المقاتلات.. آليات جهنمية للموت تجوب طرقات المناطق الشرقية للمغرب أصبحت السيارات المعدة للتهريب، التي يطلق عليها سكان الجهة الشرقية اسم «المقاتلات»، لسرعتها الجنونية والقاتلة، تتسبب في العديد من حوادث السير التي يذهب ضحيتَها مواطنون أبرياء من السكان ورجال الجمارك والمهربين كذلك.. ويفلت سائقوها من العقاب، إذ غالبا ما يدوس هؤلاء ضحاياهم دون أن يتوقفوا، ويتعذّر الاهتداء إلى هوياتهم، بحكم أن جميع «المقاتلات» تحمل صفائح بأرقام مزورة... وغالبا ما تسجَّل تلك الحوادث ضد مجهول، إذ يصعب التعرف على السائق، في غياب أي وثائق للسيارة «المقاتِلة»... اشتعلت النيران، شهر أبريل الماضي في سيارة «مقاتِلة» محملة بالبنزين المهرَّب من الجزائر. وكانت المقاتلة المحمَّلة ببراميل الوقود المهرب تسير في الطريق المزدوجة في اتجاه الناظور، في ضاحية مدينة السعيدية، قادمة من الحدود المغربية الجزائرية. وبمجرد اندلاع النيران فيها لاذى السائق بالفرار، متخليا عنها، حيث أتت عليها النيران عن آخرها. ولم يخلف الحادث ضحايا، سوى الفزع والهلع اللذين أصابا مرتادي الطريق، مما تسبب في إرباك حركة المرور. .. ولقي مهرب حتفه، صباح يوم الثلاثاء 30 مارس الماضي، في حادثة سير ب«مقاتلته»، على مستوى الطريق الوطنية رقم 27، الرابطة بين مدينة بركان وأكليم. وكان الهالك البالغ من العمر (قيد حياته) حوالي 40 سنة والمتحدر من مدينة زايو، القاطن بحي معمل السكر، على متن سيارته «المقاتلة» التي لا تحمل صفائح ترقيم والمحمَّلة ببراميل من الوقود المهرب من الجزائر، متوجها إلى منطقة زايو، حيث يعمل على ترويجه.. إلا أنه فقد السيطرة على سيارته لتنقلب وتودي بحياته، مخلِّفاً وراءه ثلاثة أطفال... وسقط آخر ضحايا تلك المقاتلات في مدينة وجدة، يوم الثلاثاء، 4 أبريل من السنة الماضية، حيث تعرض أحد تلاميذ مستوى الثانية باكالوريا من ثانوية وادي الذهب على بعد أمتار من باب الثانوية، وهو في طريقه إلى منزله لحادثة سير بعدما صدمته مقاتلة، وأصيب على إثرها بجروح بالغة. وتمكن الجاني من الفرار، تاركا وراءه ضحيته ملقى على الأرض. كما سبق أن حصدت مقاتلة، بداية شهر يونيو 2008، أرواح ثلاثة شبان على الطريق المؤدية إلى النقطة الحدودية «جوجْ بْغالْ» بالقرب من مركب مقهى /مطعم «النسيم». ولم تترك المقاتلة لحظة وداع للشبان الثلاثة شفيق مسواط، ذي ال17 ربيعا والذي كان يتابع دراسته في السنة الثانية من سلك البكالوريا، ورفيقه توفيق لحمامي، البالغ من العمر 18سنة، والبكاي الذي لم يكمل سنته ال19، هذا الأخير متزوج لم تكتمل فرحتهبزواجه ومولوده الأول الذي خرج إلى الدنيا يتيما بعد وفاة والده تحت عجلات «المقاتلة». ونقل ثلاثة عناصر من الفرقة الجمركية في ميضار، التابعة لإدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة في الناظور، على وجه السرعة، عشيةَ يوم الجمعة، 26 مارس الماضي، إلى المستشفى الإقليمي للناظور لتلقي الإسعافات الأولية اللازمة، بعد أن صدمتهم إحدى مقاتلات التهريب، كانت محملة بالملابس الجاهزة المهرَّبة، في محاولة من سائقها الإفلات من قبضة الجمارك، أثناء القيام بعملهم... مجرمون مجهولون وأحرار... ما زال يعاني محمد أمين، الذي أصبح الآن شابا بعد أن بلغ ربيعه التاسع عشر واسترجع جزءا من قدراته العقلية والجسدية، من إعاقته، عقب حادث سير بعد أن صدمه أحد المهربين بمقاتلته منذ أكثر من سبع سنوات، ونجا بأعجوبة من موت محقق، على مستوى طريق سيدي يحيى، أحد شوارع المدينة المؤدية إلى الشريط الحدودي... أمين الذي كان طفلا نجيبا في دراسته وجدّيا في عمله، وهو لم يكن يبلغ بعد ال12 من عمره قبل الحادث، كان يساعد والده، رغم صغر سنه آنذاك، في مختبر التصوير، حيث كان يصنع سعادته وسعادة أسرته، التي تحولت سعادتها إلى تعاسة عندما تحول محمد أمين، في لحظة عابرة، إلى طفل معاق، يعتمد بشكل كامل في حياته على غيره.. فقد النطق، الحركة والمشي.. وولد من جديد، بعد علاج طويل كلف أسرته عشرات الملايين من السنتيمات، دون الحديث عن التنقلات بين المصحات بين وجدة والرباط والدار البيضاء «..لن أغفر للمهرب المجرم أبدا...»، يقول والد محمد أمين الضحية، ثم يضيف بنبرة حزن وأسى عميق: «قتل المجرم فلذة كبدي واغتصب شبابه ورهن مستقبله مقابل براميل من البنزين المهرب... أدعو الله أن يقتص منه أشدَّ ما يكون القصاص»... محمد أمين ليس أول ضحايا «مقاتلات» المهربين أو آخرهم، حيث يعد المواطنون، أطفالا ورجالا، الذين داستهم و«دهستهم» عجلات المقاتلات بالعشرات، في مختلف الطرق: وسط المدينة أو خارجها، ليلا أو نهارا، خاصة في المسالك التي يرتادها المهربون، ومنها طريق بوشطاط وطريق سيدي يحيى والطريق المؤدية إلى النقطة الحدودية «جوجْ بْغال»، إضافة إلى الطرق خارج المدار الحضري المؤدية إلى مختلف المدن المستقبلة للبضائع المهرَّبة وعلى رأسها البنزين. لا يمكن لأي مواطن أن يتوقع ظهور «مقاتلة» في بعض مسالك وطرقات الجهة الشرقية، المعروفة برواد التهريب، حيث تنطلق المقاتلات في سباق محموم مع الموت وضد الساعة، في تحد كبير لجميع الحواجز البشرية والطبيعة وقوانينها الفيزيائية وغيرها.. هدفها الوحيد بلوغ خط الوصول الذي هو مكان تفريغ أو تسليم حمولة البضائع المهرَّبة... مقاتلات كالمدرعات والمصفحات المبرمجة تمرُق يمينا وشمالا في طريقها، لا يوقفها حاجز.. فتحصد روح إنسان، كبيرا أو صغيرا، راجلا أو ممتطيا آلية من الآليات، ولو حافلةَ نقل ركاب، وتحصد رجال الجمارك أثناء القيام بنشاطهم وعملهم.. وتحصد أرواح سائقيها ومرافقيهم، كما تحصد الحيوانات والأحجار والأشجار...»يتعذر في العديد من الأحيان الوصول إلى أصحاب المقاتلات، حيث لا تحمل مقاتلاتهم صفائح الأرقام، وإن حملتها فهي مزوَّرة، وحتى إذا اضطروا إلى التوقف يلوذون بالفرار...»، يوضح أحد المسؤولين الأمنيين في وجدة. وغالبا ما يدوسون حتى الأمشاط أو المشبكات الحديدية في الحواجز المقامة من طرف رجال الجمارك أو الدرك الملكي أو الأمن ويسيرون بعجلات مخرومة لمسافة معينة، إلى أن تتوقف السيارة فيتخلى عنها المهرَّب ومعها السلعة المهربة، لأنه يعلم جيدا أن القيمة الإجمالية للسيارة والبضاعة سيتداركها في سفرية أو سفريتين في الأسبوع!... وحتى بين رجال الجمارك هناك من ذهب ضحية تلك المقاتلات، كالجمركي نصر الدين حنفي، البالغ من العمر 49 سنة، الذي لقي مصرعه، متأثرا بجراحه بعد أن صدمته مقاتلة وداست على جسده، وهو يزاول مهامه، مساء يوم الأربعاء، 29 نونبر 2007، في طريق سيدي موسى، على بعد 15 كيلومترا من مدينة وجدة، تاركا وراءه زوجة وثلاثة أطفال هو الذي قضى 25 سنة من العمل في خدمة الجمارك...»لا يمكن أن نتوقف عند أي حاجز من الحواجز، وإلا خسرنا كلّ شيء ودخلنا السجن... البضاعة المهربة؟ البضاعة؟ لا يهم.. ستُعوَّض في عملية واحدة من بين العمليات العديدة، ما دمت أشتغل... ما عندي ما نْدير هاذا هو رزقي ورزق ولادي...»، يصرح أحد المهربين بجرأة، معبرا عن أسفه لهؤلاء الضحايا، ومؤكدا أنه هو كذلك من «ضحايا» المجتمع وعليه سلوك أي طريق للعيش... هي مغامرات متهورة، يذهب ضحيتها كذلك سائقو المقاتلات الذين يرفضون التوقف عند الحواجز ويؤدون الثمن غاليا، حيث قد يفقد السائق التحكم في السيارة فتنقلب أو تشتعل نارا بفعل الصدمة. ومن جهة أخرى، يسلك العديد من المهربين الاتجاه المعاكس في الطريق والممنوع ويفاجئون السائقين الذين يضطرون إلى فسح الطريق أو التوقف، مُردِّدين «اللطيف»، وخير مثال على ذلك ما تشهده طريق «الكربوز» الثنائية المؤدية إلى السعيدية، كلما استشعر المهربون تواجد الحواجز بواسطة الدليل... كما تعرف بعض المطاردات صراعا خطيرا غير متكافئ بين طوابير سيارات المهربين وسيارات الجمارك، إذ غالبا ما يقتسم كلا الطرفين النصر، حيث يتمكن رجال الجمارك من حجز بعض السيارات المحملة بالبضائع في الوقت الذي ينجح المهربون في تهريب البعض الآخر من السيارات. سجلت مصالح الأمن الخاصة بالسير والجولان 200 حادثة سير، مع جنحة الفرار في الجهة الشرقية، خلال سنة 2009، وكانت نسبة كبيرة منها في مدينة وجدة وخلفت عددا من القتلى.. وفي حالة وقوع حادثة قاتلة تسببت فيها «مقاتلة»، يقوم رجال الأمن أو الدرك بتحرير محضر معاينة للحادثة التي تُسجَّل «ضد مجهول»، ثم يُسلَّم الملف إلى الشرطة القضائية التي تقوم بمتابعة النازلة، وغالبا ما يبقى الملف مفتوحا، إلى أن يغلقه غبار الزمان وينسى مع التقادم... ويرى أحد المسؤولين الأمنيين أن القضاء على المقاتلات المزورة يجب أن يبدأ من نقط انطلاقتها «...وعلى أي، يبقى ضمير سائق السيارة المقاتلة والوازع الديني أساسيين في حقن دماء المواطنين الأبرياء، ما دامت وضعية المهرِّب خارج القانون وخارج المراقبة.. هؤلاء المواطنون، رجالا ونساء وأطفالا، الذين لا ذنب لهم إلا تواجدهم في ذلك المكان وفي تلك اللحظة التي مرت فيها المقاتِلة».. ثم يختم بقوله: «ومن قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا». حدّد رجال الجمارك الذين يوجدون في «حرب متواصلة»، إلى جانب عناصر الدرك الملكي ورجال الأمن، العديد من المسالك التي يسلكها المهربون على متن مقاتلاتهم، سيارات خاصة أو سيارات نفعية وحتى شاحنات، وهذه المسالك المؤدية إلى الشريط الحدودي المغربي/ الجزائري في الجهة الشرقية تعد بالعشرات، فعلى مستوى نواحي وجدة هناك 16 مسلكا: (مسالك سيدي حازم وسيدي عطوان وسيد الميلود والدوبة والعالية ووادي إسلي والقنافذة ودوار أولاد عيسى ودوار السايح ودوار العجرة وربان وطايرت وأولاد القايد وطريق العونية ودوار الحواوصة ودوار أولاد برغيوة والتوميات)... أما على صعيد بلدة بني ادرار فهناك 3 مسالك (فرمة أزنكوط ومسلك الدوبة ومسلك القنافذة)، و4 مسالك على صعيد مدينة احفير (سيد امبارك وبوكانون ودوار أولاد بنعودة وجبل لبزازل).. ثم 5 مسالك في سيدي بوبكر (دوار أولاد النوالي وبني حمليل والعابد ودوار الشرفة وتيولي)، وعلى مستوى مدينة السعيدية هناك مسلكن (وادي كيس ومسلك بين الجراف) ثم مسلكان على صعيد مدينة بركان (زاوية الهبري ومسلك لمريس)... مقاتلات التهريب سيارات مزورة تحجز مصالح الجمارك والدرك الملكي والأمن في مختلف طرقات الجهة الشرقية، أسبوعيا، عددا من السيارات