الإيليزيه: الحكومة الفرنسية الجديدة ستُعلن مساء اليوم الإثنين    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة في الدار البيضاء    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    الناظور بدون أطباء القطاع العام لمدة ثلاثة أيام    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    نُبْلُ ياسر عرفات والقضية الفلسطينية    الإيليزي يستعد لإعلان حكومة بايرو        محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    حقي بالقانون.. شنو هي جريمة الاتجار بالبشر؟ أنواعها والعقوبات المترتبة عنها؟ (فيديو)    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    الحلم الأوروبي يدفع شبابا للمخاطرة بحياتهم..    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ستر المغتصبات.. وقفات مع فقه ابن الخطاب رضي الله عنه
نشر في الوجدية يوم 13 - 06 - 2010

"زينب دياب" فتاة في مقتبل العمر، تتدفق حيوية وتألقاً، ذلك الألق الذي خلقه جمال الصورة ولمعان العقل.. يحدثنا الأستاذ الكبير نجيب محفوظ عنها في روايته "الكرنك" عن شبابها وإقبالها على الحياة، ويصف لنا وصفاً عميقاً وذكياً الصراع الذي يموج في نفسها، الصراع بين الدهشة الغضة بالفكر الجديد وبين القيم الأصيلة..
لا تملك إلا أن تحب شبابها وتتأمله، لكن زينب تنهار.. وينهار معها كل ذلك "الألق" بعد اعتداء زبانية رجل المخابرات "خالد صفوان"عليها.
حياة الشرفاء
للوهلة الأولى قد يظن القارئ أن السبب في الانهيار هو اغتصابها، وجدير أن يظن-بادي الرأي- أن جريمة كهذه يمكن أن تدمّر فتاة عفيفة، وتقضي على بكارة وجدانها، ونقاوته، لكن الأستاذ نجيب محفوظ يلفت نظرنا من خلال كلمات "زينب" إلى معنى مهم، وهو أن السبب البعيد والأصيل في الدمار الذي حل بنفسيتها هو أنه لم يكن لديها حصانة معرفية تحمي بها نفسها من التردي في ظلمات احتقار الذات، الذي أدى بها إلى السقوط.
تقول زينب: "رفضت التظاهر بحياة الشرفاء وقررت أن أعيش كما ينبغي لامرأة بلا كرامة.. ثم اضطرب تفكيري فضل ضلالاً بعيداً." (رواية الكرنك. نجيب محفوظ. ص70. دار الشروق.مصر).
لقد اضطرب تفكيرها فضل ضلالاً بعيداً.. لم يكن لديها بناء معرفيا يحميها من المشاعر السلبية، واضطراب التفكير.. وهكذا كان حال بعض من دمرهن الاغتصاب، ولم يسهم المجتمع في حمايتهن أولاً من جريمة الاغتصاب، ولم يسهم ثانيا في حمايتهن من تدمير أنفسهن.
إنهن لا يستحققن ذلك.. العقل المنصف يشهد بذلك.. والشرع الحكيم يحميهن من هذه المشاعر ومن اضطراب التفكير، ونجد في فقه سيدنا عمر ما يدل دلالة واضحة على حق الفتاة المغتصبة في حياة كريمة، وحقها في أن يكون أهلها هم أول الناس حماية لها ودعماً.
"فقه الستر" في فقه الفاروق عمر رضي الله عنه تتجلى فيه معاني رحمة الإسلام بالناس، رحمة بمن ارتكبت جريمة الزنا ثم تابت توبة نصوحاً، ورحمة بالمغتصبة المعتدى عليها.. تلك الرحمة الحكيمة التي جاء الإسلام ليجعلها أساساً في حياة الناس وتعاملاتهم.. وقراءة هذه الرحمة تحتاج إلى صبر، وتأمل، وتجديد نية طلب الحق.. والله المستعان.
ما لَك وللخبر؟
قديماً في زمن خلافة سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه.. يروي لنا الإمام مالك في الموطأ عن واقعة حصلت في ذلك الزمان : "أن رجلاً خطب إلى رجل أخته فذكر أنها قد كانت أحدثت– قال الإمام الطاهر بن عاشور في كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ كتاب النكاح/ جامع النكاح: أي زنت -فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فضربه أو كاد يضربه.. ثم قال: ما لك وللخبر؟".
قال الإمام ابن عبد البر (في الاستذكار /كتاب النكاح / باب جامع النكاح): قد روي هذا المعنى عن عمر من وجوه، ومعناه عندي - والله أعلم - في من تابت وأقلعت عن غيها، فإذا كان ذلك حرم الخبر بالسوء عنها، وحرم رميها بالزنا، ووجب الحد على من قذفها إذا لم يقم البينة عليها.
