إقليم تطوان .. حجز واتلاف أزيد من 1470 كلغ من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك خلال 4 أشهر    منتدى الصحراء للحوار والثقافات يشارك في الدورة الثانية من مناظرة الصناعات الثقافية والإبداعية    خطاب خامنئي.. مزايدات فارغة وتجاهل للواقع في مواجهة إسرائيل    التعادل ينصف مباراة المحمدية والسوالم    قرار محكمة العدل الأوروبية.. فرنسا تجدد التأكيد على تشبثها الراسخ بشراكتها الاستثنائية مع المغرب    مصدرو الخضر والفواكه جنوب المملكة يعتزمون قصْدَ سوقي روسيا وبريطانيا    إسبانيا تتمسك بسيادة المغرب على الصحراء    مغاربة يحيون ذكرى "طوفان الأقصى"    أساتذة كليات الطب: تقليص مدة التكوين لا يبرر المقاطعة و الطلبة مدعوون لمراجعة موقفهم    هكذا تفاعلت الحكومة الإسبانية مع قرار محكمة العدل الأوروبية    قرار محكمة العدل الأوروبية: فرنسا تجدد التأكيد على تشبثها الراسخ بشراكتها الاستثنائية مع المغرب    وزير خارجية إسبانيا يجدد دعم سيادة المغرب على صحرائه بعد قرار محكمة العدل الأوربية    إعطاء انطلاقة خدمات مصالح حيوية بالمركز الاستشفائي الجامعي الحسن الثاني ودخول 30 مركزا صحيا حضريا وقرويا حيز الخدمة بجهة فاس مكناس    ثلاثة مستشفيات في لبنان تعلن تعليق خدماتها جراء الغارات الإسرائيلية    ريدوان: رفضت التمثيل في هوليوود.. وفيلم "البطل" تجربة مليئة بالإيجابية    مسؤول فرنسي: الرئيس ماكرون يزور المغرب لتقوية دعامات العلاقات الثنائية    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    امزورن.. سيارة ترسل تلميذاً إلى قسم المستعجلات    المحامون يقاطعون جلسات الجنايات وصناديق المحاكم لأسبوعين    مرصد الشمال لحقوق الإنسان يجمد أنشطته بعد رفض السلطات تمكينه من الوصولات القانونية    ابتدائية تطوان تصدر حكمها في حق مواطنة جزائرية حرضت على الهجرة    صرف معاشات ما يناهز 7000 من المتقاعدين الجدد في قطاع التربية والتعليم    تسجيل حالة إصابة جديدة ب"كوفيد-19″    بوريس جونسون: اكتشفنا جهاز تنصت بحمامي بعد استخدامه من قبل نتنياهو        باريس تفتتح أشغال "قمة الفرانكفونية" بحضور رئيس الحكومة عزيز أخنوش    فيلا رئيس الكاف السابق واستدعاء آيت منا .. مرافعات ساخنة في محاكمة الناصري    وزارة الخارجية: المغرب يعتبر نفسه غير معني بتاتا بقرار محكمة العدل الأوروبية بخصوص اتفاقيتي الفلاحة والصيد البحري    الجماهير العسكرية تطالب إدارة النادي بإنهاء الخلاف مع الحاس بنعبيد وارجاعه للفريق الأول    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    إيقاعات ناس الغيوان والشاب خالد تلهب جمهور مهرجان "الفن" في الدار البيضاء    الاتحاد العام لمقاولات المغرب جهة الجديدة - سيدي بنور CGEM يخلق الحدث بمعرض الفرس    الفيفا تعلن تاريخ تنظيم كأس العالم للسيدات لأقل من 17 سنة بالمغرب    الفيفا يقترح فترة انتقالات ثالثة قبل مونديال الأندية    لحليمي يكشف عن حصيلة المسروقات خلال إحصاء 2024    آسفي: حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    اختبار صعب للنادي القنيطري أمام الاتحاد الإسلامي الوجدي    دعوة للمشاركة في دوري كرة القدم العمالية لفرق الإتحاد المغربي للشغل بإقليم الجديدة    الدوري الأوروبي.. تألق الكعبي ونجاة مان يونايتد وانتفاضة توتنهام وتصدر لاتسيو    النادي المكناسي يستنكر حرمانه من جماهيره في مباريات البطولة الإحترافية    ارتفاع أسعار الدواجن يجر وزير الفلاحة للمساءلة البرلمانية    التصعيد الإيراني الإسرائيلي: هل تتجه المنطقة نحو حرب إقليمية مفتوحة؟    ارتفاع طفيف في أسعار النفط في ظل ترقب تطورات الأوضاع في الشرق الأوسط    وزارة الصحة تكشف حقيقة ما يتم تداوله حول مياه "عين أطلس"    تقدير موقف: انضمام المغرب إلى الاتحاد الإفريقي وفكرة طرد البوليساريو "مسارات جيوسياسية وتعقيدات قانونية"    عزيز غالي.. "بَلَحَة" المشهد الإعلامي المغربي    آسفي.. حرق أزيد من 8 أطنان من الشيرا ومواد مخدرة أخرى    محنة النازحين في عاصمة لبنان واحدة    فتح باب الترشيح لجائزة المغرب للكتاب 2024    بسبب الحروب .. هل نشهد "سنة بيضاء" في تاريخ جوائز نوبل 2024؟    إطلاق مركز للعلاج الجيني في المملكة المتحدة برئاسة أستاذ من الناظور    الذكاء الاصطناعي والحركات السياسية .. قضايا حيوية بفعاليات موسم أصيلة    مستقبل الصناعات الثقافية والإبداعية يشغل القطاعين العام والخاص بالمغرب    الزاوية الكركرية تواصل مبادراتها الإنسانية تجاه سكان غزة    القاضية مليكة العمري.. هل أخطأت عنوان العدالة..؟    "خزائن الأرض"    موسوعة تفكيك خطاب التطرف.. الإيسيسكو والرابطة المحمدية للعلماء تطلقان الجزئين الثاني والثالث    اَلْمُحَايِدُونَ..!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضياعُ عالِمِ الدين في زحمة السياسة تأملاتٌ في نهاية الشيخ القرضاوي وبداية الشيخ الريسوني

قال الشيخ القرضاوي في حق أستاذ الأدب المقارن بالأزهر سعد الدين الهلالي، وهو علامة عصره:
«وهذاالمتملق الأحمق،الذي تكشف كتاباته وكلماته عن الهوس والانحدار الفكري والعلمي والأخلاقي لمنتسبي الأزهر،الذي هرم وأحيل على التقاعد، عندما ادعى أن الله بعث السيسي القاتل، وزميله المساعد محمد إبراهيم,وزير الداخلية- رسولين من الله!! لقد هرم الأزهر، ولكن شبابه وشاباته، وشباب مصر كلها، أثبتوا للعالم أنهم بخير». القرضاوي
يُعير غيرَه بالهرم والتقاعد!!
