كلير مسعود هي مؤلفة لثلاث روايات وكتاب قصص قصيرة. وأحدث رواياتها "أطفال الامبراطور" اختارتها صحيفة نيويورك تايمز من بين أفضل عشرة كتب للعام 2006. كما كانت بين المرشحين النهائيين مرتين لنيل جائزة بن/فولكنر، وحصلت على زمالات دراسية من مؤسسة غوغنهايم، ومعهد رادكليف، ومركز العلوم الإنسانية في جامعة هارفرد. تعيش مع عائلتها في كامبريدج، ولاية مساتشوستس. المقدمة أكثر من ثلاثة أرباع الأميركيين يعيشون في المدن. وفي عصرنا المعولم يميل المرء إلى تصور أن التجارب في المدن لها طبيعة متشابهة: ناطحات سحاب، قطارات أنفاق وسلاسل المتاجر، كثافة من الطوب والناس، شعور بالاستعجال والسعي الحثيث. المقالات الواردة في هذه المجموعة توضح مدى خطأ ذلك الافتراض: من أرض أحلام لوس أنجلس التي وصفها جوناثان كيلرمان، إلى اليقظة النابضة بالحيوية لميامي التي وصفتها أدنا بوكانان، ومن العمارات السكنية التي بنيت في منتصف القرن الماضي لبروكلين التي أحبها بيت هاميل إلى القناطر المسكونة بالأشباح في حي بلسين في شيكاغو التي وصفها ستيوارت ديبيك، ومن الجمال الطبيعي والتنوع البشري لسياتل التي وصفها تشارلز جونسون، إلى الخرافات الماضية والحالية لنيو أورلينز التي وصفها ريتشارد فورد، كل هذه الذكريات والتأملات تستحضر لنا الثراء والغرابة لحياة الفرد في المدن، بنفس الطريقة التي تتشابك فيها تخيلاتنا وهواياتنا ورواياتنا الأدبية في شوارع ومباني المدينة، وفي روائحها وأصواتها. نخلق مدناً في أذهاننا، وأحياناً حتى قبل أن نراها على الإطلاق، وأحياناً حتى بعد أن نفقد أملنا في رؤيتها، من القصاصات والروايات التي جمعناها، ومن الكتّاب الذين قرأنا أعمالهم. بهذه الطريقة، ترعرع ديفد بوتومز في مدينة صغيرة في الجنوب متخيلاً الوجود العالمي لمدينة أتلانتا، وأعاد ستيف ستيرن اكتشاف مسقط رأسه ممفيس من خلال القصص الخرافية الشبيهة بكتابات باشفيز سينغر عن اليهود المهاجرين إليها. وبوسطن التي وصفها كارلو روتيلا مسكونة بحياة أشباحها التي اكتشفها خلال جولاته أثناء الليل: طيور مالك الحزين وذئاب البراري، بالتأكيد، ولكن أيضاً مواطنيها الموتى، الذين تزين أسماؤهم المنتزهات العامة وعنابر القوارب، كتذكير عن أعمالهم ونزواتهم. وبلتيمور التي وصفها جوناثان ياردلي ما هي إلاّ حوار أدبي بين الماضي والحاضر، من إدغار ألن بو إلى آن تايلر. بالنسبة لأي منا، لا توجد سوى مدينة معينة فقط تتعلق بنا. وتماماً لكونها تعج بحياة الكثيرين، فليس لديها أي حياة حقيقية موضوعية أو مستقلة. لا تستطيع أن تقول إن نيويورك دونالد ترامب هي أكثر أو أقل واقعية من بائع متجول هو بالأصل من كراتشي. بهذه الطريقة، فإن خيالنا الفردي يُشكِّل الطريق الوحيد للدخول إلى قلب المدينة. وأي مطالبة عامة ستكذبها التجربة الخاصة. وأي شيء تظن أنك تعرف أنه من الممكن دحضه- وهذا لا يجعل منه، طِبقاً لذلك، أمرا غير صحيح. هذا، بالطبع، هو الذي يجعل