الحمد لله الذي له في كلّ ما جرى حكمةٌ وتدبيرٌ وغايٌ ويَدَا، والصّلاة والسّلام على من انجلى الظلام بقدومه فغشّى الحالكات وبدّدا، فضلا ممن أرسله؛ رحمة للبشرية وهُدَى .. تحية العزّ والكرامة إلى مهندسي الانتفاضات والثّورات في كل مكان شعاع : " الإسلام عنوانٌ لظاهرة تاريخية في العالم الواقعي .. " علي عزت فيغوفيتش أما بعد : شهد العالم العربي في الآونة ما قبل اندلاع الثورات العربية الأبية فتراتٍ حالكة ومتأزمة، طالت الاعتقاد والمنظومة الأخلاقية والقيمية والهوياتية للأمة، والعادات والتقاليد والأوضاع الداخلية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وتفشى الفساد في البُنَى العميقة والظاهرة لدُولِنَا العربية، وتجبَّر العُتاة المالكون لأزمَّةِ الحُكم، وبلغ الاستبداد حناجر التدبير والتسيير في المنطقة العربية.. هذا الوضع المُزري وما خفي منه أعظم عَجّل بتفجير زلزال الثّورات وفيضان الزحف الثوري الشعبي الذي أتى على الأخضر واليابس في ظرفية زمنية شكلت صدمة لِحَرَامِيّي الخارج، وطردًا وإبعادا لأخسّاء الداخل. وانطلقت الجموع المسلمة الغاضبة تقتفي أثر الأنبياء في الدعوة إلى التغيير جهرا وعلانية، ودخلت في المواجهة الميدانية مع الأنظمة الفاسدة النتنة المستبدة، وتحملت العذابات المتتالية من قَبَلِ قوّات القمع الحامية لتلك الأنظمة الفاشية، عَبْرَ مَشَاهِدَ كفاحية أنموذجية واعية بضرورة الفِكَاك مِن عُهُودِ الأسْرِ والتسلط اللعينة. استجمعت الأمة العربية المسلمة عناصر قوتها ونَخْوَتِهَا وحرّكَتْ مَكُّوكَ الإرادة والإلهام من الله ومن دين الإسلام، مما أثمر لديها طاقة ميتافيزيقية دافعة، وشحْذاً لعزيمة النضال والكفاح، ولسانُ حالِها : مَن يُؤْثِرِ التّغييرَ يَبْذُلْ فيهِ طاقتَهُ ومَن يَكُ هَمُّهُ أقصى العُلا يَصِلِ لا شيء يُقْعِدُ آمالَ النّفوس إذا خَلَتْ مِن الضَّعْفِ واستعصَت على الكسَلِ ولقد بات جليًّا أنّ أمتنا العربية المسلمة التي تحرّكت من أجل كرامتها وحريتها، لم يُخْرجْهَا من بيوتها دافع الخبز أو الكرامة فقط، ولا حتى المطالب الاجتماعية من عيش بِرَفَاهٍ، وسكَن لائقٍ، ودَخْلٍ مُحتَرَمٍ فحسب؛ وإنما ساهم الدين الذي أخذ زمام المبادرة في هاته الثورات المستقر في أفئدة المؤمنات والمؤمنين شبابا وشيوخا بقسط وافر في خروجهم وتَرَاصّهم في الشوارع والأزقّة، واستعدادهم لإهدار دمائهم الزكية فوق أرصِفَةِ الدُّروب، الدّين الذي عجزت الأنظمة العلمانية المتطرفة عن اجتثاثه من غوائِرِ قلوبهم، وإنه لأمْرٌ لا يُنكَرُ إلا مِنْ طَرَفِ مَنْ تَعَامَى عنْ رُؤْيَةِ ذلك . نعم؛ الدّين الذي أجمع عقلاء الأمة على أنه أتى ليكون ثورة على كل المظالم، ليكون دعوة إلى الحرية، إنه الدين الإسلامي الذي كان ولا يزال يحمل فكرة تحرير الإنسان والأوطان من ربْقَةِ الظّلم والظّالمين، وهو بتركيبته له منهج صارم في مناهضة الواقع اللاّإسلامي السّائد، وإزالة الفساد بكل مظاهره وتوجّهاته التحريفية والاستغلالية مقاومةً صادقةً ومُخلصة . هذا الدين الذي يلعب دوره المحوري في انبعاث الأمة العربية من جديد، هو نفسه الذي دفها إلى إعلان التمرد على القوى الاستعمارية إبان زحفها على الوطن العربي . لقد وَعَت الجماهير الشّعبة المسلمة عبر جهود المصلحين والوعّاظ والحركات الإسلامية المتغلغلة في أوساطها أن دينها الإسلامي يرفض الهوان والقبول بالدُّون، والرّضا بالموجود وعدم التطلع لتجاوز المحدود. وَعَتْ أنّ الإسلام يحمل اسمه من قوة الرّوح التي يغرسها في المؤمنين به، والتي يمكن أن تواجه كل الصّعاب، وتتحدى المظالم، وتواجه أعتى الديكتاتوريات . وقد شاهدنا كما شاهد العالم أجمع شباب الثورات وقد غَلَّتْ في صُدُورِهِم حَمِيّة الدّين، يرفعون شعارات " الله، حرية، عدالة اجتماعية .." يدافعون عن مكتسبات الشعوب المّادية والمعنوية، يُؤدُّون الصّلوات في السّاحات أفرادا وجماعات، معتصمين بقول الله { إنّ اللهَ اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة، يقاتلون في سبيل الله فيَقْتُلُون ويُقْتَلون، وعدا عليه حقا، في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به، وذلك هو الفوز العظيم }، فاختاروا الزّحف نحو الموت الأحمر زحف المستقتلين المستبسلين الذين يعلمون أنّ باب الحياة السّعيدة الأبدية لا يُفَتّحُ إلا بين يديْ الأرواح التي احتقرت أجسادها وازدَرَتْهَا وألقتْ بها خَلفها، راغبة فيما عند خالقها { وما عند الله خير وأبقى }. فَأمَارَاتُ دَور الدّين في الثورات العربية السلمية كان ولا زال باديا على مستوى السّلوك الراقي فيما بين الثوار والثائرات في الميادين، وعلى مستوى التعايش والإخاء والمُعاضدة والمساعدات الإنسانية النبيلة، وعلى مستوى الحرص على أداء الصّلوات المفروضة، وإقامة خُطب الجمعة الميمونة، واستقبال الرّمُوز الدّينية من علمَاء الثّورة إلى السّاحات، وعلى مستوى تواجد ثُلّة من العلماء والدّعاة الحَرَكيين في الهيئات التنسيقية للثورات، وعلى مستوى المشاركة الوازنة للتيارات السلفية..إلخ، ففي تونس الإباء ومصر وليبيا واليمن وسوريا رأينا ولا زلنا جموع الثائرات والثائرين : يمشُونَ نحو بيوتِ الله إذ سمعُواْ اللهُ أكبرَ في شَوْقٍ وفي جَذَلِ أرواحُهُم خَشَعَتْ لله في أدب قلوبهم من حَلال الله في وَجَلِ نجواهم؛ ربنا جئناك طائعةً أنفسُنا، وعصينا خادم الأملِ إذا سجى الليل قاموا وأعينهمْ من خشية الله مِثْل الجائد الهَطِلِ همُ الرّجال فلا يلهيهِم لعبٌ عن الصّلاة ولا أكذوبة الكسَلِ إنّها بٍحَقّ مدرسة؛ فيها وحدَها استطاع نساءها ورجالها إذكاء شعلة حماسهنّ وحماسهم، ونشر نور الإسلام قدر المستطاع في الأرجاء التي لَفّتْهَا ظلمَات الديكتاتورية ودَثّرَهَا إزارُ الاستبداد. وكم كانت صادقة قولة المجاهد الرّاحل عبد الله عزام حين قال : " إن الأبطال الحقيقين هم الذين يخطّون بدمائهم تاريخ أمتهم، ويبنون بأجسادهم أمجاد عزتها الشامخة، ويشيدون بجماجمهم حصونها المنيعة .." ، فعلى كل الثوار الذين قضوا نَحْبَهُم آلاف الرحمات نَسْتَنْزٍلُها بالدعاء تَتْرَى من الله رب العالمين . ومنهم من ينتظر، لازالوا يحملون بين جوانحهم هُمُومَ المجتمع كله، ويشعرون في أعماقهم بمسؤولية تاريخية تُجاه حاضر الأمة ومستقبلها، يحرصون على تغيير المصائب إلى رحمات، وتحويل زخّات البلايا إلى مرشّحات للتطهير والتصفية، ويحملون على عاتقهم قضية الإطاحة بالاستبداد، وبمحاكمة الذين طغَوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وسيظلّون لهم بالمرصاد { وما يعلم جنود ربك إلا هو } . تفطّن هذا الجيل المشدود