ذ.عبد المنعم سبعي كانت باريز العاصمة الفرنسية خلال شهر دجنبر المنصرم على موعد مع الكفاءات المغربية في لحظة تكريم واعتراف قوية بدور الفقيد عبد العزيز مزيان بلفقيه. المستشار السابق لجلالة الملك. في تعبئة الكفاءات المغربية المقيمة بالخارج. وخلال هذا المنتدى. الذي احتضنته المدرسة الوطنية العليا للمناجم بباريس. قدمت عدة شخصيات. عايشت عن قرب الفقيد. شهادات تبرز المناقب العلمية والإنسانية “لرجل دولة من الوزن الثقيل". كان “منخرطا حتى النخاع في خدمة المرفق العمومي". ولعله من باب الاستعارات السارة أن يكون هذا الرجل التي أجمع على نقاء سريرته كل من تعرف عليه أو تعامل معه، ينحدر من جهة مغربية ظلت تئن من ضعف البنى التحتية والتهميش والاقصاء، لكن المناطق التي جبلت على التضحيات لن تشل أرحام نسائها من تقديم الرجال تلو الرجال. حال عبد العزيز مزيان بلفقيه لا يختلف من حيث مبدإ خدمة الوطن أولا ، عن حال المستشارة زليخة الناصري في الشأن الاجتماعي، ولا عن حال المستشار الملكي السابق علال السي ناصر في الشأن الثقافي، ولا عن حال العلامة مصطفى بنحمزة في الشأن الديني والاجتماعي والثقافي والاحساني... هؤلاء شخصيات كلها تنحدر من الجهة الشرقية وكلها عرفت بنقائها وإخلاصها، وقد يكون أمرا منطقيا الجزم بان المراكز الحساسة التي يشغلها رجال منحدرون من الجهة الشرقية غالبا ما تبقى بصماتهم حاضرة ولو بعض مضي ردح من ةالزمن. لم تكن تاوريرت لتعرف كل ذلك التداول الإعلامي الوطني والدولي، لولا الحزن الذي سكنها عندما كانت تودع أحد أبنائها الوطنيين، ولولا الوفاء والإخلاص اللذين طبعا حياة المستشار الملكي عبد العزيز مزيان بلفقيه طيلة حياته، لذلك استحق أن يبادل وفاء بوفاء، وحبا بحب وأن تشيع جنازته بذلك الجم الغفير من المشيعين وبتلك الدعوات والشهادات التي لم بشذ منها أحد سرا أو علنا. فإن يولد المرء ويترعرع ويجد ويكد، وينجب ويموت فسيظل ميتا إلى حين، أما أن يولد ويحمل على أكتافه بعضا من هموم الوطن وينشغل بأهم انشغالات أبناء الوطن تم يموت فسيظل حيا ولن يحتسب من الأموات، وهذه حال عبد العزيز مزيان بلفقيه بفضل ما عرف عنه من إخلاص وتفان وصمت وأناة، وحب للوطن وبحث عن رفعة الوطن، لذلك فلن يفارق المغاربة لأنه ارتسم في قلوبهم. فبين سنة 1944 وهي السنة التي رأى فيها النور ذات يوم بتاوريرت وبين 11 ماي 2010 تاريخ دفنه بالمقبرة الأولى لمدينة تاوريرت إلى جوار والده، مسيرة حافلة بالعطاء مثقلة بالانجازات وأكثر من ذلك غنية بالبصمات الإنسانية النبيلة والوطنية الصادقة، فعند ما ولد الفقيد سنة 1994 ولد تحت نجمة وثيقة المطالبة بالاستقلال، وبما أن مرحلة الولادة لابد وأن تكون مرتبطة بمسار المولود وبشيء ما من حياته، فإن ملامح بناء الوطن ما بعد الحصول على الاستقلال قد ملأ قدر هذا الرجل، كما ارتفعت به جديته إلى الانخراط في تأسيس البنية التحتية للأقاليم الجنوبية غداة استرجعها. نعتقد بكثر من الجزم أن المرحوم عبد العزيز رغم الظاهر القوي والنافذ لرجل عاد إلى وطنه مثقلا بالشهادات الباريزية من مهندس مدني إلى دبلوم الدراسات العليا في تدبير المقاولات مرورا بدبلوم الدراسات المعمقة في الميكانيك والصلب، لم يكن ليصل إلى أعلى هرم السلطة دون التدرج في أسلاك الوظيفة العمومية والوظائف السامية وطبع مساراته المهنية بطابع الجدية والانهماك في العمل وحسن الإنصات والحوار... ففي سنة 1968 سيعمل بوزارة الأشغال العمومية كمهندس لتهيئ سد مولاي يوسف، وسيعين سنة 1974 رئيسا للشعبة التقنية لإدارة الطرقات .. ثم رئيسا لدائرة الأشغال العمومية والتواصل