وقال لفهمي هويدي الذي سوى بين من أفتى بالتصويت ومن دعا إلى المقاطعة من شيوخ الأزهر:
«وقد سوَّى أخونا فهمي بين العلماء والجاهلين، وبين الطيبين والخبيثين، وبين أصحاب الحق وأتباع الهوى، واعتبر كلا من الفريقين يقول من رأسه ما يشتهي، وقد قال الله تعالى: قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ المائدة:100.».
هذان القولان وغيرهُما من الفحش الوارد في رد القرضاوي على هويدي أخرجا المقالَ أدناه من الحجز. وقد كتبته منذ حوالي أسبوعين، وعلقتُ نشرهُ. و»لو تُرك القطا ليلا لنام»، و»البادئ أظلم». فاستمعوا وأنصتوا لعلكم ترحمون:
صور ومفارقات
حين أتأمل «السرعةَ النهائية» التي انتقل إليها الشيخ القرضاوي مع بزوغ بشائر الربيع الديمقراطي، والنهاية المأساوية التي انتهى إليها محجورا عليه تَرِدُ على ذهني صورتان، بل مُفارَقتان:
الصورة الأولى: صورة الحَيَّاح والفَلاح. الحياحُ هو الشخص العاطلُ الذي يستأجرُه القناص أو القناصون؛ يصيحُ ويضجُّ، ثم تنتهي مهمتُه بإثارة الطرائد، وإخراجها من مخابئها. والفلاح هو الإنسان الذي يُحْيي الأرضَ المَواتَ، ويبذر البذور النافعة، ويقتلع النباتات الطفيلية التي تستنزف ماءَ التربة وسمادها بدون فائدة. الفلاح ينتظر الثمار بصبر؛ يجني كلَّ ثمرة في موسمها. مأساة العالم العامل أن يتحوَّلَ من فلاح إلى حياح مُسخَّر، ومن مقاول إلى مناول أو مُياوم، ومن مهندس يتصور إلى مرقِّع يحذو ما يخطه الآخرون.
والصورة الثانية: صورة سباق المسافات الطويلة والمتوسطة والقصيرة. العامل العالم يراهنُ على المسافاتِ الطويلة، ولذلك يُعوِّل على طول النفس، وليس على تَكْتيكات السرعة النهائية وخُدَعِها. السرعة النهائية حاسمةٌ في سباق المسافات المتوسطة، وهي رفع السرعة في اللحظات الأخيرة وَفْقَ حسابات دقيقة، ومراهنات تَكْتيكية خالصة، وهذه هي خاصية الممارسة السياسية المحضة: حيث يتبادل المتسابقون المواقع، ويزرعون جميعا ثم يحصُد الغلةَ الناضجةَ من يختار اللحظة، و»يَستيقظُ» قبلَ الآخرين دون أن يخدعه فجرٌ كاذبٌ، وكثيرا ما يكون مختبئا بين المجموعة المتصدرة. والعالم العاملُ ليس «أرنباً».
انتقال العالم العامل عشوائيا إلى السرعة النهائية وتكلُّفه مراوغاتِها خسرانٌ مَضمون. وأسوأ من ذلك، وأبعدُ عن الحكمة مشاركته في سباقات المسافات القصيرة جدا (الانقلابات) واستعمال الفتاوى الدينية في التدافع السياسي، ولسان حاله يقول: دَعْني أَمُرُّ، فحذائي أنظفُ!!
لا يَقبل العالمُ العاملُ أن يكونَ حَيَّاحاً، لأنه يعلم أن «الصيدَ سيكونُ لمن صاده، لا لِمَنْ أثاره»، بل يُصِر على أن يكون فلاحا، لأنه سيمتلك الأرض التي أحياها. العالمُ العامل يزرع الأشجار التي تثمر بعد سنوات، وشعاره: «زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون». وقد يطول به العُمر فيأكل مما زرع، ويسعد برؤية أبنائه ثم أحفاده يأكلون. أقبحُ ما يمكن أن يصاب به العالم حقا أن يُصاب بلوْثة القناص، أي مُتحيِّن الفرص الذي قد يطلق النار على أي حركة أو شبح فيصيب زملاءه، وقد يصيب قدمه. وهذا ما فعله الشيخ القرضاوي ومن اغتر به.