الأوتار بالميتافيزيقي الغيبي أن الله جل في علاه قد امتحن الإنسان بالرّخاء والشدّة ليرى حركته وسلوكه ومدى تفعيله لنداءات الإسلام وتصرّفه مع المتغيرات من حوله.. فتحَصَّلَ لديهم عن قناعة أنه إذا ما توقفت حركة الأمة العربية المتجددة، واستكانت إلى صورة استاتيكية ثابتة، فإن تاريخها عندئذ سيتشكل بعيدا عنها . لذلك نَفَرُواْ شيباً وشبّاناً استدراكا للّحظة التاريخية وتحقيقا لتوصيف الله في كتابه لأمة محمد ب " خير أمة أخرجت للناس"، إخراجَ ممارسة وتفعيل لمقتضيات الحق والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أخْرجت ليُتِمَّ الله بها نوره، أخرِجَتْ لتحقيق وعد الله بالتمكين لوَرَثَةِ الأرض الصّالحين ودحْر المتعالين المستكبرين الفاسدين، أخْرِجَتْ لتُخرِج العباد كلّ العباد من عبادَة أباطرة الاستبداد إلى عبادة القاهر فوق العباد، ومن جور الإيديولوجيات والأديان إلى عدل وسماحة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَةِ الدّنيا والآخرة. نعم؛ أخرجت لتُعليَ صَرْحَ حَضَارَةٍ مُتعبِّدَةٍ مُتَمَدِّنَةٍ تَحَارُ دُونَهَا العُقُول، ولإحياء الإسلام بمثالية متوازنة لا خلل فيها ولا شَلَل . هذا الإسلام الذي كان على طول امتداد تاريخ المؤمنين ورُقْعَتهم الجُغرافيّة المُؤَطّرَ الأوّل للوعي التّحَرُّري لدى الشّعوب الإسلامية، والمُحَرّكَ الأقوى نحو التجديد والفَعالية الحضارية، ومَنبَعَ القوّة النضالية لدى المسلمين، ومَصدر الدفع والتصدّي، والمَد الثوري الجذري والتدرجي على السّواء .. وكان بِرُوحِيّتِهِ وعمْقِ عقيدته وسيبقى وراء سلسلة الانتفاضات الثورية وحركات التّحرر في العالمين الإسلامي والعربي ومقاومة الاستعمار الخارجي، ودفع المظالم والمَفَاسِدِ والتسلّط الداخلي، وأعطى لعالمنا الإسلامي سلسة مُتَّصِلةً من المُصلحين والقادة المُغيّرين وروّاد الجهاد والإصلاح . وفي اعتراف ضمني صريح أشار البروفيسور صمويل هينتينجتون في أطروحته صدام الحضارات الصفحة 61 قائلا : " .. الدين قوة مركزية؛ إن لم نَقُلْ إنّه القوة المَركزيّة التي تشحذ الطّاقات وتوجّهُهَا نحو الفعل في العالم المعاصر .." والآن؛ لا زال العرب والمسلمون يعملون بوفاء وعزم على بَلورَة الإسلام الحقّ وتعزيز موقعِهِ ودورِهِ في حركة التّحرر وديناميكية الثورات، ثم تستأنف العمل على توظيفه إن جاز اللفظ عاملَ وِحْدَةٍ ومَنْبَعَ قوّةٍ في مَعَاركِهَا ضدّ الفساد والاستبداد . وإذا كان تَوَقّعُ المناضل المسلم الرّاحل علي عزّت فيغوفيتش سنة 1967 م ما يلي : " إننا نشاهد اليوم ظهور حركة وإرادة جديدة في بلاد العالم الإسلامي، لأنّ حالتنا هي حالة حركة وبحث .." ، فما التعليق أو التوقع الأمثل لما يحياه عالمنا العربي الإسلامي اليوم ؟ بلا ريب .. أننا إذا استطعنا أن نستثمر المرحلة التاريخة التي نَمُرُّ منها قدر المستطاع ؛ بأفكار عظيمة، وحكومات مستقيمة، وشعوب سليمة، ومشاريع هادفة، ومؤسسات فاعلة، وقِوىً حية، ورؤى مُمْكِنَة التحقّق، وعزيمة متبصّرة، فإن فرصتنا في رجحان كفة ميزان المُلتقَى القَدَرِي لصَالِحِنَا أسْنَحُ بكثير لكي يَبْزُغَ نَجْمُ سَعْدِنَا متألّقًا في الآفاق ، ولن يُخيِّبَ اللهُ مَسْعَانَا . والحمد لله الذي بفضله هذا المقال تَمَّ، وبالنفع والخير عمَّ..