لقد كان تشريع نظام التعليم العالي وإجراء مباريات ولوج مؤسساته، بتاريخ 19 فبراير 1997، غرائبيا تلفيقيا استبداديا «إكسليبانيا» وحكرا على نخبة من المعنيين بقطاع التربية والتعليم، خدمت أساسا من يدخلون في حوزتها، تتصدرهم الفئة الحاصلة على دكتوراه الدولة، يليها الأساتذة المحاضرون والمساعدون غير الحاصلين على دكتوراه الدولة، المنتمون إلى حظيرة مؤسسات التعليم العالي، ممن يتوفرون على دبلوم الدراسات العليا وغيره من الشهادات، الذين سمحت لهم هذه النخبة بتمديد فترة مناقشة أطروحاتهم لنيل دكتوراه الدولة أو الدكتوراه إلى غاية فاتح شتنبر 2012، مع إعفائهم من التأهيل الجامعي والاحتفاظ بأقدميتهم المكتسبة في رتبهم الأصلية، فور حصولهم على دكتوراه الدولة أو الدكتوراه وإدماجهم، على التوالي، في إطار أساتذة التعليم العالي مساعدين، والأساتذة المؤهلين وأساتذة التعليم العالي، دون إخضاعهم لنظام إجراء مباراة هيأة الأساتذة الباحثين في التعليم العالي ومؤسسات تكوين الأطر العليا، في حين تم تطبيق مباراة أساتذة التعليم العالي المساعدين الحاصلين على دكتوراه الدولة أو الدكتوراه، الموظفين في قطاعات أخرى، بما فيها قطاع التعليم المدرسي، باستثناء قطاع الثقافة، مع الإدلاء بترخيص مؤسساتهم لإجرائها، الذي كان يعتبر شرطا تعجيزيا بالنسبة إلى عدد كبير من هؤلاء الموظفين. بل إن نيل هذه الشهادة الأكاديمية العليا لا يمكّن هؤلاء من الاستفادة، مهنيا وعلميا وإداريا، من أي شيء يذكر. لقد بات أمر الحصول على هذه الشهادة مجردا من أي حافز، إلى درجة أثنى الكثيرين عن مواصلة الدراسة والتحصيل والبحث العلمي، لكونها تدني مراتب أجورهم عندما تحرمهم من الترقيات المكتسبة بشهادتهم السابقة بناء على دبلوماتهم الجديدة المحصلة، سواء كانت دكتوراه أو دكتوراه دولة، حيث يخضعون لنظام الدرجة والسلم الجديدين المخولين لمثل هذه الشواهد، دون احتساب مكتسباتهم السابقة. كانت سنة 1996 نهاية «العهد القديم» لنظام التعليم العالي في المغرب، حيث تم توديعه بالتوظيف المباشر لحاملي شواهده العليا بصورة جزافية غير عادلة، إذ ألحق صنف من الدكاترة وحاملي دبلوم الدراسات العليا أساتذة بمؤسسات التعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي، بينما «استُدرِج» الصنف الآخر إلى باقي قطاعات الوظيفة العمومية في درجاتها وأنظمتها، بألقاب مختلفة هجينة ك»متصرف»، بحجة عدم وجود مناصب شاغرة لاستيعاب كافة حاملي الشواهد العليا في القطاع المذكور، رغم توظيف فئة من الدكاترة في درجة أستاذ مساعد في مجموعة من هذه القطاعات، وهي حجة ديماغوجية واهية ما زال القائمون على تدبير قطاع التعليم المدرسي العالي يرتكزون عليها لصد الدكاترة عن تغيير إطارهم الهجين إلى إطارهم القمين أستاذ باحث. وهكذا لم يجد «ضحايا» العهد القديم أي نظام أو قرار أو مرسوم يحميهم من هذا العبث، الذي سيطال لاحقيهم في «النظام الجديد» إلا ثلاثة خيارات أحلاها مر: الارتماء في أحضان البطالة أو الانتظام في صفوف هجرة الأدمغة أو القبول بهذا التعيين الجزافي، الذي يعتبر آخر فرصة لتوظيف حاملي الشواهد العليا في «العهد القديم» سنة 1996، قبل إنزال نظام التعليم العالي الجديد إنزالا على لاحقيهم مخضرمين أو جددا، بتاريخ 19 فبراير 1997. أما بالنسبة إلى الطلبة الممنوحين أو غير الممنوحين لاستكمال دراساتهم العليا داخل المغرب أو خارجه، الذين سجلوا رسائلهم لنيل دبلوم الدراسات العليا أو أطروحاتهم لنيل دكتوراه الدولة قبل تاريخ إجراء المباراة المذكورة، فلم يعاروا أدنى اهتمام أو اعتبار، إذ كانوا أول مختبرات الفئران وصدارة من استهدفهم النظام، دون غيرهم من الأساتذة المنتمين إلى التعليم العالي، الحاصلين على دبلوم الدراسات العليا أو المعمقة. هذا النظام الذي لم يعبأ مسنوه من حاملي دكتوراه الدولة وغيرهم من المريدين والأتباع و»ذوي الصولة والصولجان» بإنصاف هذه الفئة، على الأقل، بإسقاط قانون إجراء المباراة الجائر، رغم إنجازها أعمالا هامة، بدءا من بحوث سنواتها الدراسية الجامعية، مرورا بالإجازة ودبلوم الدراسات بصنفيها المعمقة والعليا، وصولا إلى دكتوراه الدولة، إلى درجة أن عددا من رسائل وأطروحات هؤلاء الأساتذة وصلت إلى مستوى نسخ و«سلخ» و تحوير