البيئات المدينية تملك هذه القوة المحررة: فليس كل واحد منا يخلقها لنفسه، ولكن يمكننا من خلالها أيضاً أن نخلق أنفسنا من جديد- موضوع يتكرر في العديد من مقالات المجموعة هنا. إذاً، فإن الانتماء إلى مدينة ما هي إلا مسألة اختيار. وبعكس البلدة الأصغر، حيث عدم التجذر وعدم الرضا يفصلان المرء عن غيره (قالت لوري مور مازحة عن ماديسون، ولاية ويسكنسون التي جعلتها بلدتها: "يعتقد بعض الناس أنني كنت انتقادية. فإذا كتبت بعين أحد من خارج البلدة، فهذا أمر جيد. ولكن بعد أن تفعل ذلك عليك أن تتحرك... وهذا هو الخطأ الذي ارتكبته. إذ لم أخرج من البلدة". (مقابلة نشرت في صحيفة "ذي أوبزرفر، في 11 أبريل، 2010). تستطيع المدن أن تستوعب غير الملتزمين بنفس السهولة التي تستوعب بها المهتدين المتحمسين لها، والمتبنين لها وسكانها الأصليين، المتجذرين بشدة والأشخاص المزعجين على حدٍ سواء. وبسبب طبيعتها نفسها تستطيع أن تكون المدينة حبيبة مثالية: تعطي دون أن تطلب، وتعطي أكثر كلما ازداد طلبك. ولكن بالرغم من مرونتها، تحمل كل مدينة شخصيتها الفردية، خصوصيتها وأجواءها الخاصة. مذاق الهواء، عرض الشوارع، أصوات حركة السير، التاريخ، الحجارة، الأحاديث المسموعة- أي أن المدينة مصنوعة من كافة هذه الأشياء الملموسة التي لا يمكن تخيل اندثارها. وبصورة غامضة، سوف يجد كل واحد منا المدينة التي تحكي قصة حياتنا الشخصية حتى ولو استغرق ذلك وقتاً (كما حدث بالنسبة لإدنا بوكانان لكي تجد ميامي)، أو حتى إذا عدنا إلى مكان اعتقدنا أننا هربنا منه (كما فعل ستيف ستيرن في ممفيس). فأنا، على سبيل المثال، أعيش الآن في كامبريدج، ولاية مساتشوستس، وأقول بوجه عام أكثر أنني أعيش في بوسطن. عشت لعدد من السنوات بعد عودتي إلى الولاياتالمتحدة من الخارج في واشنطن، العاصمة. وعانيت طوال تلك الفترة الزمنية – من عام 1995 إلى عام 2003- من علاقة غير مريحة مع تلك المدينة كما لو كنت أعيش في منفى. لم أنتمي إليها، كما أنني لم أكن أرغب في ذلك. وطوال السنوات التي عشت هناك (بسبب عمل زوجي، وليس بسبب عملي) بحثت حولي وتخيلت أن كل إنسان آخر ينتمي اليها بالفعل، بغض النظر عما إذا كان ذلك بسبب انخراطه في السياسة، أو لكونه أحد الجنوبيين، أو لأنه سكن في حالة الانتماء المريح لعدم الانتماء، أو أنه كان من الصحفيين أو الدبلوماسيين الذين يعملون في المدينة لفترة زمنية محددة، في علاقة ودية منفصلة عن المكان الذي يفرضه ضمنياً هذا المنصب. عشت طوال تلك السنوات في بادئ الأمر وأنا مغرمة بنيويورك، المدينة المتعذرة المنال التي لم تبادلني هذا الغرام (حيث لم أعش فيها أبداً، رغم أنني كتبت رواية تدور أحداثها هناك كطريقة لإشباع عاطفتي)، انطلق بسرعة للعيش مع أصدقاء عند كل فرصة تسنح لي وأقدم طلبات لشغل وظائف كان من غير الممكن أبداً أن أقبلها. وفي نهاية المطاف، بعد أن تخليت عن نيويورك، أمضيت بقية حياتي في واشنطن أحاول