عندما جاء أردوغان إلى مصر فى سبتمبر 2011 تلقيت ضمن لفيف من المصريين المهتمين بالشأن العام دعوة على العشاء يحضرها الضيف الكبير، ولبَّيتها بحماس وتفاؤل شديدين، فقد بدا لى الرجل أسطورة حلَّت مجموعة من المعضلات التاريخية فى العالم الإسلامى، والتناقضات بينه وبين العالم الواسع المحيط به، متبنياً صيغة متوازنة بين سؤال الهوية الإسلامية التى هى حقيقة وجود، والحداثة التى هى ضرورة تعايش، بلا إفراط ولا تفريط، وحدث أن استقبله شباب الإخوان بأهازيج حلم الخلافة عند وصوله، لكنه بعدما أعلن أنه حاكم مسلم لدولة علمانية ونظام ديمقراطى أداروا له ظهورهم ولم يخرجوا لوداعه عند سفره. وفى لقاء العشاء تأخر أردوغان ثلاثة أرباع الساعة عن موعده فلم أتذمَّر ولم يتذمَّر غيرى، فقد كنا فى شوق للقاء «نموذج» إسلامىِّ الوجه عصرىِّ التوجه، نابذ للتطرف، ديمقراطى، وبطل من أبطال التنمية فى بلاده. موهوب بلا شك، فالقيادة أيضاً موهبة. هلَّ علينا أردوغان بحضور قوى وودٍ رصين، وتكلم بحديث صافٍ من كل كدرٍ خِلافىٍّ، فخرج ومعظمنا متفقون على محبته، وكان- وما يمثله بالنسبة لى- حلماً فى دولة مصرية ديمقراطية حديثة، لا تتنكر لهويتها الروحية، ولا تستخدم هذه الهوية للعصف بالمختلفين معها، وتُعلى من حق المواطنة وحقوق الإنسان فى الكرامة والحرية والعدالة واختيار طريقة العيش التى تروق لكل إنسان ما دامت لا تنفى أو تجرح اختيارات الآخرين.. ولعلِّى كنت مِن أول مَن روَّجوا لمقولة أردوغان فى حملته الانتخابية «إن احترام اختيار الناس لطريقة عيشهم ليس وعداً انتخابياً بل مسألة شرف»، كما كنت ربما أول مَن نقل إلى عموم المصريين، عبر لقاء تليفزيونى، فيديو لأردوغان وزوجته الإنسانين الجميلين وهما يشدوان بأغنية عن الحب فى حفلٍ ساهر. لكل ما سبق، وبعد 30 يونيو وما أعقبها- وأراه، ولا أزال، مروءة لا انقلاباً بعد ما أذاقنا إياه حكم تنظيم الإخوان من مرارات الاستحواذ والتمكين والغرور الفج والكذب وسعار السلطة وغياب الرؤية والجلافة والفشل والإحباط فى الحاضر واليأس من المستقبل، ثم ما اقترفوه من عنف وكذب ولجاجة وكراهة وإثارة للفوضى والفتنة بعد زوال سلطتهم- بدا أن هناك أردوغان آخر يخرج من جلد أردوغان الذى أحببته كما ملايين المصريين الذين أحبوا نموذجه، وتوهموا أن الإخوان المسلمين المصريين سيتأسّون بأدائه، فقد صار الرجل مشاغباً إخوانياً كما عوام الإخوان الذين تفجَّر شغبهم بعد ضياع حكمٍ لم يصونوه ولم يُقدِّروه حق قدره، فى بلد كبير اعتبروه غنيمة للتوزيع فيما بينهم والإهداء منه للأنصار، وأسوأ من ذلك أنهم تعاملوا مع مصر الكبيرة وعميقة التاريخ والثقافة بخفة وفظاظة، على اعتبارها مجرد خطوة يدوسونها نحو حلم أو وهم «الخلافة»، ونرجسية وخيلاء وكِبر «أستاذية العالم»! فجأة رأينا أردوغان آخر، يخلع جِلْد رجل المصالحة بين الأصالة والمعاصرة، حاكم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة بهوية إسلامية عاقلة ورشيدة، رجل التنمية الناجحة ومد جسور الصداقة مع الجوار والعالم، يتحول بين ليلة وضحاها فيقف على المنصات فى بلده وبين مناصريه وكأنه يقف على منصة رابعة التى اختلط حابلها بالنابل، وطوَّحت بادعاءات السلمية فيها لغة التكفير وتهديدات قطع الرقاب والسحق وتفجيرات السيارات المفخخة، والتدريبات القتالية، ولو بالعصى، وإقامة المتاريس، والتغاضى المتعمد عن وجود ولو القليل من السلاح فيها لاستدراج الدم وتصنيع المظلومية، ثم حملات الإغارة التى تخرج من قلبها للترويع بمسيرات معبأة بالعنف تناوش هنا وهناك ثم تعود إلى «رابعة» لتتحصَّن! كل هذا لم يطقه سكان ومُرتادو المكان، كما لم يعد يحتمله بلد قالت أغلبيته (لاااااا) هائلةً هولَ عشرات الملايين الذين خرجوا رافضين حكم الإخوان.. ثم كان الفض، وكانت