ثم روى الإمام ابن عبد البر( في الاستذكار/كتاب النكاح/ باب جامع النكاح) بسنده عن الشعبي أن رجلا أتى عمر بن الخطاب فقال: إن ابنة لي ولدت في الجاهلية، وأسلمت، فأصابت حدا، وعمدت إلى الشفرة، فذبحت نفسها، فأدركتها، وقد قطعت بعض أوداجها بزاويتها، فبرئت، ثم مسكت، وأقبلت على القرآن، وهي تُخطب، فأخبر من شأنها بالذي كان؟، فقال عمر: أتعمد إلى ستر ستره الله، فتكشفه، لئن بلغني أنك ذكرت شيئاً من أمرها لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار، بل أنكحها نكاح العفيفة المسلمة.
القضية التي وقف فيها سيدنا عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- هذا الموقف القوي الذي يرقى إلى العقوبة أو التهديد بها في حق من يفضح ستر من زنت ثم تابت إذا ما خطبها خاطب، هي قضية تلتبس على العقول، وتتداخل فيها الحقوق ظاهراً، فهناك حق الستر لمن تابت، وهناك حق الخاطب في أن لا يخدع بالزواج ممن يظنها لم يمسها غيره، لكن الملهم سيدنا عمر –رضي الله عنه- يجعل الستر حقا لا يعارضه حق غيره، بل ويسقط ما قد يُتوهم من حق للخاطب في إعلامه بحال مخطوبته قبل توبتها.
الستر والعدل
ويشرح لنا الإمام الطاهر ابن عاشور ذلك –في كشف المغطى من المعاني والألفاظ الواقعة في الموطأ كتاب النكاح/ جامع النكاح- فيقول: "ووجه الفقه في ذلك كله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بستر المسلم فيما زل فيه من المعاصي فقال في الحديث الصحيح: "من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة".. فحَصُل العلم بأن من مقاصد الشريعة الستر في المعاصي ما لم يخش ضر على الأمة، لأن في الستر مصالح كثيرة، منها: إبعاد المقترف عن استخفاف الناس به وكراهيتهم له، ومنها أن من حصلت منه المعصية على وجه الفلتة إذا ستر أمره بقي له وقاية من مروءته فلعله لا يعاود تلك المعصية فإذا افتضح زال ذلك الاتقاء، فقال: أنا الغريق فما خوفي من البلل، فلأجل ذلك كله وغيره أدّب عمر –رضي الله عنه- من شهر بأخته، لأن تلك المقاصد التي ذكرناها هي أقوى وآكد في جانب الأقارب بله الأخوة، وليس هنالك ما يعارض، إذ لا منفعة للخاطب في إعلامه بما أحدثته مخطوبته، فإنه ذنب مضى، وليس هو عيبا في الخلقة يجب الإعلام به لتجنب الغرور بالخاطب، كعيوب الأبدان والأخلاق من مرض أو جنون أو حماقة قوية تمنع حسن المعاشرة، على أن الإخبار بمثل ذلك يوجب انكفاف الرجال عن تزوج المرأة، ولذلك قال له عمر: "مالك وللخبر"، يعني لا داعي إلى ذلك الخبر ولا فائدة، فإن الاستفهام في قوله "مالك" استفهام إنكاري هو في معنى النفي، أي : ليس لك مع هذا الخبر اتصال واختصاص". اه النقل مختصراً.
فالإسلام يؤكد على أن العفة منبعها طهر القلب، واستقامة السلوك، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "التائب عن الذنب كمن لا ذنب له" ( سنن ابن ماجه/ كتاب الزهد / باب ذكر التوبة)، قال ابن حجر الهيتمي في مجمع الزوائد : "رواه الطبراني، وفيه من لم أعرفهم. قلت: وقد تقدمت أحاديث في باب "الإسلام يجب ما كان قبله" في كتاب الإيمان. ونقله الإمام ابن عبد البر في الاستذكار في كتاب النكاح/ باب جامع النكاح.
وإذا كان الخاطب إذا زنا ثم تاب، فليس غشاً ولا خداعاً أن يستر على نفسه، وأن لا يفضحها أمام من يخطب عندهم، بل يحرم عليه أن يفضح نفسه، والستر واجب عليه، فكذلك المرأة إذا تابت، واستقامت ليس لها أن تفضح نفسها، وليس لأهلها أن يهتكوا ستر الله عليها. يروي الإمام ابن عبد البر (في الاستذكار / كتاب النكاح/ باب جامع النكاح ) أن رجلا أراد أن يزوج ابنته، فقالت: إني أخشى أن أفضحك، إني قد بغيت. فأتى عمر، فذكر ذلك له، فقال: أليست قد تابت؟ قال: نعم، قال: فزوجها.