الابتعاد. أولاً، نزولاً عند إلحاحي، ذهبنا للعيش في مستعمرة فنانين في فرنسا، وبعدها أمضينا فترة ثلاثة أشهر في باريس. ثم تسلمت وظيفة تدريس في ولاية تنيسي لفصل دراسي ثم جررت زوجي إلى غرب مساتشوستس لمدة امتدت لسنتين، دون التخلي عن روابطنا بواشنطن العاصمة، استأجرنا شقتنا الصغيرة المحبوبة في شارع أدامز مورغان، خلف فندق الهيلتون السيئ السمعة حيث سبحت بسعادة في البركة لفترة ستة أشهر من السنة. (أقول "محبوبة" لأنه رغم عدم رغبتي الفعلية في العيش في واشنطن، بنينا هناك مع مرور الزمن حياة صغيرة أحببتها). وبعد مساتشوستس، قضيت فصلا دراسيا واحدا في ولاية أوهايو، ثم عدنا إلى واشنطن فقط لبيع شقتنا، والتمتع بآخر سباحة لي، والانطلاق إلى الشمال في أوائل شتنبر الحار، في سيارتنا المتثاقلة مع جرارها. فإذا كانت واشنطن تُشكِّل العلاقة غير المستقرة خلال فترة الثلاثينات من عمري، فقد أثبتت بوسطن أنها فترة الزواج المستقر لأربعينات عمري. فقد التحقت بمدرسة داخلية هنا، قبل سنوات طويلة، وهكذا كان لحياتي الآن منطق العلاقات السطحية: ألتقي بالصدفة في صالون تصفيف الشعر أو في الملعب الرياضي برفاق صفي الذين فقدت أخبارهم منذ مدة طويلة، ويسعدني عندما أجد أنهم ما زالوا يتنفسون، ومن ثم التحرك مجدداً. ومرة أخرى، فإن وظيفة زوجي هي التي قررت المكان الذي سوف نعيش فيه، ولكني لم أعد حاقدة الآن بسبب هذا الواقع: أتمتع بحريتي في الذهاب والإياب، في مغازلة مدن أخرى وتخيل أشكال أخرى من الحياة، ولكنني دائماً ضمن معرفتي بأننا قانعون بصورة أساسية، وأن المدينة، رغم أنها لربما ليست مثيرة، فقد كانت معقدة وجميلة ومثيرة للاهتمام، تنعم بفنون عظيمة وبموسيقى رائعة، مع جزر سرية، مع نهرها المتلألئ، مع شواطئها القريبة وجبالها، ومع عدد غير متناسب من الناس الآسرين، والكثيرين منهم من الشباب بسبب وجود عدد لا يحصى من الجامعات. إنها مدينة كان ماضيها متألقاً أكثر من حاضرها، وهناك نوع الارتياح، الاسترخاء بسبب ذلك.. وهي تبدو كمدينة أمستردام، في هذا المجال. بطرق عديدة فإنني لا أنتمي – لست من المواطنين الÒحليين، ولا انخرط بشكل خاص بالتقاليد الموروثة للمدينة أو لسكانها، أبقى، كما أقول، غير منتمية مهنياً هناك – ولكنني بدلاً من ذلك أتزلج على السطح الجميل للمدينة كما يفعل صاحب مركب مائي على بركة مياه. يدهشني الارتباط الحميم لأطفالي بهذا المكان، المكان الوحيد الذي عرفوه بالفعل. أحب أن أرى أنهم يشعرون بإحساس الانتماء الأمر الذي لم أعرفه أبداً، ولن أعرفه مطلقاً، وأشعر بأنني ممتنة لبوسطن لهذا الأمر. ويبقى السؤال إذا، في حال كان نظام المدن التي عرفتها معكوساً، كنت قد جربت بوسطن في الثلاثينات من عمري، بتردد غير مستقر واعتنقت واشنطن كموطن عائلتي، إن لم يكن كموطن لقلبي. ما المدى الذي ساهمت به المدن نفسها في تحديد تجربتي، وما المدى الذي حددته أنا لوحدي؟ لا شك ان واشنطن القائمة في ذاكرتي شكلتها روحي في ذلك الوقت، من خلال الحنين والخسارات والآمال، ولكل الأشياء الأخرى. ولكن من الصحيح القول أيضاً إن الحياة النباتية والحيوانية كانت غريبة بالنسبة لي (الأوراق الكبيرة المشمعة لأشجار المنغوليا أمام الشقق، المنعطفات المتضخمة الشبيهة بالمستنقعات لمتنزه روك كريك، الصراصير الصيفية التي تتبختر بحشودها عبر الشارع رقم 19 خلال الليل، بينما الجرذان ترقص على قوائمها الخلفية على قطعة العشب الأخضر خارج مبنى شقتنا). والطقس (الأمطار كالشلالات الغزيرة، ودرجة الحرارة الشديدة) والتحركات الناعسة لسكان المدينة، ترنح سيارات الأجرة على طول الشوارع العريضة الفارغة من الناس، الأعين نصف المغلقة للمباني البيضاء الضخمة في وسط المدينة – كانت كل هذه الأشياء غريبة عني، وفاقمت من حدة شعوري بالاغتراب. المدينة هي أساطيرها، ولكنها أيضاً نباتاتها وحيواناتها وأحجار البناء فيها. لقد أعدت من جديد في بوسطن اكتشاف حيوانات الغرير والظرفان الذين عرفتهم في طفولتي الكندية، وحتى عندما تبدو مواسم أشجار القيقب، من تبرعم الأوراق إلى التفافها إلى الألوان المشعة الخريفية، مألوفة في كل تفصيل لها. هناك زوايا من ضوء الشمس- ضوء الشتاء الصافي البارد الخالي تقريباً من الظلال، وضوء صباح صيف أخضر شاحب، وسديم الضباب كالحب- يتردد صداه في ذاكرتي ويحمل لي السعادة بسبب ذلك فقط. هناك أشباح المدينة التي أشار إليها كارلو روتيلا في مقالته، لكن بالنسبة لي، أيضاً، هناك شبح نفسي المراهقة، مرتدية الملابس الرخيصة التي اشتريتها من متاجر الملابس المستعملة، وشعر مقصوص بغير انتظام، أتسكع في الحدائق العامة وفي شارع نيو بري ضمن مجموعة من الفتيات، نحتسي القهوة وندخن سجائر بنكهة القرنفل في ساحة هارفرد، نلعب وكأننا أصبحنا راشدات، واختبر أول حرية لي. لا يزعجني كثيراً، هذا الشبح، ولكنه يطمئنني بأن هذا المكان حقيقي فعلاً. كتب مارسيل بروست في روايته "بحثاً عن الوقت الضائع"، عن المشهد الطبيعي لنزهات المشي خلال طفولته " رسمت لي في كافة الأوقات حدود الريف حيث أرغب في أن أعيش... سواء كان الإيمان الذي يخلق قد جف في داخلي، أو أن الحقيقة تأخذ شكلاً لها في الذاكرة فقط، فالأزهار التي تعرض علي اليوم للمرة الأولى لا تبدو لي أنها أزهار حقيقية." بالنسبة لأي مكان، ولكن بالأخص بالنسبة لأي مدينة تعيش فيها، يجب أن يكون لديك إيمان بها، بحقيقتها وبأهميتها. لا يكفي أن تكون سائحاً، تُعجب بلا مبالاة بالساحات والممرات. يجب أن تمنحها أساطيرها، أو على الأقل أساطيرك أنت. ما عدد الفرص التي تقدمها لك هذه البلاد، لكي يكون لدينا إيمان بالإيقاعات والتركيبات المختلفة، بالحقائق الغزيرة والمتنوعة والأحلام المترافقة معها التي تمتد من سياتل إلى هيوستن، من بوسطن إلى لوس أنجلس. المقالات الواردة في هذا الكتاب تشهد على هذا التنوع، على الحياة الملموسة والخيالية التي تتجمع وتتفتح في كل زاوية، وفي كل ذهن متفتح وخلاق.