بالرباط، وبعد محطة المسيرة الخضراء سيعين بلفقيه منسقا عاما لوزارة الأشغال العمومية في الأقاليم الصحراوية و بهذه الصفة وضعت أمامه الملايير الخاصة بصرف ميزانية التجهيز في هذه الأقاليم المسترجعة لكنه أصر في هذه الظرفية الخاصة على أن يتم تعيين مراقبة يتابع ويراقب ويفصل ويصادق أو يعترض على صرف هذه الميزانية المحترمة جدا، وعند عودته إلى الرباط سنة 1978 عين مديرا عاما لوزارة التجهيز والإنعاش الوطني ثم بعدها مديرا للطرق والمواصلات الطرقية. وفي سنة 1993 سيعين وزيرا للفلاحة ثم وزيرا للأشغال العمومية والتكوين المهني و تكوين الأطر ثم وزيرا للفلاحة والتجهيز والبيئة ثم مستشارا ملكيا... هكذا كان عبد العزيز يصنع اسمه في تقاطع مع صناعة النجاح في المهمات الكبرى، فلا أحد ينكر أن ترأسه للجنة الملكية لإعداد مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين قد أعطى نفسا جديدا وقويا نسبيا لإخراج قطاع التعليم من النفق المسدود الذي كان قد وصل إليه، كما أن حضوره إلى جانب أوريد ومحمد شفيق وبنمنصور... قد ساهم بشكل ملفت في إخراج تشكيلة المجلس الإداري للمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية إلى حيز الوجد، بالإضافة إلى مهام ثقيلة أخرى كترأسه لجمعية محمد السادس لرجال التعليم وتكليفه بتهيئ مشروع أبي رقراق ومشروع تطوان أطلنتيك وملف الاستثمار الخليجي بالمنطقة الحرة قرب سبتةالمحتلة. إذا كانت حياة عبد العزيز مزيان بلفقيه السياسية كما يزعم الكثير من منتقديه حياة تفتحت شهيتها لامتلاك السلطة بواسطة نسج العلاقات وهندسة الحكومات واستوزار بعض الوزراء، فإنها مع ذلك لم تتلظخ بخيانة ولم تتفتح شهيتها لجمع المال بالرغم من وجود في فترة السبعينات والثمانينات بوزارة الأشغال العمومية التي تحولت حسب المتتبعين إلى أم الوزارت التي تدبر عشرات المؤسسات بملايير الدراهم كانت منبع اغتناء الكثيرين وتلك ميزة نعتقد أنها صاحبت الابن التاوريرتي المهندس ورئيس المصلحة والمدير العام والوزير والمستشار الملكي... المتتبع لمسارات الوجود من حياة السي عبد العزيز رحمه لله، يدرك أنه لم يحاول أبدا استغلال منصبه وسلطته في استفادات شخصية أو عائلية بمدينته الأصلية في الوقت الذي كانت فيه مدينة تاوريرت مصدر اغتناء لكثير من المسؤولين الجماعيين وأباطرة الأراضي السلالية والأحياء الصناعية... بل إن الطلب الذي تقدمت به جمعية قدماء تلامذة تاوريرت التي كان يرأسها السيد عبد العزيز إلى المجلس البلدي السابق من أجل تفويت المسبح البلدي للجمعبة قصد استغلاها ناديا لها قد قوبل بالرفض وذلك مؤشر آخر على تفهمه وتغلبه لمنطق الحوار... طوال هذا المسار السياسي والإداري سيكون الاسمنت المسلح لعبد العزيز بلفقيه هو احترامه للكفاءات واكتسابه لعلاقات طيبة مع الحزبيين والمعارضين فقد كان وراء استقدام العديد من الكفاءات من بينهم الوالي الحالي للجهة الشرقية محمد امهيدية، وجلس لأعضاء قياديين في حزب العدالة والتنمية مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية التي سبقت حكومة جطو وكان مع استوزار كريم غلاب وعبد الكبير زهود من الاستقلال وخالد عليوة، والحبيب المالكي من الاتحاد الاشتراكي. فمن التجني عليه وعلى ما تركه إن استشهدنا بنماذج بعينها من محطات حياته العملية، إذ يمكن ودون تردد أن نرى في مجمل سيرته ملحمة واحدة، ملحمة اختزلت صراع الوطن ضد موجبات التخلف وتوقه إلى وضع تكون فيه الكفاءة والجدية والإخلاص عنوان المرحلة، وبهذا المعني فهو سيكون الحاضر فينا بالرغم من غيابه الجسدي، كلما ذكرت الرزانة والاستقامة وحب