إن الذي يعنينا في هذا المقال هو القراءة المتفهمة والدراسة الجادة، التي تصل بالقارئ إلى مدارج من المعرفة والفهم للإحاطة بكل ما يراه ويحسه في هذا العالم الذي يكتنفه. إن كثيرا من الناس لا يعرفون كيف يقرأون، فهذا لا يتوقف على مدى تذوقهم أو تعلمهم أو حتى المادة التي يقرأونها، إنما يتوقف أساسا على الروح التي يتناول بها القارئ أي كتاب يقع بين يديه، سواء أكان ديوان شعر أو رواية طويلة أو بحثا تاريخيا أو عملا عقليا. ولقد كان الأستاذ الإنجليزي سير آرثر كويلر كوتش ينصح تلاميذه دائما بقوله "أرجوكم بحق السماء أن تذكروا دائما أنه من الممكن جدا أن تقعوا في الخطأ". كما يقول الناقد الإنجليزي ماكسويل بيركنز "إن الصعوبة التي يعانيها المحررون الذين يعملون في دور النشر الكبرى تخفى عن الكثيرين. فالواجب عليهم أن يعطوا أنفسهم عطاء كاملا لأي كتاب مقدم لدار النشر، فيقرأونه أولا كأي قارئ عادي حتى ينتهوا إلى إعجابهم به أو الانصراف عنه. فالمفروض ألا يطبقوا على أي كتاب معايير علمهم ومراجعهم إلا بعد أن ينتهوا من قراءته. ومع أن الأمر يبدو هكذا سهلا إلا أن الواقع هو أن الكثيرين من هؤلاء المحررين الذين يراجعون الكتب لا يتناولونها بهذا المقياس، إنما هم يقرأونها ونصب أعينهم، بل ثابت في أذهانهم، بعض الكتابات الممتازة ذات الشهرة الأدبية، فإذا بهم والحالة هذه يجرون، دون وعي، مقارنات بين الكتابتين وهنا يكمن الغبن. ويقول الكاتب والناقد الإنجليزي فرانك سوينرتون "أعتقد أن أكثر القراء يتناولون الكتاب وعقولهم غير مهيأة له. فهم يعجزون عن أن يضعوا أنفسهم مكان الكاتب. ولا يملكون الصبر على أن يتركوا الكاتب يستكمل أقواله. وسرعان ما يعبرون عن سخطهم وغضبهم بقولهم "إن هذه كتابة قديمة جامدة" أو"هذا هراء المولعين بالجديد" أو "هذه كتابة من الدرجة الثالثة". ولا يعني مثل هؤلاء القراء ما إذا كان الكاتب قد أوضح الغرض من كتاباته في لغة سليمة، كلا.. فمادام هو لم يساير المبادئ أو الأفكار التي يعتنقونها، سواء كانت قديمة أو حديثة، فهو كاتب تافه لا قيمة له، بينما تكون موهبة الكاتب ذات قيمة فعلا، أما موهبة القارئ في هذه الحالة، فهي التي تحتاج حقا إلى وضوح. لماذا؟ ربما لأن قراء اليوم قليلو الاحتمال، نافذو الصبر، لا يملكون قوة الخيال. والمقصود بالخيال هو النشاط الروحي وليس الخيال الرومانتيكي. فهذا النشاط الذهني هو الذي يهيئ للقارئ أن يضع نفسه كلية في مكان العقول والقلوب الأخرى فيكتشف فيها الحب والتعاطف لا البغض والكراهية. كما يجب أن يبتعد القارئ عن الصلف والغرور العقلي اللذين هما أسوأ ما في التعصب الأعمى، كما يجب ألا يكون القارئ، حسودا أو حقودا أو لديه ميول إلى القسوة في النقد. إن كثيرا من القراء يبدأون قراءة الكتاب وفي ذهنهم حكم مسبق عنه، مما يجعلهم يتحاملون عليه أو يتحيزون ضده. وبدلا من أن يسألوا أنفسهم "ما الذي يقوله هذا الكاتب؟ "إذا بهم يتساؤلون ما هو رأيي في هذا الكتاب؟". والمفروض – ، حين يتناول القارئ الكتاب – ، أن يقول لنفسه" لعل كاتب هذا الكتاب ذو موهبة فنية أو لعله كاتب فاشل، ومع ذلك فإني سأقرأه وكأنه أول كتاب تم تأليفه"وبانتهاء قراءته يصل فيه إلى رأي. والقراء أحيانا ما يتأثرون بصورة الغلاف أو باسم المؤلف أو بطريقة الطباعة أو بنوع الورق أو بحجم الكتاب. ولكن كل هذا لا يهم، المهم هو أن يضع القارئ نصب عينيه ما جاء في الكتاب من أفكار وأساليب وألا يتأثر بأي شيء غيرها، ويجب أن يستكشف القارئ بنفسه ما يعتبره طيبا أو سيئا في الكتاب دون التقيد بعقائد معينة ودون مشايعة لكاتب بالذات على حساب كاتب آخر كما يفعل الكثير من النقاد اليوم. وهكذا، إذا كان الكثير من القراء لا يعرفون كيف يقرأون فيجب أن نرشدهم ونوضح لهم الطريق، ونهيء لهم السبل حتى يمكنهم القراءة بعقول مفتوحة. فيجب عليهم ألا يقارنوا هذا الكتاب بكتابات فلان أو فلان من كبار الكتاب.. كلا.. بل يجب أن يهتموا بنوع الكتاب.. فالمهم دائما هو موهبة المؤلف. يقول "محمود تيمور" رحمه الله، إن القارئ يجب أن يقرأ القصة (مثلا) متدبرا فكرة المؤلف فيسأل نفسه.. لماذا عقد هذا الحوار ؟ لماذا تلت هذه الحادثة ذلك الموقف ؟ كيف رسمت الشخصية ؟ كيف ارتبطت أجزاء القصة بعضها ببعض ؟ كيف أسلمت المقدمات إلى النتائج ؟". من كل ما "أسلفناه تتضح القراءة الحقة.. القراءة الدارسة.. القراءة المتفتحة.. التي تصل بنا في النهاية إلى ما يريده المؤلف.. فإن نجح في إيصاله إلينا كان ناجحا، أما إن فشل في إقناعنا به فهو كاتب فاشل. والله الموفق 01/04/2014 محمد الشودري يتبع ب 2/2 : كيف نكتب لنفيد ؟