أقامت الدنيا ولم تقعدها لقضية آمنتو حيدر، لكن لسانها أصابه الشلل في قضية خطيرة تتعلق باختطاف مصطفى سلمى ولد سيدي مولود . الذين يتباكون اليوم عن تعليق نشاط قناة الجزيرة في المغرب والذين يعتبرون القرار تراجعا عن المكتسبات التي راكمتها بلادنا خلال السنين القليلة الماضية، لم نسمعهم في السابق يشيدون بهذه المكتسبات، ولم يبشروا بالفتح الكبير الذي قد يكون تحقق بدخول قناة الجزيرة القطرية إلى بلادنا. قد يبدو قرار تعليق نشاط هذه القناة ببلادنا، محتكا بحرية الرأي والتعبير بشكل أو بآخر بالنظر إلى أن الموضوع يرتبط بقضية بالغة الحساسية، ويبدو الاقتراب منها شديد الخطورة، ولكن في بعض الأحيان لا نملك إلا أن نقترب منها ونتخذ القرار الذي تتطلبه المرحلة. قيل منذ انطلاقة هذه القناة إنها جاءت إلى غابة السياسة المتشابكة في الوطن العربي لإنعاش المبادرات السياسية النادرة - مع كامل الأسف- على امتداد خريطة الوطن العربي الممتدة من المحيط إلى الخليج، والحقيقة أن المغاربة تطلعوا إلى تجسيد فعلي لهذا الشعار، ولكن الذي حدث أن هذه القناة تحولت إلى سوط يجلد الجميع، وتقبض بأنفاس نقاط الضوء حتى الصغيرة منها في بحر الظلمات العربية. ولقد كان المغرب سباقا إلى إبداء حسن النية إزاء هذه القناة القطرية، وفتح لها ذراعيه منذ الوهلة الأولى بأن سمح لها ببث نشرة الحصاد المغاربي من الرباط وبصفة مباشرة على الهواء، بما لم تجده هذه القناة في أقطار عربية أخرى بما فيها داخل قطر الراعية الوحيدة والشرعية لها، لكن الذي حدث أن عيون هذه القناة اختصت فقط في رصد المظاهر السلبية وممارسة التشويه والمغالطة. بل والإضرار بمصالح الشعب المغربي قاطبة الداخلية والخارجية، كيف ذلك، فلنشرح. من المؤكد فإن المظاهر السلبية والسيئة موجودة في المغرب الذي لا يدعي الكمال، فالمغرب بلد نامي يشق معالم الطريق بصعوبة، لذلك غبي من ينكر وجود العديد من المظاهرو الممارسات السلبية في البلاد، ومن المؤكد فإن دور وسائل الاعلام هو مراقبة أداء مختلف الفاعلين في البلاد، وفضح وتعرية هذه المظاهر والممارسات ، لكن في المغرب أيضا نقاط ضوء مشعة يعتز المغاربة بتحقيقها، ففي المغرب مكتسبات تتراكم بشكل تدريجي، أوراش تنموية كبرى في الطرق السيارة وفي الموانئ وفي السكن، والمغاربة امتلكوا شجاعة كبيرة جدا بأن فتحوا ملفات الماضي الحقوقي وقرأوها بجرأة وبموضوعية، ومن واجب وسائل الاعلام بل من مسؤوليتها أن تتناول هذه الخبر في معالجتها اليومية، قناة الجزيرة أصر ت على أن ترتدي نظارات سوداء وتكتفي بنقل الصورة السوداء التي لا ترى سواها. وبذلك فإنها تشبثت وأصرت على تعميق الاختلالات المهنية في أدائها. بما يضر بها قبل أن يضر بالمغرب، الذي لا يمكن أن يتوقف عن التنفس لأن قناة الجزيرة القطرية أرادت ذلك. لاحظوا أن جلالة الملك محمد السادس يدشن منشأة مائية علاقة في ناحية ورزازات بغلاف مالي سيتجاوز 600 مليار درهم، ولم يكن هذا الخبر الهام أن يجد له مساحة ولو صغيرة في نشرة الحصاد المغاربي التي بثت مساء نفس اليوم، وكان لخبر آخر تافه نصيب الأسد في اهتمامات نفس النشرة. الجزيرة أقامت الدنيا ولم تقعدها لقضية آمنتو حيدر، لكن لسانها أصابه الشلل في قضية خطيرة تتعلق باختطاف مصطفى سلمى ولد سيدي مولود الذي قرر ممارسة حقه في التعبير والرأي. قناة الجزيرة لم تجد من مبرر لتغطية التفاعل الإيجابي الهام الذي تعج به الساحة السياسية والنقابية المغربية على خلاف ما تعرفه تجربة قطر من جمود وركود، تدير الظهر، مثلا لقرارات رسمية مهمة تندرج في سياق الحوار الاجتماعي أو علاقات المغرب الخارجية، تدير الظهر للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي احتضنته مراكش، تدير الظهر للمؤتمر الدولي للأممية الديمقراطية لأحزاب الوسط، تدير الظهر للأوراش الكبرى التي يشرف عليها جلالة الملك شخصيا، وفي مقابل ذلك تراها تنقب بالمجهر عن تفاصيل اجتماعية واقتصادية صغيرة تظهر المغرب على غير صورته الحقيقية، تنقله إلى العالم كبلد الأزمات والتوترات، وهذا كنه الحمق الإعلامي الذي يؤكد أن المشرفين على هذه القناة يعانون مرضا نفسيا مزمنا أو مختلون بكتلة من العقد النفسية تجاه بلادنا. دعنا من نظرية المؤامرة التي ترجع كل إحباطاتنا إلى وجود متآمرين، وهي قناعة تفسر على كل حال نوعا من العجز على التحليل الموضوعي، فبماذا تفسر قناة الجزيرة الفضائية كل هذه الردود العنيفة التي تلقتها من جميع الدول العربية تقريبا، في تونس كما في الجزائر كما في مصر والعراق والأردن والكويت، وغيرها كثير، من البساطة بل والسذاجة القول إن صدر الحكومات العربية لم يتسع للديمقراطية وحرية الرأي، لأن هذا التفسير قاصر ولا يفي بالغرض، نعم هوامش الديمقراطية في أقطارنا العربية جد ضيق، وأنفاسه مكتومة، ولكن الجزيرة القطرية مع كامل الأسف جاءت لكتم ما تبقى من هذا النفس، لإبطال مفعول أية مبادرة قد تكون كفيلة بالانعاش السياسي والديمقراطي في وطننا العربي. إن قناة الجزيرة أمسكت بعلبة كبريت، تلقي في كل مرة بحفنة من عود الثقاب المشتعلة على كومة تبن، ولا يرتاح لها بال إلا والنيران ملتهبة تأتي على الأخضر واليابس. وهذا ما لا يمكن أن يقبله المغاربة.