بقلم: خالد الصلعي أن تصنع حدثا كبيرا بحجم الوطن ، فذاك ما يمكن ان نصفه عن جدارة وبكل افتخار ؛ بالمعجزة.لماذا المعجزة ؟ لأن المعجزة بكل بساطة هي تلك الحالة التي تنشأ عن مفارقة لايصدقها العقل . والحدث الذي يشغل حيز هذه المقالة ينطبق عليه هذا النشوء المفارق . كيف ذلك ؟ هي دورته الرابعة، وفي هذه الدورة بالذات عملت ادارة مهرجان المدينة للثقافة والتنمية على رفع تحدي ذاتي ، بتكريم علمين وهرمين كبيرين، هما بالتحديد الشاعر المغربي الكبير "عبد الكريم الطبال "، والزجالة المغربية المقتدرة " زهرة الزريق"، المرأة المتعددة المواهب كما يصفها كل من يعرفها، وقد تشرفت بالانصات اليها ومشاهدتها وهي ترتجل قطعة من دررها الزجلية، وتحكي حكاية من حكاياتها الباذخة المعنى والدلالة بحركات تجسيدية مسرحية غاية في الاتقان والبراعة، ولم لا ؟ فهي ممثلة مسرحية شاركت في أكثر من عمل مسرحي. الكائن الطموح، اما أن ينفتح على جميع آفاق الطموح، او ينفلت الى جهة الجموح، وقد يصاب ببعض الجروح. لكن جمعية المدينة للثقافة والتنمية تنتمي لحسن الحظ للطرف الأول من معادلة الطموح. فهي من لاشيئ صنعت حدثا يفوق في انتاجيته واخراجه وترتيباته ما تصنعه مهرجانات تصرف فيها ملايير السنتيمات في جهات مغربية متعددة. لكنها تفشل في جمع أسماء مغربية وازنة في مجالي الشعر والزجل . وهنا لابد من السؤال عن الأسباب والدواعي. والغوص في الأهداف والغايات. لنقول ببساطتنا المغربية، ان جوهر النوايا هو الذي يحدد استراتيجية العمل وتخريجاته. فالنية الحسنة لابد وأن تستقطب فراشات تحوم حول الأنوار الحقيقية، حتى الفراشات تأبى ان تقترب من الأضواء المصطنعة. مفارقة طبيعية يجب العودة اليها من خلال علماء الحشرات المختصين بحياة الفراشة. وللوقوف على المفارقة الأولى، علينا ان نستحضر ما راكمناه من ذكريات أليمة حول مختلف المهرجانات القيصرية، وهذا الوصف يحيل الى المعنى بشقيه، الطبي والأرستقراطي. فجميع المهرجانات القيصرية تهدف الى الحط من مختلف الركائز الثقافية المغربية، من فن وادب ومعرفة وعلم وتربية، فتهمش جميع الفاعلين والمبدعين والخلاقين، وتستورد نماذج لها خصوصيتها المحلية والعالمية، لكنها أغلبها لايصب ايجابا في كنه وصلب الثقافة المغربية . وهذه الظاهرة اكتسبت صفة "الظاهرة " من ترسخها في انشطة المهرجانات القيصرية التي يعفها مغاربة الفيسبوك، وكثير من المغاربة العاديين . ولو تم منحنا فرصة شرح ما تحبل به هذه الأنشطة من غايات منحطة تهدف الى ضرب روح المواطنة وتبخيس الثروة الرمزية للمغاربة وقتل روحهم الثقافية والروحية، لبقيت تلك المهرجانات خاوية على عروشها . او لاستتاب أصحابها واعادوا القيمة الفنية والابداعية الى المغاربة. المفارقة الثانية، هي انفتاح مهرجان المدينة للثقافة والتنمية، على أماكن لم تخطرعلى بال منظمي المهرجانات الأخرى، وهي اماكن لها من الحمولة التاريخية والثقافية ما يشفع لها الاشارة بقوة الى العمق الفني للساهرين على تنظيم المهرجان، ورؤيتهم الانفتاحية والحضارية. فأن يتم اختيار مغارة هرقل لما تحمله من دلالات تاريخية وحضارية ، ليس بالشيئ الهين ، فحسب معلوماتي لم يتم استغلال هذا الفضاء الا من قبل أحد الروائيين الأمريكيين الذي نظم فيه حفل زواجه وفرض على المدعويين ان يقدموا الى المغارة بلباس اليونانيين القدامي . والفضاء الثاني هو بيت الصحافة، هذا الفضاء الذي اتمنى شخصيا أن يلعب أدواره الاعلامية والثقافية بجدارة توافق اسم ومكانة مدينة طنجة، وهو مكسب كبير لاعلاميي المدينة ومثقفيها. اما الفضاء الثالث فهو مؤسسة محمد شكري التي احتضنت ندوة لامست جانب السيرة الذاتية في القصيدة المغربية، وقد كانت المداخلات في مستوى الموضوع باعتباره موضوعا مسكوتا عنه في النقد الشعري، وان كان مستحضرا في لاوعي الشعراء والنقاد . الفضاء الرابع هو المتحف الأثري للقصبة، حيث كان مسك الختام مع أروع أمسية شعرية وزجليه تم التمهيد لها بوصلات غنائية طاعنة في روعة الأداء صوتا وموسيقى. داخل هذه الفضاءات النوعية المختلفة البنيات والهياكل والاحالات، اجتمع ثلة من شعراء وشواعر المغرب، زجالين وزجالات هذا البلد ذي الثروة المهدورة. لكنهم، وهذا ما لامسته عن قرب منهم مصرون على اللألأة والتوهج، وهم مستعدون لبذل الغالي والنفيس من أجل ابراز الثروة الحقيقية للمغاربة. وجبت الاشارة هنا كي يأخذ الموضوع صورته الحقيقية، الى أن ادارة المهرجان لم تستلم أي فلس من الجهات الداعمة، رغم وطنيته، وأسماء الحاضرين فيه، واكراهات المصاريف الآنية واليومية . وهو ما يطرح علينا ضرورة البحث عن سر نجاح المهرجان. وهو يكمن ببساطة في الحب الطموح، في الاخلاص للحلم، في الاستعداد للتضحية، في البذل دون انتظار المقابل. أشكر الجميع، ادارة المهرجان، وجميع المبدعات والمبدعين الذين حضروا، وعشاق الفن والابداع الذين أثثوا عفويا وتلقائيا قاعات العروض. ليس سهلا ان تعيش ثلاثة أيام مع الفن والثقافة في بلد يكره مسؤولوه كل لمسة فنية وثقافية. بل ان كثيرا من المنتسبين للفن والثقافة يكرهون الفن والثقافة. وهذا موضوع آخر.