خروج الشيخ
الشيخ القرضاوي خرج فجأة من سباق المراطون الطويل الذي اختاره الإخوان المسلمون أوائلَ التسعينيات من القرن العشرين بعد المحن التي جرَّتها عليهم نزوات الجماعات التكفيرية الخارجة من عباءة سيد قطب. وقع ذلك بين اغتيال السادات (1979) واغتيال فرج فودة (1992). وكان الإخوان قد وصلوا مع حُسني مبارك ورجاله الخائفين من الحداثة كما هو حال فلولهم اليوم إلى توافق ضمني: تخلى لهم بمقتضاه عن المجتمع ومشاكله (الصحة والتعليم والفقر، وتنظيم الهيئات المدنية...الخ)، وتخلوا له مرحليا عن السلطة والمال والأعمال، ولم يمانعوا في التوريث. ولكل من الطرفين حساباته التي يُعوِّل عليها في تحديد لحظة الإجهاز على «شريكه القسري».
«تجري الرياح بما لا تشتهي السفن»! فَاجأتِ الشيخَ القرضاوي وإخوانَه ثورةُ الشباب كما سنبين فخرج (وخرجوا) من سباق الماراطون (سباق التربية والدعوة) إلى السباق الذي يُحسنه الجنيرالات ودهاةُ السياسيين، وفي قمة النشوة صاح: «أنا أقوى من السيسي، أنا أقوى من السيسي...»!! كلماتٌ حمقاءُ خرجتْ من فمِ عالم بقامة كبيرة، قالها من منبر صلاة الجمعة.
تعاطف مؤقت!
ونحن «نلتفتُ» إليه اليوم، ونقول له ولكل من يتعظ: صحيحٌ، يا شيخنا، لقد كنتَ أقوى من السيسي، ومن ألف سيسي عندما كان ملايين المسلمين يستمعون إلى دروسك أواخر القرن الماضي في برنامج «الشريعة والحياة». كنتَ تجيب عن أسئلة مُحرجة في المال والجنس، وفي السياسة من وراء كل ذلك، تبشر بإسلام وسط مُيسِّر لا مُعسِّر. وقتَها كنتَ أشهرَ من كل الجنيرالات والمريشالات العرب. الدليل على تميُّزك أنك كنتَ هدفا لهجمات المتطرفين التكفيريين قبل العلمانيين (من حزب التحرير والأحباش وغيرهما)، فأقل ما قالوه فيك ما جاء في كتاب: إسكات الكلب العاوي يوسف القرضاوي، المتداول على الشابكة.
كُنتَ الأقوى عندما انتقدتَ حماقةً واحدةً من حماقات طالبان، وعندما أعرضتَ عن بعض منتوجات الوهابية والقطبية الدموية، أما اليوم وقد صِرتْ تحملُ لواءَ المتطرفين والقتلة والسفاحين، آكلي أكباد الأسرى، وتُحيحُ لأصحاب الاستراتيجيات الكونية وأذنابهم في المنطقة، فقد تخلَّيتَ عن سلاحِك الشرعي مَكْمَنِ قَوَّتِك، وكشفتَ ظهرَكَ لِ»عَدوٍّ» صنعتَه أنتَ بشَرَهِك وتسرُّعك وسوءِ تدبيرك، لقد كنت في «دوخة»! يا لها من دوخة!
يا للمأزق! ها قد صاح بك القناص: «اسكتْ، اخرسْ»! فسكتْتَ. كيف تسمحُ لغيرك أن يضع لجاماً في فمك وأنت في قمة عنفوانك وعلى باب ربك. سمعتُك أخيرا تَصْغُر وتتضاءلُ وتغازلُ من صَرمتَ حبلهم، قاطعا شعرة معاوية معهم! وأنت تقول: يحبني أطفالهم ونساؤهم وشبابهم...الخ.
أشعرُ بمقدارِ الألم الذي يملأُ قلبَكَ، في آخر العُمر، وأنت تتحول من سمكة في بحر مترامي الأطراف، بَعيدِ الأعماق، إلى ذِئْب منبوذ تعوي أمعاؤُه في صقيع سيبيريا. رفيقُك في إطلاق «الشريعة والحياة»، وصبيُك الذي كان يُشبِّك لك خيوط الأسئلة هو وحدَه سيقاسمُك درجةَ الخيبة. فقد ضَحِكَتْ له الدنيا «الغدارة»، هو الآخرُ، حين حولتْه «الجزيرةُ» من صحفي مغمور (على هامش مائدة الإخوان) إلى حاكم بأمره: يُدين ويُبرئ الحكامَ العرب، الأحياءَ منهم والأموات، بمعيار واحد: «كُلُّ ما قبلَ الإخوانْ، ضلالٌ وبُهتان»، وكل من لم يُعطِ خدَّه الأيسر للإخوان بعد لطم خده الأيمن فهو سفاح مجرم. لم يجد حسنة واحدة، ولا عذرا مقبولا، لحاكم، حتى ولو كان اسمُه محمد الخامس أو جمال عبد الناصر أو الحبيب بورقيبة، أو الملك فيصل.
اليوم أصبح هو الآخر صوتاً مبحوحاً بين أصواتِ عشراتِ الصحفيين المصريين والعرب الذين جندهم المقاولون العرب والحكومات الخليجية للتصدي للجزيرة وكَسْفِها قبل خَسْفها. أصبحنا أمامَ ألف أحمد منصور، بين خاذل ومخذول من الكذابين والمزيفين، صارت الجزيرة نقطة في بحر من البهتان. لقد ساهمتم، أيها الشيخ، في أن يُصبح البهتانُ شريعة.
