هذا هو العصر الرقمي بامتياز، عصر الفضائيات والهواتف المحمولة والإنترنت.قبل عشر سنوات من الآن كنا نسمع بأن تعريف الأمي سيصبح هو الشخص الذي لا يعرف استخدام الكومبيوتر، واليوم أصبح هذا الأمر حقيقة واقعة . لقد أصبح الحصول على المعلومة سهلاً، وأصبحت الإنترنت مساحة متاحة للجميع ليقولوا ماعندهم. المشكلة ما الذي سيقولونه، أو بالأحرى ما الذي سيكتبونه. لقد فتحت الأنترنت الباب على مصراعيه لكل من يريد أن يبدي رأياً في أي شيء، وأصبحت الخيارات لا نهائية. هناك- مثلاً- منتديات الكتابة، ومجموعات الحوار "تشات"، وهناك مساحات التعليق في المواقع الإخبارية. لا أحد اليوم في منأى عن النقد أو المجادلة أو حتى الفضيحة . لقد إنتهى الزمن الذي كان فيه الكاتب يجلس طوال الليل ليكتب موضوعاً ما، ثم ينتظر عدة أيام- وربما شهوراً- ليرى مقاله الضوء، دون أن يتمكن من أن يطلع على رأي القراء أو مناقشتهم. الآن أصبح كل شيء مختلفاً، فهذه العملية برمتها لم تعد تستغرق سوى دقائق ، كما أصبح متاحاً للكاتب أن يطلع على أراء قرائه ويتفاعل معهم بشكل سريع ومباشر. لقد انتهى الزمن الذي يمكن فيه إخفاء الحقائق أو تشوييها . هذا هو عصر الكشف بامتياز. لم يعد أمر النشر مقتصراً على الحكومات أو المؤسسات الكبرى، بل أصبح متاحاً لكل إنسان دون الحاجة لإمكانيات مادية كبيرة، فتأسيس موقع إلكتروني خاص، أو مدونة شخصية ؛ يمكن أن يكون مجانياً في معظم الأوقات. ولمن لا يريد – أو لا يعرف- التعبير بالكتابة يمكنه التعبير بالصورة باستخدام بيكاسا أو فلكر مثلاً، أو بالمشهد التصويري باستخدام الشيخان يوتيوب أو ديلي موشن مثلاً . لم يعد هناك حدود للتعبير، ففي هذا العالم الرقمي المتوحش، يمكنك باستخدام هاتف محمول متصل بالانترنت أن تقوم بتصوير حدث ما وتحميله في غصون خمس دقائق ! . ليس هناك حدود لفضول البشر، ونهمهم الأزلى إلى المعرفة والإطلاع . الكل يريد أن يعرف، الكل يريد أن يرى، وضغطة الزر- أو ربما نقرة الإصبع- مكنت كل الناس من أن يكونوا جزءً من العرض الضخم الذي ترعاه الإنترنت . تعودت أن أقول لأصدقائي :" حيثما تكونوا هناك جيش من الكاميرات يحاصركم، فحاولوا دائما أن تبتسموا". الكاميرات...هذه الاختراع المرعب الذي أصبح يحاصرنا في كل مكان، ويعد علينا أنفاسنا، ويقتحم خصوصياتنا، ولمن لا يصدق ذلك عليه الاتصال بالشيخ يوتيوب متعهد تصوير الحفلات ونشر الفضائح بامتياز. طريقة تحضير الفضيحة بالبلوثوم !!! : المكونات : هاتف محمول ذو كاميرا (يفضل أن تكون 5 ميجا بيكسل أو أكثر) + بلوتوث طازج في عدة أجهزة نقال على نار + شخص فضولي أو سيكوباث + حدث ( نفترض أن الحدث حفل زفاف داخل صالة). طريقة التحضير: يقوم الشخص السيكوباث (وهو هنا فتاة مدعوة لحضور الزفاف) بتصوير الفتيات الأخريات وهن يرتدين ملابس احتفالية (بدون تعليق)، ويرقصن بشكل(بدون تعليق) . في اليوم التالي تذهب الفتاة التي قامت بالتصوير إلى الجامعة، وهناك تتحدث مع زميلاتها عن حفلة الزفاف (عادة ما يكون هذا الحديث خليطاً مركزاً من الغيبة والنميمة) ، ثم تخبرهم أنها قد قامت بتصوير فلانة التي تمثل دور الفتاة الهادئة المؤدبة، وفلانة التي تقول بأنها من أسرة راقية ومحافظة؛ وفلانة التي تدعي التدين؛ وهن يرتدين ملابس فاضحة ويرقصن في مجون . وهنا تهتف المجموعة بصوت واحد : " ورّينا "، فيشتغل العم بلوتوث ويقوم مشكوراً بنقل الفيديو من الهاتف "المصدر" إلى الهواتف "المراسلين". لا ننسى هنا أن نقول بأن كل واحدة من المجموعة قد حلفت بأغلظ الأيمان أنها لن تُري الفيديو لأحد أبداً. مباشرة بعد عملية زرع الفيديو الناجحة، تقوم كل واحدة بنقل ما تيسر من فيديو إلى صديقة -أو صديق- مقرب مع أخذ العهد بعدم نشره ، ولكن الصديقة أو الصديق لن يستأثر بهذا الفضل لنفسه، بل سينقله إلى هواتف بلوتوث و و و و، إلى أن تصل إلى الشيخ يوتيوب فيتكرم بنشرها على العالمين . لم يعد هناك رادع أو حدود أو عقبات، ومادامت الهواتف بكاميراتها متوفرة للجميع، ومادامت الإنترنت موجودة بأسعار رخيصة، فيمكن لأي أحد أن يدلي بدلوه في هذه السينما العالمية المفتوحة على كل الآفاق، حتى لو كان ذلك بتصوير شخص في حالة احتضار، أو آخر ينفّذ فيه حكم الإعدام . حتى الموت لم يسلم من فضول البشر وإدمانهم على التلصص . التكنولوجيا يمكنها أن تنقذ حياة إنسان، أو توفر لنا سبل العيش في راحة، ولكن يمكنها أيضاً أن تدمر حياة البشر، وتقضي على طموحاتهم، سواء كان ذلك بالمعنى المادي أو المعنوي . ولمن يعتقدون أنهم في منأى عن عصر الديجيتل وذراعه الإنترنتية الطولي؛ سأقول لهم : ألم يأتكم نبأ ال(ويكيليكس) ؟ . ال(آي فون) يلاحقه ال(بلاك بيري)، و ال(آي باد) يتربص به (سامسونج جلاكسي)، وال(تويتر) ينافس ال(فيسبوك)، وال(يوتيوب) يسابق ال(ديلي موشن)؛ خيارات لانهائية، وفضاءات مفتوحة لكل الأذواق وكل العقليات، من علماء الجينات وعلماء الفضاء، إلى خبراء- وخبيرات- النرجلية، ومخترعي- ومخترعات- الإشاعات، في كل مجمع وصالون في المنطقة العربية، وعلى القاطنين داخلها مراعاة الفارق في الحضارة من حيث التأخير ! .