ونجد في فروع الفقه المالكي مزيد تفصيل في هذه المسألة، فيذكر المالكية أن من زالت عذريتها بزنا لم يتكرر منها هي في حكم البكر، وكذلك من اغتصبت، وينصون أن من لم يتكرر منها الزنا لم يرتفع حياؤها، فتعامل معاملة الفتاة البكر في أن أباها له أن يجبرها على الزواج.
والأمر ليس من جهة القهر للمرأة كما قد يتبادر، لكن هم ينظرون لهذه المسألة في ضوء الوضع الاجتماعي الذي كانوا يعيشونه، وفي هذا الوضع تستحي الفتاة البكر من إبداء الموافقة على الزواج، وقد تصرّح بالرفض وهي راغبة، فنظراً لهذه الطبيعة النفسية الخاصة للبكر في ذلك المجتمع، ذهب المالكية إلى أن والد الفتاة البكر له أن يجبرها على الزواج الذي تمتنع عن قبوله حياء، ومن هنا كان تعبيرهم الفقهي: أن علة إجبار البكر هي الحياء.
وأن التي زنت ولم يتكرر ذلك منها في حكم البكر لأنها لم يرتفع حياؤها. ( التاج والإكليل / كتاب النكاح/ ج3/ ص 327/ الناشر: دار الفكر. وهذا هو مشهور مذهب المالكية كما نقل الشيخ البناني في حاشيته على مختصر خليل/ مج3-4/ج3/ص172. دار النشر: دار الفكر).
يبدو هذا الكلام عجيبا في عصر كعصرنا، فالغالب أن الفتيات – في عصرنا- لا يمتنعن عن قبول الخاطب حياء من أن يفهم أنهن راغبات في الزواج، لكن فلنحلل عزيزي القارىء كلام المالكية في ضوء تكييفهم للمسألة.
ينظر المالكية إلى الفتاة التي وقعت في الزنا ولم يتكرر هذا الفعل منها نظرة تستوقف المرء حقاً، فهم لا يجعلون سقوطها هذا رغم شناعته سبباً للحكم عليها بارتفاع الحياء عنها، فالسقوط لمرة لا يعني أنها صارت في حكم الفاجرات اللاتي لا حياء عندهن، وهذه النظرة تجعلنا نتأمل في العدل الفقهي الذي نتج عنه هذا الحكم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} المائدة8، وهي نظرة تتسق مع ما يؤكد عليه الإسلام من أن الذنب ينبغي أن لا يكبل المرء، وأن التوبة باب مفتوح في كل لحظة، ليبدأ المسلم من جديد مع رب يقبل عليه بفرح، ويعده بالعون والتأييد إن أخلص الإنابة.
عزة التوبة.. تصحيح معرفي
وأجدني أتأمل كيف أن نشر هذه الثقافة، وتأصيلها في نفوس الناس، سيحمي كثيرات ممن اغتصبن أو زللن من كراهية الذات التي قد تقودهن إلى ظلمة العزلة أو التردي في مهاوي الفساد والعياذ بالله.
هي ثقافة تكسب المرء قوة نفسية، واعتزاز بالله عز وجل فالله هو العزيز، وهو يريد للمسلم العزة، واحترام الذات، ويمنعه من أن يدخل بينه وبين ربه العزيز نفس أمارة بالسوء والكراهية والاحتقار، أو بشر ليس من حقه أن يطلع على ذنب خفي مهما كان قربه من صاحب الذنب، فالله وحده هو القريب حقاً، العزيز حقاً، يغار على عبده المؤمن، وليس للمؤمن أن يهتك ستراً ستره الله عليه.
وفي ضوء النصوص القرآنية والنبوية العامة التي تحث على الستر، وتأمر به، وفي ضوء فقه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والتحليل النفسي والاجتماعي لهذا الفقه، جاءت الفتاوى المجيزة لعملية إعادة الغشاء في حق من زنت فتابت وحسنت توبتها.
