بَحْث في ظاهرة إجرامية هم شريحة شبابية تسلل القلق إلى أنفسهم، ولم يعد للأمل مكان في قلوبهم، بعد أن فشلوا في الحصول على وظيفة تُشعرهم بقيمتهم، لذلك فضلوا الإنعزال لشعورهم بالنقص والإزدراء والفشل، فتلونت حياتهم بلون أسود قاتم، وأصبحت الكآبة ميزة أساسية في شخصيتهم، فاختاروا الهروب إلى مكان يجتمعون فيه مع من يُشاركهم المأساة والظروف، فشَكّلوا مع من مثلهم مجتمعا جديدا يمنح الرضا والطمأنينة المزيفين، إنهم " المشرملون" الظاهرة الشبابية الإجرامية التي طفت فجأة على السطح، وفتحت أعين المغاربة على أشكال إجرامية غير مألوفة، واتّخَذَت من "التشرميل" اسما وعنوانا لجرائمهم، وقد علق أحدهم على بالقول: التشرميل لََبْسْ وَآَخْرُو حَبْسْ..ولا ندري وجه الشبه بين أكلة لذيذة وسلوك إجرامي مُتهور. وقد بدأت الظاهرة في مدينة الدارالبيضاء، وانتشرت جغرافيا في عدد من المدن، حيث لقيت اهتماما واسعا في وسائل الإعلام، لتصل إلى قبة البرلمان، ويتدخل الملك بنفسه ليُصْدر التعليمات لمواجهة الظاهرة، بعد أن صار تجول مواطن حاملا حقيبة أو مُتحدثا في هاتفه تصرفا بطوليا. وقد أجْرَت المختبرات الجهوية للتسجيلات الرقمية والإلكترونية تحريات واسعة بشأن صور تسربت إلى مواقع التواصل الإجتماعي، تُظهر "مشرميلن" يستعرضون أسلحة بيضاء وعصي كهربائية وبخاخات، ويتباهون بغنائم تحصلوا عليها من عمليات سرقة وسطو، كما كشفت صفحات "التشرميل" صورا لأشخاص وهم يستعرضون قنينات الخمر، ومخدرات وأموال، وأسلحة بيضاء، وخناجر، وسكاكين كبيرة الحجم تقطر بالدماء، وسيوف مختلفة الأحجام، بعضها يُحيل على تلك المستعملة بالأفلام التاريخية وأفلام الأكشن..وقد وجهت وزارة الداخلية دورية إلى الولاة وعمال الأقاليم تطلب منهم اتخاذ التدابير الكفيلة بالقضاء على استهلاك المواد المهلوسة، والتصدي لظاهرة الإتجار وصناعة الأسلحة البيضاء التي صارت اكسسوارا ملازما "للمشرملين"، بعد أن اتضح أن استهلاك القرقوبي واستعمال الأسلحة البيضاء يقفان وراء ظاهرة التشرميل. وسعيا لتطويق الظاهرة، قام وزير الداخلية بجولة عبر بعض العمالات والأقاليم لترؤس اجتماعات لمواجهة الظاهرة، الشيء الذي كَثّف من الحملات الأمنية في صفوف "المشرملين"، غير أن هذه الحملات لم تفرق أحيانا بين "المشرملين " والمُتَشَبهين بهم، حيث تم اعتقال العديد من الشباب وتم حلق شعر بعضهم، مثلما حدث مع الشاب الذي انتحر بسيدي بطاش بعد حلق شعره من طرف قائد القرية. وإذا كانت ظاهرة الهيبيزم الشبابية قد عَبّرت عن نفسها في الماضي من خلال الموسيقى، فإن ظاهرة التشرميل تعبير شبابي عنيف، ينم عن رفض لواقع مأزوم، شباب يحاولون اثبات وجودهم ولفت الأنظار إليهم من خلال التمرد على واقعهم، مستغلين العالم الإفتراضي لعرض غنائمهم وأسلحتهم الحادة والمُشَفّرة، هذه الظاهرة يتميز أصحابها عما سواهم بكلامهم غير المفهوم، وطريقة حلاقتهم اللافتة للأنظار، وتحويل أجسادهم لورش للأوشام والرسوم، وارتداء الملابس الغالية