المرصد الشمسي الفلاك. وخلا المرصد الفيزيائي الأرضي الفلاك. إن المرصد الفلكي الفلاك هو هو هذا الذي فتح في كشوف السماء عصر نهضة جديدة لم يعرفها علم الفلك منذ كان نيوتن (Newton 1642-1727 ). إنها مركبة، ذات حوائط مضلعة، ثمان، مصنوعة من الألمنيوم، تزن 3.600 رطل. تحمل 11 تلسكوبا صغيرا، ترفعها إلى أطراف الجو العليا، على ارتفاع نحو من 500 ميل أي (804,5 كلم) من سطح الأرض وتدور بها، لتسجل من ضياء النجوم ما تسجل. وتحمل إلى الأرض أطياف هذا الضياء، صورا متلفزة إلى علماء الفلك على سطح الأرض، لاسيما صورا من أطراف تلك الأطياف الضوئية التي حجبها هواء الأرض. إن العلماء أمكنهم أن يحصلوا من هذه الأطياف على سبعة أطياف لسبعة نجوم. رفعوا إليها الأجهزة على رؤوس الصواريخ. ولكن هذا المرصد هو الذي أرسل إلى الأرض أطياف نحو من 14.000 نجم في العام ! إن صعوبة العلم في أنه مركب، طابق من فوق طابق، ولفهم الطابق الأعلى لابد من فهم الطوابق التي حملته. وليس هذا بمستطاع دائما إلا لأهل الإختصاص. والمهندس قد يسمع الطب من الطبيب فيفهم بعض الفهم، والطبيب قد يسمع الهندسة من المهندس فيفهم بعض الفهم. وما على هذا من بأس، ولا على ذلك. وبعض الفهم خير من ان لا فهم أصلا. وفي ربع الخبزة غناء إن عزت الخبزة الكاملة. ويجب أن نذكر دائما أن العلم صار منذ القرن العشرين خبز الرجل. -------- والله الموفق 19/05/2014 محمد الشودري