ففي فتوى لفضيلة الدكتور علي جمعة محمد بشأن حكم عملية إعادة غشاء البكارة (الفتوى بتاريخ 28/12/2003 موقع دار الإفتاء المصرية/ فتاوى فضيلة المفتي/ الطب والتداوي) يقول فضيلته بعد أن أكد على الحض على العفاف وتحريم الزنا، وذكر أن الأصل في الشريعة هو الستر على الأعراض وأيد قوله بالنصوص الشرعية: "لقد نص السادة الأحناف أن العذرة لو زالت بزنا خفي وهو الذي لم يصل إلى الحاكم فلم يقم عليها الحد، ولم تشتغل به حتى صار الزنا لها عادة، أنها بكر حكماً، وإن لم تكن بكرا حقيقة، وتُزوج كالأبكار، حتى إنها لا تُستَنطق، إنزالاً لها منزلة البكر التي يقول فيها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :" البكر تستأذن وإذنها صمتها"، وعلل الحنفية ذلك بقولهم: وفي استنطاقها إظهار لفاحشتها، وقد ندب الشارع الستر. ( مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر/ كتاب النكاح / باب الأولياء والأكفاء)، ثم قال فضيلته: "... ومما سبق فيجوز لها رتق ذلك الغشاء بالطب درءاً للمفسدة التي تترتب ولو في المآل على عدم ذلك الرتق، ويجوز للطبيب فعل ذلك ولو بالأجر، أما إذا اشتهرت بالزنا والعياذ بالله، أو حدت فيه فلا يجوز ذلك لانتفاء العلة." اه كلام فضيلته .
وسئل فضيلة الدكتور البوطي: "أليس الإفتاء برتق غشاء البكارة واحداً من الأسباب التي تهوّن الوقوع في الخطأ؟" فأجاب فضيلته: "أرأيت لو أن فتاة مستقيمة خطبت إلى شاب مثلها، وكانت قد انزلقت يوماً ما إلى ارتكاب فاحشة، ثم تابت إلى الله توبة نصوحا، أفيجب عليها أن تكشف سترها لهذا الشاب.. الجواب أنه كما لا يجب على الشاب أن يتحدث عن انحرافاته الماضية التي تاب عنها، فكذلك الفتاة لا يجب عليها ذلك، لأن معصية الرجل والمرأة في ميزان الله تعالى سواء.
فإذا كان هذا واضحاً، فإن ترميم الفتاة التائبة بصدق بكارتها سترا لنفسها، داخل في الحكم ذاته، هذا بقطع النظر عن أن هذا الترميم فيه عون كبير على استقامتها، في حين أن منعها من ذلك وإلجائها إلى طريق الفضيحة، من أخطر أسباب الانحراف إلى الرذيلة والموبقات." اه باختصار يسير.( مع الناس مشورات وفتاوى . د. محمد سعيد رمضان البوطي. ص 134).
آلام المغتصبة أشد
وإذا كان الشرع – في فقه سيدنا عمر رضي الله عنه- قد ألغى ما قد يتوهم من غش الخاطب فيما إذا لم يُخبر بأن من يخطبها قد سبق لها أن زنت، ويعد هذا الذنب هو أمر خاص بالفتاة متى تابت عنه، واستقامت، فقد يقال إن من اغتصبت فزالت بكارتها هي أولى بأن تستر على نفسها، فهي ضحية ومعتدى عليها، لكن ماذا عن الأثر النفسي الذي يتركه الاغتصاب في نفس المغتصبة، والذي يؤثر على قدرتها على القيام بحق الزوج الخاص؟، هل يجعل من الواجب عليها أن تخبر الخاطب بما حصل لها ليعينها على تجاوزه نفسياً؟.
لست من أهل الإفتاء إنما أطرح المسألة للمناقشة لا التقرير، هذا الأثر النفسي هل يمكن معالجته بسرية تامة، وبدون حاجة إلى معونة الزوج؟، هذا ما ينبغي أن يجيب عنه الأطباء، فإذا كان ذلك ممكناً فينبغي أن يكون القول بالستر واجباً، لكن إذا لم يكن من الممكن معالجته، فما هو الحكم؟، وهل يقال إن الزوجة ليس لها أن تخبر الزوج بما جرى لها، ويعالج الأمر على أنه عرض نفسي طارىء، لكن لماذا نحمّل الزوج العبء النفسي والمادي لعلاج الزوجة، أليس هذا ضرر يلحق به لا ذنب له فيه؟.
اجتهادات مغايرة
لقد اقتصرت في السطور السابقة على طرح المسألة من حيث اتصالها بفقه سيدنا عمر- رضي الله عنه-، وإلا فإن لبعض المعاصرين أقوالاً واجتهادات بعضها يختلف مع فقه سيدنا عمر –رضي الله عنه- في التأصيل ويتفق في النتيجة، وبعضها يختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل والنتيجة.