الثمن، وامتلاك أغلى الهواتف، والساعات اليدوية، والتزين بأغلى العطور، واستعمال دراجات نارية، وأحذية رياضية، واستعراض القوة من خلال تهديد الآخر. إن تفشي "التشرميل" في وسط المراهقين و الشباب عامة، أصبح ظاهرة ملفتة في المجتمع، هذه الظاهرة عنوان لمشكلة فراغ اتحدت مع متغيرات أخرى، على غرار سوء التربية والمشاكل الإجتماعية، مما دفع بالشريحة المذكورة إلى توظيف طاقاتها في الإجرام. و إجمالا يمكن رصد ثلاثة أسباب رئيسية تقف وراء ظاهرة "التشرميل": 1_ ليس من الحكمة أن تمر التقارير التي تتحدث عن انتشار الجريمة دون الوقوف عندها والتأمل في أرقامها، فأن تكون أعداد الموقوفين أزيد من 103.714 شخصا في الربع الأول من العام 2014 ، من بينهم أكثر من 800 شخصا من أجل الحيازة والإتجار في المخدرات، وأن يُصبح ما يقرب من 1% من الشباب من متعاطي المخدرات التي وصلت إلى المدارس والجامعات، و 85 في المائة من الجرائم التي ترتكبها شريحة المراهقين والشباب لها صلة باستهلاك المخدرات أو المتاجرة فيها، فهذا أمر خطير. وإذا عَلمنا أن بَحْثا أنْجز من طرف منظمة الصحة العالمية قد خَلُصَ إلى أن نصف المراهقين بالمغرب الذي يتعاطون التدخين واستهلاك المخدرات يعانون من اضطرابات نفسية، فهذا أمر مقلق، وأن يؤكد مكتب الأممالمتحدة لمكافحة المخدرات والجريمة أن جرائم القتل قد ارتفعت بحوالي 52 في المائة في العشر سنوات الأخيرة، ويحتل المغرب سنة 2012 المرتبة الثانية عربيا في ارتكاب جرائم القتل، فهذا أمر مخيف، وأن يتضاعف انتشار القرقوبي ست مرات عما كان في السابق، فهذا منتهى الخطورة. إن انتشار الجريمة قد أقلق طمأنينة الناس، على الرغم من الأعباء الثقيلة التي يَبْذلها رجال الأمن، ذلك أن كل العمليات الإجرامية ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالمخدرات، والتي يعتبرها الخبراء البيئة الخصبة لمختلف الجرائم. فلماذا هذا التردد إزاء تغليظ العقوبة إلى الحد الذي يجعلها رادعة؟ وما الذي يحول دون ذلك في هذه الظروف الإستثنائية؟ وكيف يطمئن القاضي إلى ميزان العدالة إذا كان المجرم يعود إليه كل بضعة أشهر بجريمة جديدة؟ وكيف يخرج الشباب من حالة الإحباط إذا كان ترويج المخدرات يتم بالقرب منهم وفي مدارسهم وجامعاتهم؟ 2_ العنف صفة مُكْتَسَبَة لا فطرية، ولمّا كان لوسائل الإعلام نصيب وافر في التأثير على سلوك الأبناء، فقد أعد مركز اللمسة الإنسانية للفتيات دراسة لملاحظة دور وسائل الإعلام وأفلام العنف والإثارة على سلوك الأبناء الذكور. وأظهرت الدراسة أن 75 % من العينة المُستهدفة فضّلت مشاهدة أفلام الإثارة والعنف والجريمة، وهذا ما يؤكد أن الموروث الإجتماعي له دور كبير في ميل الذكور إلى العنف، باختلاف أعمارهم ودرجات تعليمهم. كما خَلُصَت الدراسة إلى أن 45 % من المشاهدين لتلك الأفلام يتأثرون أحيانا بتلك المشاهد، و 27 % منهم يتأثرون بصورة بالغة بما يشاهدون. أما على صعيد أبطال أفلام المغامرات والإثارة والرعب، فالملاحظ أن أولئك