الوطن. فهو إذن قامة سياسية سامقة تركتنا فجأة وغادرت، وقامة عالية مثقلة بالوطنية وجميل الخصال، ولقد كانت برقية التعزية التي بعث بها صاحب الجلالة إلى عائلة الفقيد تستحضر جملة من خصاله العالية، ويكفي التاوريرتين وسكان الجهة الشرقية فخرا أن هذه البرقية الملكية التي تلاها المستشار الملكي محمد معتصم بمقبرة تاوريرت، قد أثنت على هذا الإبن التاوريرتي البار بعبارات ستبقى خالدة، يتغنى بها أبناء هذه المنطقة كلما تذكره المتذكرون، أو تجاهله المتجاهلون، فقد استحضر جلالة الملك في هذه البرقية “بكل تأثر وتقدير، ما عهدناه في شخص الفقيد العزيز، كأحد مستشارينا الأوفياء، من خصال إنسانية نبيلة، شهامة وإباء، وتحملا للابتلاء، وتبصرا وأناء، واستقامة ورزانة، ومن المؤهلات الرفيعة لخدام العرش الأصفياء"، مضيفا أن المغرب فقد برحيله “أحد أبنائه البررة" ورجلا من رجالات الدولة الكبار، الذين قلما يجود الزمان بمثلهم، لما هو مشهود له به من كفاءة وتجرد وإخلاص في أدائه للواجب المهني، مكرسا حياته لقضايا الوطن بنظر حصيف، ومشورة صادقة، ووفاء مكين لمقدساته وثوابته". سيظل الراحل الكبير، يضيف جلالة الملك، خالدا في ذاكرة جلالتنا، وفي السجل الذهبي لتاريخ المغرب، بما أسداه لوطنه من أعمال مبرورة، وخدمات جليلة، في كل المسؤوليات السامية، التي أنيطت به، مستشارا نصوحا، لجلالتنا ولوالدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، أكرم الله مثواه، ووزيرا مخلصا في عدة حكومات وقطاعات، مؤديا بأمانة وحكمة وحنكة، وخبرة واسعة، وتفان نكران ذات، وتواضع لله، ما أنيط به من مهام وطنية كبرى. فكان نموذجا لجيل جمع بين الغيرة الوطنية الصادق والمواطنة الملتزمة". وتكاد تجمع كل البرتريهات التي ترسم للمستشار الملكي، الابن التاوريرتي أنها تلتقي عند الجدية والهدوء والاتزان والانضباط والصدق في العمل، ولا تزال بعض المواقف السياسية لهذا الرجل شاهدة على جملة من هذه الصفات فقد أكدت مصادر إعلامية أن المرحوم عبد العزيز عندما كان وزيرا للفلاحة على عهد جلالة الملك الراحل الحسن الثاني عارض مدير ديوانه حول الصورة الوردية التي كانت تراد أن ترسم لقطاع الفلاحة، فالسيد عبد العزيز كان متيقنا أن قطاع الفلاحة مليء بالمشاكل وجيوب المقاومة وكان أيضا متيقننا أن حل مشاكل هذا القطاع ليست بالأمر الهين، وبذلك فاق مدير ديوانه في الوضوح والواقعية، بل انتصر على كل الأبواق التي تريد اجترار نفس الأسطوانة التي شاعت يومها ومطلعها “كولو العام زين". لقد قيل قديما من الشرق تأتي النبوءات كما السموم، وشرق المغرب أنجب العديد من الشخصيات الوازنة على الصعيد السياسي والاقتصادي والثقافي والتحرري لكن نموذج مزيان بلفقيه يبقى نسيج وحده، وتظل طينته خاصة كرست مرة أخرى تلك المتمثلات المحفورة في الذاكرة الشعبية المغربية التي تربط بين أبناء شرق المغرب وبين صفات الإخلاص والوطنية والدقة والصبر، فبالرغم من المرض الذي ألم به منذ أكثر من سنة فقد قاومه بعزيمة قوية ولم يمنعه من الوقوف على أكبر الملفات الشائكة التي كان يتتبعها، فحتى وهو على فراش المرض كان يبوح للذين زاروه وعادوه أن قضية التعليم قضية شائكة ومعقدة لا يمكن حلها إلا بتطور ودمقرطة المجتمع، والدولة، أن الخوف كل الخوف على المدرسة المغربية من مزيد من انهيار قيم المجتمع، ولنقل إنه مات وفي نفسه شيء من المدرسة المغربية، وشيء من المجتمع المغربي. فهذا عبد العزيز مزيان بلفقيه الذي أبدع في العديد من المشاريع المصيرية للوطن، وآراؤه تدخل القلب ثم العقل، هذا هو المرحوم، وطنه هو الشجر الأخضر الذي لا يموت.