من القسم الأول: أي من الفتاوى التي تختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل وتتفق في النتيجة الفتوى التي صدرت عن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته ال 18 من 9 إلى 14 تموز 2007م، ونصها: «يجوز رتق غشاء البكارة الذي تمزق بسبب حادث أو اغتصاب أو إكراه، ولا يجوز شرعاً رتق الغشاء المتمزق بسبب الفاحشة، سدا لذريعة الفساد والتدليس، ويستثنى من هذا الحكم ما إذا غلب على الظن أن عدم الرتق يؤدي إلى مفسدة عظمى، فإنه يجوز إجراء عملية الترقيع، كما هو الحال في أعرافنا، فإن الفتاة إذا اكتشف ليلة زفافها أنها فاقدة للعذرية تطلق، وفي طلاقها مفسدة لها وعار لأهلها، وقد يؤدي الأمر إلى قتلها من قبل ذويها، وفي حال وجود مفسدتين ترتكب الأخف دفعا للعظمى. ( جريدة عكاظ / 29 أكتوبر 2009) .
وتتفق فتوى الدكتور سلمان العودة مع فتوى مجمع الفقه الإسلامي في إجازة مثل هذه العملية درءا لمفسدة ما يسمى جرائم الشرف، وهي مفسدة عظيمة، يقول: «عملية ترميم غشاء البكارة فيها خلاف بين الفقهاء، والذي أميل إليه أنه إذا وجدت التوبة عند الفتاة، فإنه يجوز لها أن تفعل ذلك حفاظاً على نفسها، وعلى حياتها، وعلى مستقبلها؛ لأنه من النساء من تقتل، وأنا أعرف منظمة عالمية ذكرت أن خمسة آلاف امرأة تقتل سنويا بسبب هذا الأمر، أو ما يسمى بجرائم الشرف".
ومن القسم الثاني: أي من الفتاوى التي تختلف مع فقه سيدنا عمر في التأصيل والنتيجة: ما ذهب إليه أ. د حسين حامد حسان رئيس مجمع فقهاء الشريعة في أمريكا عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عضو المجامع الفقهية من منع مثل هذه العملية، قال: إن فتح الباب في هذه العمليات يؤدي إلى فساد عظيم بل إنها تجر إلى مفاسد أكبر من منفعة الستر، ومن ذلك الغش والتدليس على الزوج، مشيراً إلى ضرورة أن يبين ولي الأمر للخاطب ما حصل لابنته في حال إجراء عملية الترقيع، وأضاف: ولقد سبق وصادفتني عدة حالات لفتيات أخفين على خطبائهن حقيقة بكارتهن فاكتشف الزوج ذلك فحدث الطلاق وتبعت ذلك آثار سلبية عظمى.
وعلل فضيلته سبب رفضه لتلك العمليات لأنه لا يبرر الستر على الجريمة بارتكاب جريمة أخرى فسد الذرائع ومنع المفاسد مقدم على كل ما سواه، وأضاف: أعتقد أن مثل هذه الفتاوى تقلل من قيمة العفاف والطهر رغم قيمتهما الكبيرة ( جريدة عكاظ /29 أكتوبر 2009).اه النقل باختصار.
وكلام فضيلته قد سبقت مناقشته في ثنايا المقال، فالكلام على الغش والتدليس على الزوج تعارضه النصوص التي تأمر بالستر، وتجعل الذنب أمراً خاصاً بين العبد وربه، ليس من حق أقرب الناس الاطلاع عليه، والكلام على أن هذا الباب يجر الفساد، ويقلل من أهمية العفاف والستر يرده أن قفل هذا الباب يشجع على الإعراض عن التوبة، ويحرم من أرادت الاستقامة من بداية جديدة في حياتها طاهرة، عزيزة، بستر الله ومغفرته وتوبته.
لقد جعل الإسلام مساحة كبيرة للفرد المسلم للإصلاح، وبنى أحكامه على التعامل مع المسلم تعاملاً يؤكد على احترام المسؤولية الفردية، ويشدد على ثقافة الستر، ويعزز ثقة المسلم بنفسه، وبقدرته على أن يكون فردا صالحا مهما ارتكب من خطايا، وسد الباب أمام ذلك هو مجافاة لروح الإسلام، وميزة عظمى من مزاياه كما أفهم. والله أعلم.
صفية الجفري
كاتبة وباحثة شرعية بالمملكة العربية السعودية
ويمكنك مطالعة مدونتها http://www.mudawala.blogspot.com


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.