انتشار واستدراج
وأمام القرضاوي وقَفَ مفتي مصرَ الأسبقُ، علي جمعة، يَرُد الصَّدى، ويضرب على نفس الطبل، ولسان حاله يقول: «السيسي يُنظِّفُ أحسن»، «لا تأْخُذْكم في الخوارج رأْفةٌ، اضْربْ في المَليانْ أتباعَ المرشدِ الفتَّان!».. واختلط الحابل بالنابل، لا ترى غير فقيهٍ ينطحُ فقيهاً، حتى استُدرج إلى الحلبة فقيهُ الأنوار سعدُ الدين الهلالي، فترك مَقامَه الرفيع ليناظر محمود شعبان مكفر جبهة الإنقاذ. استُدرج إلى هذا الخلط والخبط فركب الاستعارة مشبها عمل السيسي وإبراهيم (وزير الداخلية) بعمل موسى وهارون، واضعا مُرسي وشيوخه في مقام فرعون وسَحرتِه: فحين طغى الإخوان وحاولوا فرض تصورهم للدين على المصريين صاروا مثل فرعون الذي قال للمصريين: «ما أُريكُمُ إلا ما أرى»!
يرى الهلالي أنَّ اللهُ بعثَ لكلِّ سياقٍ من السياقين رجُلين: موسى وهارون لفرعون وسحَرَته، والسيسي وإبراهيم لمرسي وجماعته. ورغم البيان التوضيحي الذي قدمه فقيه الأنوار، رئيس قسم الفقه المقارن بالأزهر، فقد أصرَّ خصومُه على أخذ كلامه على وجه الحقيقة مُدعين أنه كفر إذا جعل السيسي وإبراهيم نبيين. جاء هذا النقاش بعدَ التُّرهات التي كانت تُذاع من منصة رابعة والنهضة: صلاة مرسي بالنبي، وصلاة جبريل مع المعتصمين...إلى آخر أحلام اليقظة التي كان الشيوخ يصنعونها صنعا، والجماهير المخدرة تبتلعها ابتلاعا. صدق الذي قال، مٍن ألفِ سنةٍ ونيفٍ: يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأمم!
شيخ مغربي يسبح في الغبار
في هذه الأجواء حركت العصبيةُ الإخوانيةُ أحدَ تلاميذ الشيخ القرضاوي النجباء من المغرب (وقد صار نائبا له في «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» الذي ترعاه دولة قطر)، فهاجم مُفتي مصر وجَرَّدَهُ من «العلم والدين والخلق» مرة واحدة، دون أن يقول: الله أعلم! وتصديقا لحديث سيد الخلق فقد باء بها أحد الرجلين. إنَّ تَدخُّل زميلنا، سيدي أحمد الريسوني، فضولٌ ما بعده فضول! أيُّ ذُبابة وخزتْ فقيهاً مغربيًا ليُقحم نفسَه بين قطبين أزهريين كبيرين؛ يختصمان في الصباح ويتعانقان في المساء؟! إنها ذبابة الأخونة! لقد تصورَ الشيخُ والتلميذُ أن الإخوان أصبحوا قابَ قوسيْن من السلطان. والنفس كالطفل، كما قال البصيري. وسنعود لهذا المسار.
زلة لا تغتفر
انحدر الشيخُ القرضاوي إلى الحضيض فعيِّر الجيشَ المِصريَّ، جيشَ وطنه الأم، بهزائم يرى (هو لا أنا) أنه حصدها على مدى قرن من الزمن. وبقطع النظر عن مدى صدق هذا الادعاء تاريخيا وواقعيا (وهو غير صادق قطعا) فإن مثل هذه الطفوليات تُعبِّر عن عَمَاء استراتيجي، بل عن غباء سياسي، بل عن انتحار أخلاقي. فهل هناك من غباء أو عقوق فوق إهانة آلاف الجنود والضباط الشرفاء الذين أراقوا دماءهم تطوعا حبا في وطنهم: من أجل الاستقلال أولا، ومن أجل استرجاع السيادة على القناة ثانيا، ومن أجل فلسطين ثالثا. هذا الغباء هو الذي حذا بصديق القرضاوي الشديد الإعجاب به، الفنان حسن يوسف، إلى حلق لحيته بَراءةً مما صارت اللحية القصيرة المشذبة رمزا له، والتصريح بأن القرضاويَّ الحالي ليسَ القرضاوي الذي عرفه، جازما بأن إسرائيل ركَّبت له شريحة في دماغه لبرمجته. ومثل هذا الغباء هو الذي جعل الشاعر عبد الرحمن القرضاوي، ابنُ يوسف القرضاوي نفسه يوجه رسالة إلى أبيه ينقض فيها فتواه بشرعية حكم مرسي الناقض لكل العهود، حسب عبد الرحمن بن يوسف القرضاوي. لم أسمع أن القرضاوي علق على موقف أي من الرجلين.
قصة الخروج
من الأكيد أن سلوكَ عالم كبير في حجم القرضاوي لا يمكن أن يُفسَّر كلُّه، من أوله إلى آخره، بالتحكم عن بعد (الريموت القطري التركي الأمريكي)، وإن ظهر هذا العاملُ حاسما في إطلاق السرعة النهائية التي أجهضتْ حلم الرجل. ولذلك لا بد من البحث عن عناصر أخرى تتعلق بمسار الرجل بين «إخوانه»: كيف عاد الشيخُ من منطق التربية والدعوة بالتي هي أحسن إلى حمل لواء المتطرفين الدمويين.