الأبطال يتميزون بالبنية الجسدية الضخمة الرياضية، ويتصفون بالوسامة والقبول الإجتماعي (داخل أحداث الفيلم)، إضافة إلى سعي البطل إلى نُصْرة من حوله وكشف الحقيقة، كما يتميزون عادة بحركات احترافية وصعبة وسرعة في البديهة، وفي أحيان كثيرة يميز البطل نفسه بلباس معين. وقد أوضحت الدراسة أن 23 % من العينة تَمَنّوا فعليا أن يكونوا بقوة وسيطرة أبطال الأفلام، وأكدوا وجود مثل هذه النماذج البطولية في الواقع، وهذا ما يؤكد أن التأثر بالصورة المُكْتَسَبَة من مشاهدة أبطال الأفلام تؤثر في المشاهدين، حتى إن البعض منهم يَأمل أن يكون نموذجا واقعيا من صورة أولئك الأبطال في تلك الأفلام، كما أن نسبة 13% من العينة أكدوا محاولتهم تقليد سلوك الأبطال في هذه الأفلام، واستعانتهم ببعض الأفكار التي شاهدوها في تلك الأفلام في حياتهم الواقعية. وبَيّنَت الدراسات كذلك أن الألعاب الإلكترونية الحديثة، لعبت دورا كبيرا في برمجة عقول شبابنا على استخدامها كرمز للقوة والشجاعة، فبعض الألعاب قائمة على شراء الأسلحة لقتال العدو والنيل منه للفوز عليه، والإنتقال لمراحل أعلى في اللعبة. وطبقا للتقرير الذي جرى إنجازه بطلب من وزير الثقافة الفرنسي، تَمّ الإعتراف بتعاظم ظاهرة العنف في المجتمع الفرنسي. وفي مواجهة هذا الواقع، كان وزير الثقافة الفرنسي (جان جاك اباغون) قد أكد في رسالته للجنة المكلفة بإعداد التقرير حول العنف في التلفزيون بالقول (إن حماية الأكثر هشاشة، والنضال ضد جميع أشكال العنف، ورفض كل أشكال التمييز والبغض، أمور في صلب ميثاقنا الإجتماعي، لذلك ينبغي علينا جماعيا، وفي ظل ثقافة تهيمن عليها الصورة، إعادة النظر فيما يتم تقديمه بصورة شبه متواصلة من مشاهد عنيفة أو عدوانية لها تأثيرها على عقل الأكثر شبابا). 3_ السلطات تتحمل بعضا من المسؤولية في انتشار ظاهرة "التشرميل"، من مُنطلق تساهلها بما يحدث في ملاعب كرة القدم، بالنظر لهامش الحرية المتاح هناك، مع التذكير أن جميع الصور التي نشرت، أظهرت أن جميع "المشرملين" يرتدون ملابس رياضية، ذلك أن "التشرميل" سلوك إجرامي نما وترعرع في ملاعب كرة القدم، حيث حرية التشجيع تصل إلى حد التلاسن والإشتباك، علما أن بعض الملاعب تحولت إلى فضاءات حرب بين ميليشيات الإلتراست، نتيجة التهاون في مراقبة إدخال السيوف والأسلحة البيضاء إلى الملاعب، الشيء الذي نَمّى ثقافة العنف خارج الملاعب، من خلال الهجوم على المحلات التجارية ومواجهة الشرطة وغيرها. بقي أن أشير في الأخير، أن المراهقين والشباب يُمثلون في الكثير من الأحيان أبطال جرائم "التشرميل"، وقد ساهمت عوامل أخرى في انتشار الظاهرة، منها قلة الوعي الثقافي، والتفكك الأسري، والبطالة، وانشغال الوالدين في حياتهم عن مراقبة أبنائهم. وفي الوقت الذي تستفحل فيه ظاهرة الإجرام، لا نجد بالمقابل مواجهة توازي حجم المشكلة، وذلك من خلال الإستثمار في هذه الشريحة بواسطة استراتيجية تملأ الفراغ لتوصد أبواب الإنحراف والجريمة. ذ عبد الله النملي