المزورة التي أصبح مآلها الإتلاف والتكسير، خاصة تلك التي تستعمل في تهريب البنزين ولا تتوفر على الكراسي الخلفية، حتى لا تعود إلى الطرقات مرة أخرى، بموجب قرار اتخذ في مقر ولاية الجهة الشرقية في وجدة، بحضور المصالح المعنية. وللإشارة، فإن هذا القرار أدى إلى شبه اندثار بعض السيارات المعروفة والمستعملة في تهريب المحروقات ك«رونو 12» و«رونو 18» و«رونو 21» و«رونو25».. وحلت محلها سيارات حديثة وعصرية ك«الجيطا» و«أوبيل فيكترا» و«أوبيل كاديت» و«أوبيل كورسا» وسيارات «المرسيدس» (190 و240) و«ب.م.دابل يو» و«رونو 19» و«بوجو 405»... رغم كل هذه الإجراءات، لن «تنقرض» هذه المقاتلات، ما دام التهريب مصدر عيش العديد من ساكنة الجهة الشرقية، وستظل تجوب طرقات المنطقة، لأنها وسيلة أساسية وضرورية في أنشطة التهريب، وهو ما يجعل كذلك شبكات سرقة السيارات تنشط أكثر. وعلاقة بالموضوع، تعمل المصالح الأمنية الولائية، التابعة لمصالح الشرطة القضائية في مختلف مدن الجهة الشرقية، كل سنة، على تفكيك العديد من الشبكات المختصة في سرقة السيارات تنشط في هذه المدن، وحتى في مختلف المدن المغربية، عبر وجدة، وبعدها نحو الجزائر، حيث تباع لتستعمل في أنشطة التهريب على الشريط الحدودي من كلتا الضفتين. ولإخفاء هوية السيارة، يَعْمد المزورون، غالبا، إلى إتلاف أرقام هياكلها بمحوها، حسب تصريح أحد المسؤولين في إدارة الجمارك. ويصعب اتخاذ أي إجراء في حقها كبيعها في المزاد العلني أو معرفة صاحبها لمعاقبته في حالات حوادث السير القاتلة أو غيرها. وتروج هذه الشبكات السيارات المسروقة، وبطرق مختلفة وعديدة. فيقتني المزورون السيارات القديمة أو الرخيصة ب«صفة قانونية» وتلج الطرقات، بعد إتلاف أرقام هياكلها، بدَقِّها بمطرقة أو آلة حديدية إلى أن تصعب قراءتها فتستعمل في أنشطة التهريب... وكانت مصالح الأمن التابعة للشرطة القضائية في وجدة قد فككت، خلال يناير 2007، شبكة من 14 عنصرا من بينهم 5 جزائريين. وتمكنت الشبكة من سرقة 53 سيارة من نوع «مرسيدس» و«رونو كلييو» و«فياط أونو» و«بوجوط وسيارة تعليم وسيارة نقل مدرسي، من مدن الجديدة وأسفي وسيدي بنور والمحمدية والرباط وسلا واليوسوفية والقنيطرة والصويرة ومراكش وأكادير ووجدة. واستأثرت مدينة وجدة بحصة الأسد من حيث أعداد هذه السرقات، حيث نجحت الشبكة في سرقة 20 سيارة عثرت عناصر الأمن خلال البحث على 7 منها وتم إرجاعها إلى أصحابها، كما تم ضبط عمليتين اثنتين في حالة تنفيذ وقامت بإحباط عدة محاولات... إحصائيات وأرقام سجلت مصالح الأمن الخاصة بالسير والجولان 200 حادثة سير، مع جنحة الفرار في الجهة الشرقية، خلال سنة 2009، وقعت نسبة كبيرة منها في مدينة وجدة، تسببت فيها «مقاتلات» التهريب وخلفت عددا من القتلى. وتمكنت عناصر الأمن في وجدة، في إطار محاربة النقل السري ومقاتلات التهريب، خلال سنة 2008، من حجز 300 سيارة مسخّرة للنّقل السّري، و58 مقاتلة، و61 درّاجة نارية.. وسجلت نفس المصالح عددا من الحوادث، مع جنحة الفرار في الجهة بلغت حوالي 200 حادثة، خلفت عددا من الضحايا تسببت فيها مقاتلات التهريب، في مختلف طرقات ومسالك وجدة والجهة الشرقية. وقامت عناصر الجمارك، التابعة للسريات الجمركية لمقاطعة وجدة بحجز 1600 سيارة مقاتلة من مختلف الأنواع سنة 2006، كما قامت خلال سنة 2007 بحجز 1700 مقاتلة في مختلف المسالك المستعملة من طرف المهربين.