بحوث طلابها من هذه الفئة... لقد تحكم الهاجس المالي في مصير التعليم والتربية والتكوين إلى أبعد الحدود، حيث إن أولي أمره وإصلاحه ما كان يهمهم أكثر هو إصلاح ميزانية الدولة نتيجة هدرها و فسادها ومديونيتها على حساب هذا المصير الذي يمثل العمود الفقري لقاطرة التنمية والتقدم، إذ عوض أن يهرعوا إلى حل معضلة التعليم، في بنيتها الكلية، هرولوا سنة 1997 إلى سن قرارات ومراسيم تتعلق بإجراءات تنظيم المباراة الخاصة بتوظيف أساتذة التعليم العالي المساعدين في مؤسسات تكوين الأطر العليا وتحديد النظام الأساسي الخاص بهيأة الأساتذة الباحثين في التعليم العالي وفي مؤسسات تكوين الأطر والشروط والإجراءات المتعلقة بتنظيم التأهيل الجامعي، وتحديد إجراءات تنظيم المباراة الخاصة بتوظيف أساتذة التعليم العالي في مؤسسات التعليم العالي وتكوين الأطر العليا واختصاصات المؤسسات الجامعية وقائمة الشهادات التي تتولى تحضيرَها وتسليمها ونظام الدراسة والامتحانات لنيل الدكتوراه ودبلوم الدراسات العليا المعمقة ودبلوم الدراسات العليا المتخصصة والشروط والإجراءات المتعلقة باعتماد المؤسسات الجامعية لتحضير الشهادات المذكورة، تلتها في سنة 1999 قرارات بتحديد قائمة الشهادات التي يتأتى بها التعيين المباشر في درجة متصرفي الإدارات المركزية وسلك مهندسي الدولة، وإبطال فعالية الشواهد التي غدت «ممنوعة من الصرف» ودبلوم الدراسات المعمقة وشهادة استكمال الدروس ودبلوم الدراسات العليا ودكتوراه الدولة، واستنساخها بشواهد جديدة متصرفة: دبلوم الدراسات العليا المعمقة ودبلوم الدراسات العليا المتخصصة والماستر والماستر المتخصص والدكتوراه، وإخضاع حاملي شهادات الدكتوراه أو دكتوراه الدولة -معطلين أو موظفين في الإدارات العمومية- إلى الإقامة الجبرية وحرمانهم من جواز ولوج منابر البحث العلمي إلا عبر اجتياز مباراة بنجاح، مما يفسر الأسبقية التي حظيت بها هذه الإجراءات «الإصلاحية» المالية على حساب نظيرتها التعليمية، إذ تأخر ظهور الميثاق الوطني للتربية والتكوين إلى سنة 2000، حيث ناقش المجلس الحكومي مشاريع قوانين تتعلق بتطبيق هذا الميثاق الذي خيب آمال العباد والبلاد، لاسيما فئة الدكاترة، التي لم يستثمر رأسمالها العلمي الذي كان من أهم الشروط التي توخاها الميثاق نفسه، حيث اكتفى مدبروه بتوظيف جزافي اقتصادي للآلاف من الأساتذة العرضين إلى حد الآن، ضاربين عرض الحائط تنبيه وإنذار وتحذير قرار البنك الدولي للمغرب سنة 1994 بشأن النهوض بنظامه التربوي، والذي اعتبر أن استثمار الرأسمال البشري هي المسألة الأكثر أهمية المطروحة على المغرب بعد مرحلة التقويم الهيكلي. كان وقع هذه القرارات والمراسيم والمواثيق -وما يزال- أدهى وأنكى، خاصة على الخريجين المخضرمين المعطلين الدكاترة وحاملي دبلوم الدراسات العليا، الذين عايشوا النظامين القديم والجديد، لعدة أسباب، أجملها في ما يلي: 1 - إن هذه المدونات التي أتى بها إصلاح فبراير 1997 صيغت دون استشارة وإشراك عدد كبير من الفئات المعنية بالأمر، وعلى رأسها هؤلاء المخضرمون. 2 - أن الدولة أو الحكومة لم تعرهم أي اهتمام ودعم واعتبار وضمانات، حتى يتم اجتياز هذه المرحلة بإنصاف وأمن وسلام، خاصة أن غالبيتهم لا تملك منحة للدراسة التي بدأ «ريقها يجف» عند «المحظوظين» بها فور تطبيق النظام الجديد، فلا مهلة زمنية أو مكافأة أو منحة إلا «المحنة» التي أوقعوا فيها. 3 - إن مصير هؤلاء كان مقامرة: إما المضي بالنظام القديم في تهيئة رسالتهم ثلاثة أعوام أو أربعة لمناقشة دبلوم الدراسات العليا، قصد تسجيل دكتوراه الدولة ومناقشتها بعد سنين عديدة تتراوح بين 6 إلى 9 أعوام وإما تحويل تسجيل رسائلهم الجامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا إلى أطروحات جامعية لنيل الدكتوراه في النظام الجديد، مع ما تقتضيه مناقشتها من تعميق البحث، حتى يرقى إلى مستوى الدكتوراه، ونشر أعمال علمية في منابر مشهود لها بمكانتها العلمية، ما يستغرق أربعة إلى ستة أعوام لإحراز شهادتها، بغض النظر عن احتساب زمن انتظارهم الإعلان عن مباراة أساتذة التعليم العالي مساعدين، إن وجدت في تخصصاتهم العلمية ورشحوا إليها وتوفقوا فيها، وزمن بطالتهم ونضالهم من أجل انتزاع حقهم في التوظيف.