أحسنُ من يقُص هذه القصة اليوم هو الأستاذ محمد حبيب النائبُ الأولُ للمرشد السابق، وقد قضى في الجماعة 43 سنة، وانسحبَ منها في صيف 2013. وتكتملُ شهادتُه بشهادة كمال توفيق الهلباوي الناطق الرسمي السابق باسم الإخوان في الخارج، وأحد قادتهم البارزين إلى ما قبل الانتخابات الرئاسية. والكثير من أسرار مطبخ الجماعة موجود في كتاب الخرباوي: سر المعبد، وفي تصريحاته الكثيرة. وهي أخبار متواترة في شهادات عدد كبير من القادة السابقين الذين انفصلوا عن الحركة في ظروف تحوُّلها من العمل الدعوي إلى المغامرة السياسية. قصةُ القياديين الكبار المنسحبين من الجماعة ابتداء من 2009 إلى ما قبل الانتخابات الرئاسية جديرة بالتأمل والاعتبار. سيصدم المرء حين يسمع الأستاذ الجامعي الدكتور محمد حبيب يقول عن قادة الإخوان المعتقلين حاليا ما قاله مؤسس الجماعة، حسن البناء، في حق أعضاء «التنظيم الخاص» الذي جر الجماعة إلى مآزق لا قبل لها بها، ولا تتفق مع ما كان يريده لها، قال البناء، وأعاده محمد حبيب: «هؤلاء ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين»!!! (ما عليك إلا أن تطلب شهادته على اليوتيوب لتسمعها بالصوت والصورة.)
يُحَمِّلُ هؤلاء القادةُ أزمةَ الإخوان، ونهايتهم المأساوية، للمجموعة القطبية الميالة إلى التنظيم الخاص السري والمسلح، هذه الجماعة متكونة من شخصيات ضحلة الثقافة، ميالة إلى الحسم السياسي التآمري. وقد وجدتْ ضالتَها في زعماء لهم إمكانية التنسيق على المستوى العالمي، خاصة مع الولايات المتحدة. وهنا يوجهون أصابع الاتهام إلى خيرت الشاطر ومحمود عزت: يعتبرن الثاني عقلية تآمرية غامضة مهيمنة على التنظيم الداخلي، في حين كان الأول فاعلا بتوليه للجانب المالي والتنسيق مع القوى الفاعلة في المنطقة: الولايات المتحدة وتركيا وقطر.
أما مرسي والعريان والبلتاجي وبديع، ومن في مستواهم، فقد كانوا في العمل الميداني والواجهة البرلمانية والنقابية... وأدنى من ذلك بعض المتقنعين بالدعوة مثل صفوت حجازي ومجدي غنيم...الخ
تقول لي: وأين القرضاوي من كل هذا؟
يُفهم من كلام محمد حبيب أن القرضاوي كان مع الاستمرار في الدعوة والتربية لحين التوغل في كل مفاصل الدولة بعد امتلاك المجتمع، وكان مع الاحتكام لحُكماء الجماعة وعقلائها في المسائل الخلافية، التي ظهرت على السطح، بدلَ الحلول التآمرية التي يتبناها الجناح القطبي. وهذا يتطلب كبحَ جِماح الشباب المندفع مع القطبيين. وتهذيب الشباب يتطلب مراجعة مواد التكوين التي خَرَّجّتْ التكفيريين الجانحين إلى العنف. وفي سبيل هذا الهدف كُلِّفَ القرضاوي، وهو سلطة علمية واعتبارية لا يُعلى عليها في الجماعة، بمراجعة كتاب في ظلال القرآن لتخليصه من الأفكار التكفيرية. وبعد ثلاثة أشهر أعاد الكتاب إلى الجماعة مِّصرِّحا بأنه (أي الكتاب) «يَرَشَحُ كُفْرا»، أي لا يمكن إصلاحه. هذا ما يقوله محمد حبيب ويكرره دون أن يعلق عليه الشيخ القرضاوي.
كان الشيخ القرضاوي، حسب محمد حبيب، في ضفة الدعوة والتربية والاصطبار عليها، ولكن انطلاق الربيع الديمقراطي العربي أرْبَكَ حسابات الجماعة. اهتزت أركانُ التنظيم العالمي للإخوان، واضطربوا في تقدير مدى الهزة وآفاقها، فأعلنوا عدم المشاركة أولا، ثم عاودوا حساباتهم فشاركوا، وأعلنوا، في مصر، عدم الترشيح للرئاسة ثم عادوا ورشَّحوا، وأعلنوا عدم الاكتساح ثم اكتسحوا، ووعدوا بإشراك الحداثيين ضد الفلول ونَكَثُوا!
ذكر رشيد الغنوشي في رسالة وجهها إلى التنظيم العالمي للإخوان، توجد مقتطفات منها في موقع العربية، أنه لم يكن يتوقع أن يتجه إخوان مصر ذلك التوجه الإقصائي المخل بالعهود، ولذلك صدم عندما وصله خبر قرارهم بالمشاركة في الانتخابات الرئاسية، فطلب من أعضاء مكتب إرشاد النهضة الذين كانوا معه في اجتماع أن يصلوا صلاة الجنازة على إخوانهم في مصر.
لقد كان موقف الجماعة محكوما بأمرين:
أولُهما: الخوفُ من الشباب الديمقراطي الحداثي (العلماني الشيوعي...الى آخر النشيد الذي ينتهي بالقردة والخنازير). خافوا منه منتصرا على النظام، كما وقع في تونس، أو متفاوضا على حلول وسطى تُزيحُهم عن موقع الحظوة، أو تجنى ثمار الزقوم الذي غرسوه متوهمين أنه سيثمر رُمانا وعنبا يقطر خمرا.
ثانيهما: موقفُ الدول الإقليمية التي رَتبتْ أوراقَها مع البرنامج الأمريكي الذي اختار طريق «الفوضى الخلاقة» بعدَ أن يئس من قدرة الحكام الطفيليين المستبدين على استيعاب التطرف الديني الذي تجاوز حدود تلك الدول. فلم يعد هناك مُبررٌ لتحمل نقمة الشعوب العربية على أمريكا وهي تدعم أنظمة مستبدة بدون فائدة.
