اَلتَّوَجُّهُ نَحْوَ الجْهَوِيَّةِ المْتَقَدِّمَةِ تَدَاخُلٌ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالْإِخْتِيْارِ ! قد وجه الملك محمد السادس خطابا بمناسبة الذكرى 36 للمسيرة الخضراء، حيث أكد على أن الدستور الجديد فتح المجال بشكل كبير لإنزال ورش الجهوية المتقدمة، وقد ربط هذه الأخيرة بالأقاليم الجنوبية، والتي ستمكنهم من الحكامة الترابية المنشودة، كما ستكون الصحراء المغربية نموذجا للجهوية الموسعة بما تنطوي عليه من انتخاب ديموقراطي لهيئاتها، ومن تحويل واسع للسلطات والإمكانات من المركز إلى الجهات. ومما يدل على نجاعة هذا التوجه وطنيا وخارجيا هو موقف رئيسة الديبلوماسية الإسبانية أثناء زيارتها للمغرب، حيث أجرت سلسلة من المقابلات مع المسؤولين المغاربة لمحاولة إقناعهم بتأجيل تنفيذ مقتضيات الجهوية الموسعة بالأقاليم الصحراوية، وهذا ما رفضته الديبلوماسية المغربية، وأصرت على مواصلة الجهود لإنزال هذا الورش على أرض الواقع كما نص عليه الدستور. والجهوية هي توزيع لأنشطة الدولة على المستوى الجهوي بطريقة إدارية، وبالتالي: فالجهة هي مجموعة منسجمة تهدف إلى تحقيق تكامل اقتصادي واجتماعي وإداري وتنموي، إذ هي أجزاء مكونة للوطن، فتقدمها على هذا الأساس هو تقدم للبلاد في شتى المجالات. أما المفهوم الحديث الذي تقوم عليه الجهوية، نجده يتجلى في الإستقلال عن السلطة المركزية، فتصبح لها اختصاصات محددة وموارد مالية وبشرية تسمح لها بتسيير أمورها باستقلالية وحرية في إطار من المسؤولية. أما فيما يخص إطارها القانوني؛ فإن الدستور هو المحدد الرئيسي لاختصاصات الجهة في إطار الجهوية السياسية، بينما يحدد القانون العادي اختصاصاتها في إطار الجهوية الإدارية. لطالما كانت الجهوية ضمانا لتنمية شاملة، لذلك فهي لم تأت من فراغ، بل لها تراكمات ضخمة في تاريخ المغرب، مما أدى إلى التفكير في التوجه نحو هذه السياسة بشكل مرحلي وتدرجي، والتي سبقتنا إليها منذ القدم الدول الغربية. لذلك يجب التمييز هنا بين ثلاث مراحل، نجملها في: - مرحلة ما قبل الحماية: كان يوجد بالمغرب نظام جهوي تقليدي جدا، يقوم على الأسس القبلية والجغرافية نتيجة كبر المساحة وقلة الموارد البشرية. - أما في عهد الحماية: فقد كانت الجهوية إذ ذاك تتميز بالحداثة النسبية بشكل ظاهري، وبالمقابل كان باطنها منافيا للوجه الحقيقي لإقامة المفهوم الأعمق للجهوية، حيث لم تكن تعد مؤسسة مركزية بالنسبة للمستعمِر، بل كانت آلية للتأطير والتحكم السياسي والعسكري، كما تم مراعاة الجانب العسكري في التقسيم لا الجانب المدني والإقتصادي والإجتماعي، ومنذ سنة 1922 اقترح جغرافيان فرنسيان جهوية تطبق على المغرب لها منظور طبيعي وتبتعد كل البعد عن المنظور الترابي، حيث حددت الجهات آنذاك كالآتي: جهة الشمال (تضم الريف وضفاف البحر الأبيض المتوسط)، وحوض سبو كجهة، جهة المغرب الأوسط، جهة جبال الأطلس، المغرب الشرقي، والمغرب الصحراوي. وفي سنة 1964 اقْتُرح أول كتابِ جغرافيا كمنهج للتعليم يتضمن تقسيم المغرب إلى 12 جهة، كما نجدها تعتمد أيضا في تسميتها على المعطى الطبيعي الإستراتيجي. - أما بالنسبة لفترة ما بعد الإستقلال: نجد أن الإدارة المغربية الفتية لم تتمكن على ضوء ما تركه الإستعمار من فوضى على كل الأصعدة من التفكير في تقسيم جهوي، حيث انصبت الدولة على تكريس سلطتها على المستوى السياسي والإداري، لتعتمد على التقسيم الإقليمي بواسطة الجماعات، إلا أن الفرق بين الجهات بعد مدة أمسى واضحا، لأنها لم تستطع التقدم في المجال الإقتصادي والإجتماعي والبشري، ولم تكن سلاحا للقضاء على الإختلالات واللاتوازنات التي خلفها المستعمِر وراءه، لذلك اتجه المغرب نحو تطبيق عدة مخططات تنموية اقتصادية واجتماعية تبلورت سنة 1971، ليكون نظام الجهات الإقتصادية أداة للتنمية الإقتصادية والإجتماعية، حيث تم تقسيم المجال الترابي لسبع جهات، واعتمدت الدولة وفق ذلك معاييرا عديدة، منها ما هو سياسي والمتمثل أساسا في تطور النخب السياسية، مما كان عليها إدماجهم لمراعاة متطلبات المرحلة، ومنها ما هو 'بروتوكولي' المتجلي في احترام التقسيمات السابقة، علما أنها لم تكن مدروسة، بل كانت خدمة للهيمنة العسكرية لفرنسا أثناء الحماية، كما تم مراعاة المعطى الجغرافي لتمنح كل جهة واجهة مطلة