الدماء، حيث ارتُكبت أخطاء وربما خطايا لابد من الاعتراف بها ومحاسبة مرتكبيها فى ضوء القانون، ولا ينبغى فى هذا الاعتراف وهذه المحاسبة أن نتناسى دور من يتصورون أنفسهم أولياء الدم وحملة لواء المَظلَمة، من قادة الإخوان ومن لف لفهم فى الدفع إلى إسالة هذه الدماء وتزيين إسالتها باسم الشهادة، وهى لأسباب تتعلق بشهوتهم للسلطة أكثر من أى شىء آخر، بدليل أنهم كانوا أول الفارين. هكذا هى رابعة، بقدر ما هى مجزرة مؤلمة فهى إدانة لكل مرتكبيها متعددى الأطراف، وعلى رأسهم من دفعوا إليها بلؤم، ثم صاروا يتاجرون بها لاستعادة حكم أهدروه قبل أن يفقدوه. وبين هؤلاء وجدنا أردوغان لا يتصرف كحاكم مهم لبلد كبير وعريق كتركيا، بل كبوق متشنج لتنظيم دولى، كأنه متظاهر إخوانى من العوام، بين هؤلاء الذين تنفخ فى صورهم المهلهلة قناة الجزيرة، يرفع يده بالإشارة التى صممتها- بناء على طلبه مدفوع الأجر بسخاء- شركة إعلان وتسويق دولية. وبعدما طُرِد السفير التركى نتيجة لتحرشات رئيسه، وما خفى كان أخطر، وجدنا أردوغان يتحول إلى صفوت حجازى وهو يردد بسماجة ولجاجة: «رابعة رابعة رابعة رابعة»! ما الذى نزل برجل كان هائل الوعد إلى هذا الدرك؟ سؤال أحاول الإجابة عنه، نفسياً، من خلال ما أسميه «سيكولوجية الأقفاص»، التى تُفسِّربعض غرائب تحولات البشر وعجائب مسخهم، وقد اشتققت المصطلح من الأدب، فأول كتاب قصصى أعددته للنشر ولم يُنشر كما أردته كان بعنوان «بشر الأقفاص»، وكنت أطمح من خلاله إلى تصوير تفاعلات البشر فى أقفاص السجون، والمرض، والغرور، والصَّغار، والحاجة، والحب المُدمِّر، والكراهية المرة، وقسوة الواقع، وغير ذلك مما يشكل نوعاً من الأسر للكائن الإنسانى الذى لا يمكن أن يمتلك إنسانيته إلا بالحرية والسلام والحب الخلَّاق. لقد عشت وعاينت كثيراً من تفاعلات «سيكولوجية الأقفاص» هذه ومنها سيكولوجية الأسر فى قفص التنظيمات الأيديولوجية الجامدة، شيوعية كانت أو إسلاموية، وهما وجهان لظاهرة واحدة تشمل كل التنظيمات المتعصبة، خاصة السرية، رغم ما يبدو بينهما من بون شاسع؟! باختصار، أنت عندما تتعامل مع إخوانى متعصب أو شيوعى متخشب، كإنسان فرد فى أمور إنسانية، يمكن أن تجده لطيفاً وقريباً وقد تحبه، لكن جرِّب أن تلمس إخوانيته أو شيوعيته بالانتقاد، يا لطيف، يتحول إلى خصمٍ عدوانى لا يقبل بأقل من انتصار كامل لموقفه مهما كان خطله. ما السبب؟ السبب أنه فى هذه الحال لا يتكلم بصوت الإنسان الفرد الذى يمثل ذاته والذى خلقه الله حراً، بل يتكلم بصوت الجماعة أو التنظيم، ويصير حلقوماً لقفص حديدى يدين بالسمع والطاعة للجماعة فى الحالة الإخوانية، وبالالتزام التنظيمى فى الحالة الشيوعية! ويعبد الأيديولوجيا فى الحالتين! يفقد كينونته الفردية الإنسانية الحرة، ويصير مضغوطةَ جماعةٍ هائجة مدرَّعة بقفص أيديولوجى، ويهاجمك لابساً هذا القفص! وأردوغان الذى أمعن فى معاداة غالبية المصريين بعد إزاحة حكم الإخوان تردَّى إلى هذه الحالة بفعل تلبُّسِهِ قفصَ التعصب الإخوانى، كما زاد من توحُّش تردِّيه ضياع حُلمٍ خيلائى ظل يُحكِم إخفاءه، بأن يستعيد إمبراطورية بائدة، يصير سلطانها! لكن، هذه السلطنة المطموحة التى تسلك سبيل التعصب والتآمر الدولى لا تُزرى فقط بهذا الحلم فى المنطقة، بل تقضى على عرَّابه فى بلده. إنها لعنة الإخوانية التكفيرية فى أعماقها، والأنانية الإقصائية الانتهازية فى مسلكها، والتى ما لمست أحداً أو كياناً أو مكاناً إلا وأحرقته، أو تدنَّت به، وهذا ما حدث لأردوغان. للأسف. قُبيل النشر: رغم رداءة الطقس، ومحدودية الحشد، استطاع أطباؤنا المستقلون تحرير «نقابة أطباء مصر» من اختطافٍ إخوانىٍّ كئيب، وغير عادل، طال أكثر من ربع قرن. أُحيِّى أبطال هذا التحرير، وأفخر الآن أكثر بانتسابى لهذه النقابة.