بعد تشرّد دام 19 عاماً، خرج محمد العوت الستينيّ من الشارع. يقول إن "لكل شيء بداية ونهاية، حياة وموتاً". إذاً، انتهت حياة العوت الماضية، وبدأت أخرى حين وصلت إليه جمعية "القلوب الرحيمة" في إحدى الليالي، هي التي اعتادت تفقد المشرّدين في الشارع. كان يجلس على قطعة كرتون في أحد شوارع مدينة طنجة، فسأله أعضاء الجمعية عما يحتاجه، وقدموا له الطعام والأغطية. كان يعيش حياة مستقرّة مع عائلته في حيّ الموظفين في طنجة إلى أن توفي والده. بدأت المشاكل مع عائلته، وتحديداً مع زوجته حول الإرث. تغيّب عن العمل لمدة ثلاثة أشهر، حتى طرد منه. يقول ل "العربي الجديد": "في عام 1978، حصلت على شهادة الثانوية العامة من مدرسة ابن الخطيب في طنجة، وتدربت لمدة عامين لأعيّن في مدينة الحسيمة. وبعد ثلاث سنوات انتقلت للعمل في طنجة. لكن مشاكلي العائلية والديون أثّرت على تركيزي في عملي". يتابع: "تغيّبت عن المدرسة مدة ثلاثة أشهر. وحين عدت، طُلب مني جلب شهادة طبية. مع ذلك، لم أحصل على جواب بعد عدد من رسائل الاستعطاف التي قدمتها لوزارة التربية الوطنية. شعرت بأنه غير مرغوب بي في العمل. إثر ذلك، تركت المدينة قبل أن أعود إليها في وقت لاحق. لكنني انقطعت عن زيارة البيت لمدة 19 عاماً، أي حتى اليوم". هذا الرجل الذي ولد في الدارالبيضاء في عام 1955، تنقل بين الشارع وبيوت أصدقائه، وأصيب بمرض السكري وضعف النظر. يضيف: "كانت معاناة.. معاناة". سعى إلى حل مشاكله، لكن "تركيبة الأسرة المغربية"، على حدّ قوله، حالت دون ذلك. ويوضح: "إن كنت زوجاً لا يعمل، تطلب الزوجة الطلاق. وقد طلقتني زوجتي غيابياً. حتى اليوم، لا أعرف ابني الذي ولد في عام 1985. أشعر أن ثمّة من حرّضه ضدي. أما ابنتي المتزوجة، فأزورها في المناسبات". تعتقد عائلته أنه ارتكب خطأ كبيراً حين انقطع عن العمل.. "قالوا إني أحمق". في وقت لاحق، حاول مدرّس اللغة العربية للصف السادس الحصول على وظيفة في التعليم الخاص من خلال أصدقائه، لكن إحباطه زاد حين رُفضت طلباته. مرّت السنوات وظل يحمل الوثائق الرسمية والأوراق بين مكاتب المحامين والإدارات، ليتقاضى مبلغاً بسيطاً من جرّاء عمله. وكان عمله في الصيف أفضل من الشتاء. أيضاً، ساعده أصدقاؤه النقابيون. يقول إنه تعلم كثيراً خلال وجوده في الشارع، "عرفت كيف يتعامل المجتمع المغربي مع المشردين". صار يسأل عنهم. يضيف: "ذمّة تعقيدات كثيرة. كيف يتغير كل شيء بين ليلة وضحاها؟ لم أتوقع أبداً أن أصير في الشارع، وقد عشت في كنف عائلة. تغيّر كل شيء حين توفي أبي. نمتُ في الشارع وفي المقاهي وبيوت الأصدقاء. لكنهم يرحلون". كانت المعاناة كبيرة في الشارع. يقول إنه قضى "ليالي صعبة جداً. لم أكن أنام جيداً. وبين الحين والآخر، تقع مشاكل أو يعتقل رجال الأمن عدداً من المشردين". كان يتجنب المشاركة في أي حراك خشية أن تنفلت الأمور، لافتاً إلى أن بعض هؤلاء يستخدمون أقراص الهلوسة وغيرها. أما الدواء، فكان يقدمه له أحد أصدقائه الأطباء، الذي كان يترأس جمعية لمرضى السكري. وبسبب مرضه، كان مضطراً إلى تناول ست وجبات خفيفة، وكان هذا أمراً صعباً بالنسبة إليه. ويشير إلى أنه كان يحتفظ دائماً "بقارورة زيت زيتون وبخبز. وفي بعض الأحيان، كنت أعجز عن تأمين الطعام لمدة يومين". في النهاية، التقى بجمعية "القلوب الرحيمة". الأخيرة تواصلت مع عدد من الصحف لكتابة قصته. يقول: "فوجئت لأن أحد الصحافيين كتب قصتي. اشتريت الجريدة وطويتها ولم أنظر إليها حتى ذهبت إلى المقهى. وصدمتُ لأن الخبر نشر في الصفحة الأولى، وفي أسفل الخبر كتبت عبارة: أنظر الصفحة الخامسة". بعد ذلك، بادرت نيابة التعليم في طنجة إلى الاتصال به واستقباله لفهم حكايته القديمة. يخبر: "رحّب النائب بي وفوجىء حين سمعني أتحدث بشكل سليم. وعدني بإنجاز مسائل إدارية وبذلِ جهدٍ للحصول على تعويض عن السنوات الماضية. كان عليهم تحضير بعض الوثائق لأنني فقدت وثائقي الرسمية في العمل". بعد حصوله على تعويضات، يفكر في التطوع ومساعدة الناس، هو الذي عاش في الشارع ويعرف أسراره. العمل التطوعي، بالنسبة إليه، مهم جداً. يلفت العوت إلى أنه مدمن على قراءة الصحف اليومية، وكثيراً ما كان يقرأ قصص التعساء والبؤساء. يقول: "كان يعجبني الكتاب والمفكرون القدامى، مثل المفكر المغربي عابد الجاب، وتأثرت بمحمود درويش وغسان كنفاني". يضيف: "يوم كان درويش حيّاً وتنظم له أمسيات في العاصمة الرباط، وخصوصاً في مسرح محمد الخامس، أصررتُ وصديقي على الحضور. يعجبني صوته وطريقة القائه. وكلّما سمعته أبكي". يذكر أنه "ربما ذهب إلى الأمسية أشخاص لا يعرفون القراءة والكتابة. أرادوا أن يسمعوه فقط". على الرغم من كل معاناته، لم يفقد الأمل. ويرى أن الصدفة التي جعلته يلتقي أعضاء في جمعية "القلوب الرحيمة" في الشارع، قد تعوّضه قليلاً. (*) العربي الجديد