على البحر ما عدا جهة واحدة فقط، وكذا الأخذ بالمعيار البشري، حيث تمت مراعاة الكثافة السكانية وهذا ما يفسر اتساع مجال جهة على جهة أخرى بشكل بيِّن، ثم أخيرا اعتماد معيار توفر البنيات التحتية. لكن، ومع كل هذه المعايير التي اعتمدت في تحديد جهات المملكة، نسجل أنها تُركت خاضعة للمركزية الإدارية الواحدة. ووفق هذه السيرورة التاريخية التي مر بها المغرب على مستوى التقسيمات الجهوية، التي دعمها تأكيد الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1984 على الرغبة الطموحة في إنشاء جهوية ذات هياكل تشريعية وتنفيذية، بدأت ثقافة الإهتمام بالجهة تظهر في دستور 1992 حيث رقاها لمصاف الجماعات المحلية، وكذا دستور 1996 الذي تلاه إصدار قانون منظم للجهات رقم 96-47 سنة 1997، حيث أصبح للجهة كيان مستقل يتمتع بالشخصية المعنوية والإستقلال المالي، بالإضافة إلى إسنادها اختصاصات قانونية تقريرية واستشارية (فأصبح في المغرب 16 جهة). ومن خلال التنظير السابق، يمكن تحديد الدوافع التي أدت بالمغرب إلى التوجه نحو الجهوية الموسعة في أربع معطيات أساسية: - سياسية: تكريس حق الإنتخاب والمشاركة الشعبية في المجالس، كما أن التماشي مع الديموقراطية ونداءات الفاعلين السياسيين والمدنيين أدى إلى اتخاذ هذا التقسيم للدفع بمفهوم اللامركزية، باعتبارها أداة للتنمية الإقتصادية والإجتماعية وفضاء للحوار والمشاركة الفعالة، بالإضافة إلى أن أهم عامل الذي أدى نحو التفكير في جهوية متقدمة هو تقدم المغرب بالحكم الذاتي لأقاليمه الصحراوية الذي يقترب من فلسفة الجهة الموسعة، مما جعله مجبرا - إن صح التعبير - على تبني هذه السياسة في مجمل التراب الوطني، حتى لا تكون الصحراء مستقبلا استثناء سياسيا وإداريا واقتصاديا واجتماعيا. - إدارية: العمل على إنشاء مصالح ومرافق إدارية في كل الجهات بغرض تقريب الخدمة الإدارية من المواطن دون لجوئه للإدارة المركزية، وذلك في نوع من الإستقلال والحرية الإدارية. ومنه، فإن التنظيم الجهوي أحد الأساليب الإدارية لإدارة المرافق العامة بشكل إيجابي وفعال، وكذا تقريب القرار الإداري من مكان تنفيذه. - اجتماعية وثقافية: هي تكريس أمثل للديموقراطية، حيث تتم في الجهوية مراعاة المقومات الثقافية والإجتماعية داخل البلد الواحد، لتحس مختلف الفضاءات البشرية باستقلاليتها في تسيير شؤونها دون اعتبار للأغلبية فقط، فَكُنْهُ الديموقراطية هو احترام للأقلية داخل الأغلبية ومنحها حقوقها. - اقتصادية: الجهوية استراتيجية للتنمية الإقتصادية؛ فكل السياسات الحديثة تعتمدها لتقلع اقتصاديا باعتبارها - وفق التجربة الرائدة - الإطار الأصلح لذلك. انطلاقا مما سلف، فالتفكير في الجهوية الموسعة فرضته تلك العوامل المذكورة آنفا، والتي يمكن اعتبارها عواملا كلاسيكية، بيد أن هناك عواملا معاصرة ومتجددة انبثقت عن تطورات العالم التي يشهدها، والتي فرضت نفسها على الدول فرضا، وتتمثل في الإنفتاح والعولمة ومنهما تكريس مبدإ فتح الأسواق وسياسة توأمة المؤسسات، لذلك كان لزاما على المغرب أن يصطف مع هذه الدول من خلال مقاربة جهوية جديدة تكرس الحكامة الترابية الفعالة، ويكون الرابح الأول هو العنصر البشري. فالإقتصار على الرباط وحدها كمخطط لكل المجالات التي تعيشها البلاد كاملة ينافي الديموقراطية، إذ أن كل جهة وجب منحها هذه الفرصة لبناء المغرب المتقدم بشكل تشاركي، فلكل جهة خصوصيات يمكن أن تبرز فيها على هذا الأساس (تكنولوجيا، فلاحيا...). ناهيك عن أن أبرز ما دفع المغرب دفعا لتبني الجهوية المتقدمة – ولا نقول بالإجبار لأنه كما سلف فقد خطى المغرب منذ القدم نحو الإنفتاح على هذه المقاربة الهيكيلية الجديدة، بل الأصح، هو أن الظروف الراهنة وعلى رأسها قضية الصحراء زاد الضغط على المغرب، ومنه التعجيل بإنزال هذا الورش بعدما كان المقرر إتيانه بالتدريج – هو سياق الحكم الذاتي بلا شك، حيث فرض على المغرب تبني الجهوية الموسعة في هذه الفترة دون غيرها كسياسة مستقبلية لتحرير الجهات، وهذا الورش الهيكلي فتحه الملك محمد السادس في خطابه يوم 11/01/2010، ليسجل تاريخ المغرب المعاصر أنه مسار أتى لتأكيد الوحدة الترابية في المرتبة الأولى إثر الأحداث التي تشهدها أقاليمنا الصحراوية. بقلم: نور أوعلي طالب باحث بماستر القانون ووسائل الإعلام بتطوان