الوصية القاتلة
القرضاوي كان مقيدا بالتنظيم العالمي للإخوان، والتنظيم مقيدٌ بمخطط تركيا وأمريكا، و(مجازا) بإرادة الدولة التي تأويه. في هذا السياق مد رجله بدون تحفظ، واتخذ قرارَ السطو على «ميدان التحرير». طار القرضاوي أمام دهشة رفاقه الدعويين العارفين بدهاليز السياسة وتقلباتها إلى ميدان التحرير، وحُشِرَ له شباب الإخوان من كل صَوْبٍ وحَدَبٍ ليُعطيَهم «التوجيهات القاتلة» التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه اليوم: بين معتقل ومشرد. خطب فيهم خطبةَ أبي سفيان في صبيان بني أمية عندما تولى عثمان بن عفان (ض) خلافةَ المُسلمين، قال ما معناه: لقد آلت إليكم، يا شباب الإخوان، فتلقَّفوها تلقُّفَ الكُرة. وحتى لا تبقى عند عاقل منهم شائبة من عقل أو توبيخ ضمير، وهم يسطون على ثورة الشباب الديمقراطي الفايسبوكي، قال: لقد أخد العلمانيون فرصتَهم، وجرَّبوا حظَّهم، وتأكد فشلُهم، وجاء دورنا نحن «الإسلاميين» لننقد البلاد والعباد...الخ.
هذه هي العقيدة التي ظلت تتحكم في الشباب المنفذ: «جاء دورنا نحن الإسلاميين»، ومن سوانا فلول وشيوعيون تجمعهم العلمانية، وقد أخذوا حظهم. هذا المنطق الذي يجعل حَمْدين صباحي ورفاقَه، وحركةَ كفاية والبرادعي وسعد الدين إبراهيم...الخ في كفة واحدة، ويدعي أنهم جربوا حظهم، منطقٌ غير سياسي، إن لم نقل فيه أكثرَ من ذلك. نسي القرضاوي أن هؤلاء الحداثيين كانوا يشاركون الإخوان زنازينَهم طَوال عقود! فأيَّ حظ نالوا؟ وأي منهج جربوا؟ هذا المنطق البئيس الذي زرعَ القرضاوي بذرتَه هو الذي جعلَ مرسي وبديعْ ينكثون كل الاتفاقات والالتزامات التي أبرموها مع جبهة الإنقاذ، ويهاجمون زعماءَها، وينعتونهم بأبشع النعوت، ويُحرِّضون عليهم شيوخ الفضائيات المتقلبين ليكفروهم، على نحو ما فعل محمود شعبان المفتري على البلاغة: يدعي أنه أستاذ البلاغة بدون سَندٍ ولا رصيد.
كُرة أبي سفيان التي أمرَ القرضاوي شبيبة الإخوان بتلقُّفها شبيهةٌ بثمرة شجرة أسيوية بحجم الحنظل، أو أكبر قليلا، يُسخنها الصيادون في الماء المغلي، فوق النار، مدة كافية لتخزين درجات عالية من الحرارة. وما إن يظهر سمك القرش يحومُ حولَ قواربهم حتى يضعوها في طريقه ليلتهمها غير عارف بحقيقة مكنونها، فلا تلبث أن تحرقَ أحشاءَه، فيطفوا فوق الماء منقلبا حلى ظهره ليلتقطه الصياد جثة هامدة.
هستيريا الإقصاء والتفكيك
ابتلع إخوانُ مصر وصفةً صنعها شيخٌ هرمٌ يفكر بمحتوياتِ الكتب الصفراء، يتذكر أبا سفيان ولا يتذكر الفتنة الكبرى. ابتلعوه فأصيبوا بهستيريا الإقصاء والتفكيك، تفكيك دولة العلمانيين: اقتحموا السجون وحرروا المعتقلين مع ما ترتب على ذلك من قتل وتخريب. وما لم يحرروه من المجرمين بالاقتحام حرروه بالعفو الرئاسي. ثم أجْروْا عمليةً تجميليةً بسيطة على الجيش، فامتلكوا الدنيا! واستفزوا القضاء والمثقفين والصحافة والمؤسسة الدينية: الإسلامية والمسيحية. واعتقلوا وعذبوا على أبواب الاتحادية خارج القضاء. وصعدوا فوق منصة رابعة يتهادون فتاوى التكفير وخطب الهجاء ليل نهار: وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، ولكن فتوى الشيخ فعلت فِعلها في شق المجتمع المصري إلى فسطاطين: مؤمنون وكفار. يفعل الشيوخ هذه الأفاعيل ثم يمسحون الجرائم في الشباب المنفعل المتسرع الذي لم يتردد في الإلقاء بخصومه من أسطح العمارات!!
في هذا المسار وجد القرضاوي نفسه متورطا مع المعتصمين الذين دعاهم إلى تلقف الكرة المسمومة. وجد نفسه مضطرا للدفاع عن الاعتصامات والعنف والاغتيالات، فأطلق العنان لأكاذيب يستحيي منها الصبيان. يطلب من مستمعيه في خطبة الجمعة أن ينظروا إلى أيدي المعتصمين ليتأكدوا أنهم غير مسلحين!! ويطلب من الناس أن يصدقوا أن كل القتل والاغتيالات في صفوف الشعب والشرطة والجيش من تدبير الداخلية، أو الدولة عموما!! حتى محاولة قتل وزير الداخلية مسرحية! وبذلك صار معتقلا في الشبكة التي نسجها لاصطياد الآخرين: شبكة الكذب، وهو يعلم أن حبل الكذب قصير.
