بسم الله الرّحمن الرّحيم مقدّمة: شَهِد العَالم العربي في الآونة ما قبل اندلاع الثورات العربية الأبية فتراتٍ حالكة ومتأزمة، طالت الاعتقاد والمنظومة الأخلاقية والقيمية والهوياتية للأمة، والعادات والتقاليد والأوضاع الداخلية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وتفشى الفساد في البُنَى العميقة والظاهرة لدُولِنَا العربية، وتجبَّر العُتاة المالكون لأزمَّةِ الحُكم، وبلغ الاستبداد حناجر التدبير والتسيير في المنطقة العربية.. هذا الوضع المُزري وما خفي منه أعظم عَجّل بتفجير زلزال الثّورات وفيضان الزحف الثوري الشّعبي الذي أتى على الأخضر واليابس في ظرفية زمنية شكلت صدمة لِحَرَامِيّي الخارج، وطردًا وإبعادا لأخسّاء الداخل. وإنّ ما تمرّ بهِ أوطاننا الحبيبة اليوم من عمليات التّغيير والتَبَدّل برُوحيّة الثّورات والكفاح الوطني ،التي يقودها ويتبنّاها الثّابتون القائمون على وضع اللّبنات الثانية لثُغور حُلم المُستقبل الكبير في كل جهة من جهات عالمنا الإسلامي العربي، ألا وهو حلم الدولة الإسلامية المدنية المُستقلّة ! ولا نَشكّ في أنّ أفعال التّغيير التي حفرت وعمّقت مجاريها وإيقاعاتها الرامية إلى مقاومة الفساد والإطاحة بالاستبداد، وبدون استثناء طيلة سنتين، تُعدّ في كثير من جوانبها مُحصّلة التّموقع في هذا الموضوع قيد البحث، إضافة إلى إضفاء روح الإلهام في تبنّي مواضع حسّاسة ومُسْتَجَدّة .. فبنياتٌ وثوابت وعناصر قديمة تتهاوى، وآليات جديدة – موصولة الأعراق بأصالة التعاليم الإسلامية وروح المبادئ – تفرض نفسها في ثوب عصري مُسَاير لمتغيّرات الواقع السياسي ولطابعَيْ التّمدّن والتحضّر العالمي . لذا أتت الورقة لتجيب عن أسئلة تفرض نفسها بلا بديل من قبيل: متى يكون الإسلام سياسة ومتى تُصبح السياسة إسلاما ؟ ومتى يحصل التطابق بين المفهومين ؟ وكيف طوّر الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي منظومته السياسية؟ وكيف ننتقل من دولة الأمّة إلى أمّة الدولة؟ ولِمن الحكم اليوم؟ وهل ثمة مبرّر لتولّي شؤون الأمّة والحكم باسم الدين ؟ ألا زالت نظرية المُماثلة بين السلطان والإله تسيطر على الوعي الجمعي للأمة ؟ وهل أمر بناء السلطة والدولة هو من اختصاص الصفوة المستنيرة أم يتم عبر مشاركة وازنة وإرادة حرّة للأمة باعتبارها مصدر السّلطات؟ وكيف ننتقل بقيام الحكم الإسلامي من الحق المجرّد إلى الإلزام الوجودي؟ إن روح إجابتنا عن تلكم الأسئلة سيظلّ مشدودا في الأساس إلى المكاسب النظرية والسياسية التي راكمتها أجيالٌ عديدة ولفترات مديدة من منظّري الأمّة ومن بُنَاة الأفكار والمشاريع فيها وإلى يومنا هذا ! ومهما يكن من تشعّب مسائل الحديث في هذا الموضوع؛ فإنّي عابر بكم عََرضًا على جملة من القضايا التي تتصل بهذا الصّدد، وذلك عبر منهجية تعتمد على: مقدّمة، ومبحثين أساسيين وخاتمة. نستعين بها في عملية الاقتراب النّظري والرؤية من داخل المنظومة الإسلامية والعربية بقديمها وحديثها، حيث يتناول المبحث الأوّل علاقة الديني بالسياسي وشرح وافٍ لكلا المفهومين، مع إيراد شواهد على التبدّل الذي طال ممارسة كلٍّ منها في إطار الأشكال المتعدّدة لأنظمة الحكم في العالمين الإسلامي والعربي، ثمّ عرجنا على ذكر الجناية السياسية الأولى التي نفّذها اليمين البورجوازي الأموي في حقّ أحكام الإسلام وتعاليمه السّمحة، وما صاحب ذلك من ظهور فترة " حكم البيوتات " التي قضت بأن تنزوي الشورى في بيتها النظيف، وأن تُقفل أفواه الأمّة وترضى بالواقع الذي لا يرتفع، الأمر الذي اضطرّنا إلى تعزيز هذا المبحث بعنصر ثالث تناول جانبا من المراحل التاريخية التي قطعها الخطاب السياسي الشرعي . أما ثاني مباحث هذا البحث فنظرت بعمق وموضوعية إلى مقاربة الديني والسياسي في إطار المرجعي وممارساته التاريخية، مَوَضّحين لتمثّلات الفكر السياسي الإسلامي القديم والمعاصر لكلٍّ من السلطة السياسية والنّظام السلطاني، ثمّ ختمنا المبحث بمحور ثالث ركّز على ضرورة التسريع باكتمال مشروع الحكم الإسلامي وبناء الدولة المدنية الحديثة المعتمدة على الأصول ومكوّنات الشرعية، والمنفتحة كذلك على الآليات المعاصرة والتي من خلالها نعيد هيبة ومحورية الأمّة والمجتمع المدني، ونوطّد لدعائم الحكم الإسلامي في عصر التكتّلات والتغيّرات الجيوسياسية والتبدّلات الشاملة. ونحن مؤمنون بما يمارسه " التّوضيح النّظري " في تفعيل مشروع " الحكم الإسلامي "، وهو مشروع نفترض ضرورة تأسيسه، وأن يؤسِّسَ لتركيبٍ سليمٍ وقويمٍ للدّولة ذات الطابع المدني، وللدّين بمعناه العام، وللأمّة بكل ثقلها ووزنها. أما الخاتمة فقد أمّلتْ في أنّنا إذا ما استطعنا أن نستثمر المرحلة التاريخية التي نَمُرُّ منها قدر المستطاع ؛ بأفكار عظيمة، وحكومات مستقيمة، وشعوب سليمة، ومشاريع هادفة، ومؤسسات فاعلة، وقِوىً حية، ورؤى مُمْكِنَة التحقّق، وعزيمة متبصّرة، فإن فرصتنا في رُجْحَان كفّة ميزان المُلتقَى القَدَرِي لصَالِحِنَا أسْنَحُ بكثير لكي يَبْزُغَ نَجْمُ سَعْدِنَا متألّقًا في الآفاق ، ولن يُخيِّبَ اللهُ مَسْعَانَا.