وديعة القرضاوي لدى فقيه مغربي
بعد أن استقال نائب القرضاوي في «الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين» مبررا انسحابه بخروج الاتحاد عن السكة التي رسمت له في البداية، وبعد استقالة جل صحافيي الجزيرة لنفس الأسباب، صار لدينا نحن المغاربة مرشح لرئاسة الاتحاد المذكور الذي صارت خارطته لا تتعدى مدينة الدوحة، المدينة وليس الدولة.
مُرشَّحنا هو الأستاذ الزميل الفقيه الذي وصفه عَرَّابُ الإخوان المسلمين في المغرب بالغباء (السياسي في الغالب) ظلما وبهتانا. وصفه بالغباء عندما خاض في معنى إمارة المؤمنين ومدى توفر شروطها. ولم يغضب الفقيه لأنه علم بسرعة ما يعنيه الدكتور الخطيب الذي يدعي أنه مَنِ اقترح هذه الصفة، بعد موت الملك محمد الخامس. فالإخوان يظنون أن من الأحسن دائماً أن يكون لجبتهم (جلابهم) «قُبٌّ (جيب خلفي) كبير يُخفون فيه الأشياء التي لا يستطيعون وضعها بين أيديهم تحت أعيُن العلمانيين الفضوليين الذين لا يكفون عن المطالبة بالمقاسمة. وقد استعمل فقيهنا ذلك «القُبَّ» بنجاح عندما عبَّر عن الخوف من إقفار ساحة إمارة المؤمنين بمناسبة مطالبة العلمانيين بحرية التدين والدولة المدنية: لا لحرية التدين لأنها ستؤدي إلى فراغ الجيب.
وخلافا لما اعتقد البعض من أن حاسة الشم عند فقيهنا صارت متأثرة برائحة النفط فقد لاحظتُ أخيراً أنه مازال يتنفس هواء المغرب من تحت الماء، عبْرَ قصبة على الأرجح. هذا الهواء القليل الذي مازال زميلنا الغالي علينا يتنفسه أعطى ثمارا رائعة أذهلت الدوحيين وسكان الخليج أجمعين. والغريب أنه يَضِنُّ علينا نحن إخوانَه المغاربة بأفكار جميلة صارت تعن له في المشرق، آخرها وأهمها (بجد) دعوتُه إخوانَه المسلمين إلى تبني حقوق الإنسان كما صاغتها الأمم المتحدة عبر تاريخها، مع التحفظات القليلة التي مارستها الدول نفسها. أين هذا الموقفُ من موقف الشيخ السلفي الذي وضعَ هذه الحقوق تحت قدميه بعدَ السجن والمراجعات؟!
ولذلك أفترض (أو أتمنى) أن حديثَ الشيخ الريسوني السابقَ عن «فرانسيس» المغرب المطالبين بالتنصيص على مدنية الدولة صار من الماضي الذي لا يعاد، وأفترض أنه سَحَبَ عبارة «بني علمان» التي استعارها من فحشاء شيوخ الفضائيات المشرقية الذين ذهب الله بريحهم، فهي تُحيل، في متخيل الأصولية، على ما ترسخ في نفوس المسلمين إزاء «بني قريظة» و»بني النظير»، وغيرهما من قبائل اليهود التي نقضت عهودها وتنكرت للرسول (ص)، فهذا يتضمن أنه يضع نفسه وجماعته في موضع الرسول وصحابته والعلمانيين في موضع بني قريظة وبني النظير! والحال أنه يعلم أن هذا اللقب جَلَبَ على إخوان مصر متاعب لا قِبَل لهم بها حين رد عليهم «شبابٌ متحمسون» برسم قطعان الخرفان أما المقر الرئيسي للإخوان بالمقطم. فأدى ذلك إلى الضرب والجرح في الشارع، ثم أطلقت النيرات من كل اتجاه واقتُحم المقر وخُرِّب، والبقاء لله. تقول: «بني علمان» فيرد عليك مثُلك من الضفة الأخرى: أهلا يا أبا خرفان»!! فما الفائدة من مثل هذا اللمز المجاني؟؟ وقد رد رسام الكاريكاتير المغربي (لعله الصبان) بطريقة حجاجية تبين عقم هذا المسلك: سأل رجل بهيئة سَلفي آخرَ بهيئة فلاح مغربي: الأخُ من بني علمان؟ فأجابه: نعم، يا أبا جهلان! الأكيد أن الفقيه سيتجه مستقبلا لمناقشة الأفكار بالأفكار، ومعاقبة المُعوج منها، إن اقتضى الحال، بالسخرية الحجاجية، بدل الغمز واللمز والتنابز بالألقاب والاتهام بالإلحاد بطرق ملتوية.
هناك مؤشرات مُبشرة واعدة بكل خير: فبعد أن رفض الشيخ الريسوني التنصيص على مدنية الدولة وحرية التدين في الدستور خوفا من إقفار ساحة إمارة المؤمنين، فتصح بدون موضوع، كما سبق، وبعد أن قلنا له: إن الدين ليس قفصا وإنما هو بابُ السماء الواسع، عاد ليفتح باب الحرية واسعا ليمر منه الجميع، حتى «المبشرون». قال هذا رغم أن إخوته كانوا قد كبَّروا قضية حفنة من المبشرين (لا يحفل بها أحد) ونفخوها حتى وضعوا الدولة في موضع الحرج. فعلوا ذلك مع الأسفِ في الوقت الذي كانت فيه الجزائر وربيبتُها تراهنان على ضجة من هذا القبيل لتذويب الخطوات التي خطاها المغرب في قضية الصحراء باقتراح الحكم الذاتي.
وقد كان من الطبيعي أن يُعرِّضه هذا الموقفُ لغضب بعض السلفيين غير المنضبطين، أما إخوانه في الجمعية والحزب فقد فضلوا الصمت، لا مع ولا ضد. ولو صدر ما قاله الشيخ الريسوني من زعيم سياسي، أو مفكر علماني حر، لقامت القيامة، وقُذف بأكبر الكبائر. فنحن نشكره على هذه المبادرات، وندعوه إلى الرجوع إلى أرض ابن رشد والشاطبي قبل فَواتِ الأوان. فحديثه عن الحرية وحقوق الإنسان في بعض البيئات المشرقية، وعلى موائد الأكل وصليل الملاعق والسكاكين والشوكات، أقلُّ نفعاً من الحديث عنها في مقرات التوحيد والإصلاح في المغرب.
قد يُقال بأن هذه المراجعات داخلة فيما يسمونه «فقه الابتلاء»، أو في التَّقِيةِ العابرة مع الزمان العابر. وحتى لو صدق هذا الافتراض فهي خير من الحملة العنيفة التي أطلقها شيوخ المغرب ضدَّ كونية حقوق الإنسان، وضد معجِمها، حين ظنوا أن ثورة الإخوان في مصر ماضية لا رجعةَ فيها، وأن الخلافة توجد على مرمى حجر، وربما تحت إبط أردو?ان! أردو?ان الذي فقد صوابه عند سقوط حكومة مرسي وانطلق يهدد أرض الفراعنة، ويهمُّ بإرسال باي جديد إلى مصر. كانت تلك المبادرة التي دشنها الفقيه بنحمزة مستثمرا ثرثرة طه عبد الرحمن قد تحولتْ بسرعة إلى نشاط ثقافي في مدرجات الكليات والمدارس العليا، بتعاون بين الذراع الدعوية للحزب وشيوخ من عينة النهاري وأبو النعيم، وقد كفانا الله شرَّهما فتكفلت بهما المحاكم.
كل ما نطلبه من الشيخ الريسوني هو الاغتسال بماء الورد البلدي، واستنشاق هواء جبال الأطلس النقي، والكف عن طلي مِشربة الطين بالقطران والنفط: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق. فبذلك ستتفتح من جديد مسام الأذهان، وتتغذى بالأكسيجين الذي يوسع ذاكرة العرض RAM ويَسري في الخدود رحيقُ الزعفران،. حينها ستختفي بعض الشوائب التي تنغص حديثه عن الحرية وحقوق الإنسان. لن يذكر، بعدها، كلمةً إلا وفكر في أمرين: أولهما، النسقُ الذي تكوِّنه مع كلماتٍ أخرى تَبني معها حقلا معرفيا وترتب حقوقا ومسؤوليات، والثاني، استحضارُ العقلاء والنقادين الذين يزنون الكلام بميزان الذهب، ويزينون الفقيه بميزان الصدق في العلم والخلق. وهذا يقتضي التخلي عن منطق مخاطبة الدهماء، فمعاشرة الدهماء تؤدي إلى الارتخاء والغرور.
أقول هذا لأني وجدت الشيخ يُنغِّص ما فتح الله عليه به من أفكار جديدة بخلْطٍ مفهومي، أو مفاهيمي، من تركة المرحلة السابقة: رأيتُه ما زال يخلط (أو يتعمد الخلط) بين المسلم والمؤمن، ويقابل بين المسلم والعلماني، أو الشيوعي، ونماذج أخرى كثيرة. ويظهر، والله أعلم، أنه لمْ يُعانِ الترجمةَ مع اللغات الحديثة حيثُ يُؤدي عدم الحرص على تقطيع الحقل دلاليا بمصطلحات دقيقة متعارفة إلى العماء. فالله، سبحانه، رفض هذا الخلط حين قال: «قالت الأعراب: آمنا»، فأمر نبيه بالرد عليهم: «قل: لم تؤمنوا، ولكن قولوا: أسلمنا، ولما يدخل الإيمان في قلوبكم». فَإعلان «الإسلام» مجردُ تسجيلٍ في مباراة صعبة، مباراة الإيمان، الإيمان يتعلق بالسرائر، قال الناظم:
وأما الإيمان فقال من دراه أن تعبد الله كأنك تراه.
والعلماني لا يُقابَلُ بالمسلم والإسلامي إلا لمزاً، لأن المسلم ليس مؤمنا ضرورة، والعلماني ليس ملحدا ضرورة. المؤمنون حقا موجودون بين العلمانيين وبين الإسلاميين. ويوجد بين العلمانيين ملحدون صرحاء، وبين الإسلاميين ملحدون جبناء، أي منافقون.
هل يظن الشيوخ أن هذا المستوى من اللمز والغمز الذي يَجِدٌ سوقا رائجة عند الدهماء يُسِّهل الحوار مع مخالفيهم في الرأي والتصور من المواطنين؟ لا أعتقد ذلك، ولكنهم يظنون أنه كفيل بتهييج الغوغاء والاستيلاء على الساحة عبْر شكليات الديمقراطية، وبعد ذلك «لا انتخاب لا دستور: قال الله قال الرسول»، كما نُسب لعلي بلحاج. هيهات! أشفق على الشيخ الريسوني، سيتسلم جثة هامدة، هل سيُمسكها على مضض أم يدسُّها في النسيان؟ سؤالٌ سيجيبُ عنه الحاضنُ، وليس الشيخ، وسيسمعُ الشيخ بدوره كلمة: اسكتْ، أو ارحل، وأحضان الوطن واسعة.
كلمة أخيرة
هويدي من الإخوان كما قال القرضاوي، وهو يقطِّر سمومَهم بمقدار حيثُ حل وارتحل. ولكنه لم يفقد عقله نهائيا مثل القرضاوي. لا يفارقه قناعه. مدَّ يده لانتشال القرضاوي من وهدته فعضها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.